الجيل الثالث للمعارضة الجزائرية والبحث عن سلطة السياسة

حجم الخط
3

■ استأثرت ندوة الانتقال الديمقراطي التي نظمتها في اليومين الماضيين التنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي، بمدينة زرلدة باهتمام واسع من قبل الملاحظين السياسيين، سواء داخل البلاد أو خارجها، كونها جمعت فرقاء ايديولوجيين وسياسيين لم يكن يُتصور أنهم سيتجمعون في موعد متفق وعلى طاولة حوار ونقاش واحدة، حتى لو كان صلف السلطة هو الذي يقف خلف تناسيهم خلافاتهم الايديولوجية والسياسية، لكن القراءة في نظرنا، التي يستحقها مثل هكذا حدث ينبغي أن تتجاوز سقف واقعة الاجتماع والتلاقي، لتغوص في عمق الاشكال التاريخي الذي حال دون عقد مثل هاته الندوة في ما مضى، ومدى تأثير التحولات الذهنية والفكرية والسياسية في الجزائر في ظهور مبادرات من هذا النوع.
لعل أبرز ما يمكن أن يسجله الملاحظ السياسي من خلال المسعى الكامن خلف عقد مثل هذه الندوة بشاكلتها الاستثنائية تلك في تاريخ السياسة بالجزائر، هي لا شك الرغبة في الخلاص من شكلية الحضور التعددي بالمشهد الوطني، الذي كان يُفرض في أحقاب متوالية على السياسي الجزائري بدعاوى مختلفة أبرزها، المصلحة العليا للوطن بمختلف أطوارها ومواضيعها، حيث ظهر جليا التشبع بالخطاب المؤامرتي لدى كل مكونات الساحة السياسة الوطنية، حتى اقتنع بعضها نضجا بالتجربة، ووعيا بالمسؤولية، أن استمرار الاصغاء لدعاوى حماة الوطن والوحدة الوطنية في زمن تفجر المعلوماتية وبزوغ ظاهرة الويكيليكس، سيجعل من الجميع اضحوكة الأجيال القادمة، لأنه وباسم مصلحة الثورة التي أنجبت الوطن، صودرت الحريات والحقوق السياسية، ثم باسم مصلحة الوطن، أُممت السياسة وأخرس الصوت الآخر إلى الأبد، وفي العشرية السوداء باسم مكافحة الارهاب أُضعفت التعددية، وعليه يظل من أبرز مهام التكتل الوطني للمعارضة، المطالبة بالعودة إلى السياسة ونشاطها النقي التعددي القائم على المنافسة الحرة والنزيهة المؤسسة فعلا للمجتمع السياسي المنشود. لقد امتهنت الدولة في العشريتين الماضيتين كل الامتهان، وصار الاتجار بالذمم بيعا وشراء السمة الطاغية على نشاط السلطة، وهي تحتوي المجتمع بشكل اقتيادي تجاوز في وحشيته وخطيئته أساليب الدكتاتورية القمعية التي ألفها الناس في النظم العسكرية المباشرة، إذ صارت مؤسسات الدولة، التي كانت، على علة دورها في حقبة استبداد السبعينات، ذات مهابة وقيمة، في متناول كل من هب ودب يشتري بأبخس الأثمان في سوق النخاسة السياسي، أثمان تدفعها البورجوازية التي تأسست في ظلمة عشرية الدم بشكل فطري، ليتجلى بعدها دورها المفضوح في اغراق الساحة السياسة بوجوه غريبة عن الحقل وعن الحق، وما يجري داخل الهيئات المنتخبة من كوميديا تمثيلية لأبرز دليل على الحالة المزرية التي بلغها عمل الدولة المؤسساتي. من هنا دعت الحاجة إلى عودة المعارضة من جديد إلى جادة الصواب بالعمل على تصحيح مسار العمل الوطني المفضي حتما الى تطهير الحقل السياسي من الدخلاء والدهماء، وردع دوائر السلطة الخفية عن الاستمرار في أداء دورها المسرحي الساخر في السياسة.
كما يبدو أن عدم قدرة قوى الداخل منفردة عن ردع تجاوزات السلطة على كامل الصعد الاجتماعية والثقافية، لا سيما الاقتصادية، كانت من أكبر دوافع التجمع وتجسيد دور المعارضة الفعلية المنفلتة من قبضة الاغراءات، خصوصا مع الدعم الكبير الذي صارت تلقاه السلطة من قوى الخارج التي باتت ترى فيها الراعي الأمثل لمصالحها، سواء أكانت هذه القوى دولا أو مؤسسات، في خضم تفجر سلسلة من الفضائح المالية التي جاءت ثمرة مرة لانعدام الرقابة الحقيقية على مقدرات الامة عبر مختلف مستويات ما يسمى بالتمثيل الشعبي وآليات المتابعة والمقاضاة الجنائية للعابثين بتلك المقدرات.
فالانزلاق بات وشيكا إن لم تتدارك الضمائر الحية الوضع، عبر التداعي الجمعي لمشروع إنقاذ وطني تتحمل من خلاله كل القوى الوطنية مسؤوليتها التاريخية، من خلال الدعوة والدفع لتفعيل آليات العمل السياسي الصحيح، وإعادة الاعتبار للسلطات واستقلالها كي تؤدي دورها بشكل صحيح.
كما يمكن ايضا قراءة اجتماع زرالدة الأخير، على أنه مراجعة ذاتية للقوى الوطنية، بعد ظهور سلبي أحيط بتجربتها الأولى في العمل السياسي لفترة ما بعد أكتوبر، حين رامت كل قواها الحلول محل السلطة والهمينة على آلياتها في الاستحواذ على المؤسسات والمقدرات، بدلا من التأسيس لعهد جديد، يكرس ثقافة التعددية وعدم الاقصاء ونبذ طغيان فكر الاكثرية القاعدية، وهي كلها سلبيات اسست عليها السلطة دوما قوتها عبر منابر الدعاية لتوجهاتها، مستغلة في ذلك الفراغ التواصلي الاتصالي في ما بين كل شركاء المشهد السياسي الوطني، فتجاوز المعارضة عقدة التمايز الايديولوجي وتمترسها الطويل خلفه، أسس لعهد جديد، عهد يمكن نعته بالصحوة الوطنية، التي يرتقب أن تعيد الأمور إلى نصابها آجلا أم عاجلا، شريطة أن يظل الوفاء لمبدأ التعددية واستدامة الطموح لتكريسها.
وأخيرا يتضح من واقع حال المشهد السياسي المتمخض عن انتخابات رئاسية غريبة الاطوار والأدوار في تاريخ الجزائر الحديثة، أن ثمة تحول على صعيد الوعي بحتمية الانتقال في العمل السياسي الوطني من حيز الوصاية وطروحات القلق الوطني اللذين دأبت السلطة الاستقلالية، أي التي استحوذت على مقاليد الحكم عبر جماعة وجدة تروج لهما وبهما دوما ترجئ كل مساعي الانتقال الطوري والتلقائي السلس في عمر السياسة بالجزائر، إلى مرحلة تبني العمل التعددي السياسي الصحيح والفعلي داخل وخارج المؤسسات الرسمية، بما يتيح للدولة تجنب الانهيار والسقوط الحتمي بفعل غزو اصحاب المال الوسخ والمصالح لمؤسساتها تلك.
هو إذا وعي متجدد لجيل سياسي معارض جديد، يمكن وصفه بالجيل الثالث، إذا ما احتسبناه خلف الجيل الأول للحركة الوطنية، ثم الجيل الثاني، وهو جيل ما بعد احداث أكتوبر 1988 الذي أخفق في مواجهة مشروع السلطة لتكريس تعددية شكلية بعد إيقاف المسار الانتخابي سنة 1992، جيل يريد أن يعيد المعنى الحقيقي للممارسة السياسية التي طمرتها وجرفتها سيول المال القذر لعقدين من الزمن، بعد أن كان جهد سلفه من الجيلين السابقين ينحصر في سؤال شرعية السلطة، هاته الأخيرة التي رغم مستويات التغيير الحاصلة في معسكر المعارضة لا تزال رافضة لحتمية التحول نحو جمهورية ثانية، حلم ينشد الجميع أن يرى عبره السلطة تتأسس من جديد ومن دون شرعيات مسبقة ومصطنعة، فقط بشرعية الصندق الانتخابي لا غير.

٭كاتب صحافي جزائري

بشير عمري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ريما كمال - الأردن:

    مقال في غاية الأهمية ويصلح كنقطة انطلاق لكافة الدول العربية لأن الهمّ واحد، والسلطة المتجبرة والفساد واحد. حمى الله الجزائر الغالية من كل سوء

  2. يقول جنا:

    مقال اكثر من معبر، أحييكم كتاب الجزائر لدقة اللغة عندكم في التعبير عن الواقع..

  3. يقول حسين فيلالي:

    قراءة ذكية لتاريخ الجزائر السياسي. عودنا الكاتب عمري بشير على تشريحه للواقع الجزائري وللحركات السياسية بالجزائر . نتمنى أن نقرأ جديد كتاباتك .ايها الكاتب المتميز.

إشترك في قائمتنا البريدية