أصابت الجريمة النكراء التي سقط بموجبها عدد معتبر من القتلى والجرحى في صفوف الجيش التونسي، والتي تبناها تنظيم أنصار الشريعة المحظور والمصنف في خانة التنظيمات الإرهابية، التونسيين بالصدمة والذهول. فللمرة الأولى – بعد معركة الجلاء ببنزرت، التي خاضها الجيش التونسي الفتي المستقل، أوائل ستينات القرن الماضي، ضد القوات الفرنسية، لتحرير قاعدة عسكرية شمال البلاد أرادت فرنسا الاحتفاظ بها بعد استقلال تونس ـ يسقط هذا العدد من القتلى والجرحى في صفوف هذا الجيش، الذي تمرس على مهام حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وأنجز مهماته بنجاح في الكونغو وكمبوديا وهايتي وساحل العاج ورواندا وغيرها.
فالجيش التونسي وإن لم يكن من الجيوش الكبرى في المنطقة من ناحية العدد والعتاد – وذلك بفعل سياسة توخاها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، تمثلت في الإنفاق على التعليم ورصد نصيب الأسد من ميزانية الدولة لتكريس التعليم العمومي الإجباري والمجاني واقعا ـ إلا أنه على مستوى الأفراد جيش محترف وعناصره على درجة عالية من الكفاءة، يتلقون تدريبهم ويجرون مناوراتهم مع كبرى جيوش العالم. وحتى فرقه الخاصة مشهود لها بالكفاءة وتحتل مراتب متقدمة عالميا، وفقا لتصنيفات جهات مختصة، وهو ما يفسر، إلى جانب عوامل أخرى، بقاء تونس عصية على الجماعات الإرهابية في المنطقة طيلة عقود، إلى أن جاءت فوضى الإطاحة بنظام بن علي وما تبعها من انهيار لبعض المؤسسات وحل لأخرى، فاستبيحت البلاد من هذه الجماعات وسارت على خطى جيرانها.
ويشهد القاصي والداني بوطنية الجيش التونسي واستعداد عناصره للتضحية بأرواحهم في سبيل الوطن، وتاريخه يشهد بذلك. فهو وريث جيش قرطاجي عريق، ساد لقرون في البحر المتوسط وخضعت له أغلب شعوب غربه، وذاد عن أرضه في أواخر عهد هذه الإمبراطورية وإلى الرمق الأخير بوجه دولة الرومان التي كانت في عنفوانها. كما كان هذا الجيش خير سند للعثمانيين خلال حروبهم الكثيرة، ومن ذلك حرب القرم التي أبلى فيها البلاء الحسن. وخاض ملاحم تستذكرها الأجيال المتعاقبة ضد الجيش الفرنسي المستعمر، ولم يدخر جنوده حبة عرق في سبيل تحرير بلادهم من براثن الاستعمار.
كما كان هذا الجيش، ورغم إمكانياته المحدودة في ذلك الوقت، إلى جانب أشقائه في أرض الكنانة في عبورهم وكسرهم لخط بارليف في رحلة استعادتهم لسيناء. وكم شعرت بالفخر كتونسي وأنا أعبر قناة السويس باتجاه سيناء، لأزور موقع «تبة الشجرة» المصري، الذي كان يخضع للاحتلال الإسرائيلي قبل أن يتم تحريره من قبل القوات المصرية الباسلة، وأحد كبار الضباط المصريين يحدثني عن مساهمة الجيش التونسي في حرب 1973 جنبا إلى جنب مع أشقائه، بما أوتي من إمكانيات وهي معلومة أكدها لي الملحق العسكري في السفارة المصرية في تونس ويجهلها أغلب التونسيين.
وتربى هذا الجيش على عدم التدخل في الشؤون السياسية، وبقي استثناء في محيطه مشرقا ومغربا، وهو ما أهله للحفاظ على استمرارية الدولة بعد انهيار نظام بن علي، حيث أشرف على تسيير المرافق العامة والامتحانات والمناظرات الوطنية وحفظ الأمن بمعية الشرطة والحرس الوطنيين طيلة سنوات ثلاث عاشتها البلاد في حالة طوارئ، واعتنى باللاجئين اللليبيين والأجانب الذين تدفقوا على تونس خلال معارك القذافي مع ثواره. لذلك يرجح البعض فرضية تراجع أدائه مقارنة بما كان عليه في السابق نتيجة لحالة الإرهاق التي أصابت عناصره خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث تم استنزافه، الأمر الذي انعكس سلبا على عملية تطويره لقدراته من خلال الدورات التكوينية والمناورات وغيرها. لذلك فإن تشكيك البعض في وطنية هذا الجيش وتحميله مسؤولية تفشي الإرهاب بتخاذله، وهو الذي يدفع الشهداء من أبنائه، أمر لا يستقيم بالنظر إلى تاريخ هذه المؤسسة ومنجزاتها. فحتى البنى التحتية من طرقات وجسور ومنشآت ساهم الجيش في إنجاز الكثير منها في تونس، وفي تطوير البعض منها، خاصة في المناطق الحدودية والأقاليم الصحراوية جنوب البلاد.
ما من شك في أن هناك فشلا استخباراتيا تونسيا أدى إلى نجاح القوى الظلامية في تحقيق مبتغاها، باستهداف جنود الخضراء غدرا. فبعد «الثورة» تم تفكيك أجهزة كانت تعمل في إطار ما كان يعرف بـ»البوليس السياسي» وكانت هذه الأجهزة فاعلة في مجابهة الإرهاب. كما تمت إقالة قيادات أمنية بارزة بتعلة تواطئها مع النظام السابق في قمع «الثورة» رغم أن هناك مبدأ عاما مفاده أن الرئيس مسؤول عن أفعال المرؤوس، ما ينجر عنه أن القيادة السياسية هي المسؤولة عن الانتهاكات الأمنية دون سواها، لأن الأمنيين أعوان تنفيذ لا غير ومن واجبهم طاعة الأوامر.
كما يدفع الجيش الوطني التونسي الباسل ضريبة تراخي حكومتي العريض والجبالي مع هذه الجماعات التكفيرية، الأمر الذي مكنها من تركيز قواعدها وتهريب الأسلحة من الخارج، خصوصا من ليبيا. فقد كان زعيم تنظيم أنصار الشريعة المكنى بـ»أبي عياض» قاب قوسين أو أدنى من أن يقع في قبضة الأمن التونسي، لكن التعليمات جاءت بإخلاء سبيله والكف عن محاصرته بجامع الفتح بالعاصمة الذي كان يتحصن به. كما حذرت بعض وسائل الإعلام بصورة مبكرة من وجود جماعات تتدرب في جبل الشعانبي، فكان رد وزارة الداخلية أن الأمر يتعلق بشباب يمارس الرياضة في شعاب الجبال، ونعت الإعلام التونسي الذي يروج لهذه الأخبار من قبل قواعد وأنصار حركة النهضة بـ»إعلام العار»، وشنت عليه حملات واسعة باعتباره يروج لأكاذيب ويختلق فزاعة هدفها ضرب «الثورة» والانتصار لـ»الثورة المضادة».
ومن المؤكد أن الإرهاب في تونس لن يتم القضاء عليه حتى لو تم تجهيز الجيش بأحدث وأعتى أنواع الأسلحة، مادامت شريحة مهمة من أبناء الشعب التونسي حاملة للفكر التكفيري ولا تؤمن بثقافة الاختلاف. فالمرء لا يكاد يميز على مستوى القواعد (لا القيادات) بين المنتمين إلى تيارات الإسلام السياسي «المعتدلة» والتكفيريين، فهناك خيط رفيع يفصل بين الجانبين يصعب أحيانا استجلاء ملامحه، فكل فرد من هؤلاء قد يكون قنبلة موقوتة قابلة للانفجار إذا توفرت الظروف الملائمة لذلك. كما أن الإرهاب سيواصل ضرب تونس وبقوة مادامت الأوضاع في ليبيا المجاورة غير مستقرة، خاصة أن التكفيريين هناك لهم امتداداتهم هنا، نظرا للارتباط الوثيق بين الشعبين المتجاورين. وتعتقد هذه التنظيمات في كلا البلدين أن هذا العصر هو عصرها لفرض رؤاها على الناس، بعد أن تم التخلص من الديكتاتوريات وتسعى جاهدة لاستغلال هذا الظرف الاستثنائي من «الفوضى الخلاقة». فهي لا تعترف بحدود، وكل أرض وجد بها مسلم هي أرضها، وهو ما يفسر وجود تونسيين ضمن إرهابيين اعتدوا سابقا على عناصر من الجيش الجزائري، والحديث عن وجود جزائريين ضمن الخلية التي استهدفت مؤخرا الجيش التونسي. لذلك فإن ما صدح به البعض عن «تقصير» من الجيش الوطني في حماية البلاد وعجزه عن القضاء على الإرهاب هو كلام عبثي ومردود على أصحابه. وما على التونسيين إلا الالتفاف حول هذه المؤسسة العريقة ودعم جهودها ومزيد تسليحها لتكون الدرع الواقي للخضراء، كما كانت باستمرار.
٭ مدير المعهد العربي للديمقراطية ـ تونس
ماجد البرهومي
من حسن حظ التونسيين أن الجيش لم يتورط في ظلم الشعب في عهد الرئيس المخلوع بل بالعكس وقع تهميشه و الاعتداء عليه في قضية -براكة الساحل المشهورة-.بينما الأمن حظي بأفضلية لدى المخلوع ليقمع به خصومه مما جعله يتفوق على نظرائه في البلدان العربية و ما اجتماعات وزراء الخارجية العرب بتونس الا دليل على ذلك.