أُسدل الستار نهاية الأسبوع الماضي على مساعي الوساطة الأفريقية/الأممية المشتركة برئاسة الرئيس ثابومبيكي، الرامية إلى بحث إشكاليات الأزمة السودانية المتوقفة والمتمحورة راهنا بين الرئيس السوداني وقوى الشعب السوداني في مقر الاتحاد الأفريقي في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، بنتيجة هي بالكاد صفرية على مستوى المسار التفاوضي الذي جري بين قوى الجبهة الثورية السودانية والحكومة السودانية.
وفيها أحرج الرئيس السوداني وفده المفاوض، الذي تبين أنهم مفاوضون بدرجة «سياح» في أديس أبابا، لا يمتلكون شيئا من صلاحيات أوتفويض ليتفاوضوا حوله أوعليه مع الخصم، غير تكرار الأدب السياسي القديم، المتمثل في مثلث الاستيعاب أوالإلتحاق أوالاندماج كتقنية سياسية تفاوضية، استمرت أكثر من عقد. وهوالشيء الذي دفع بالوساطة إلى إرسال رسولها للرئيس السوداني ليطلب منه منح وفده حق التفويض، فاعتذر الرئيس السوداني للوساطة، ليعود الوفد الحكومي من رحلته السياحية. هذا في الشق الأول من طاولة الوساطة الأفريقية الأممية.
أما في الشق الثاني، فعرف المنبر حراكا سياسيا وطنيا، أشبه بمؤتمر سوداني دولي لحل الأزمة مع الرئيس السوداني، جمع العديد من قوى الشعب في مكوناته المدنية والعسكرية وفعاليات المجتمع المدني، بموازاة أشغال بورصة التفاوض الجارية في الشق الأول، أسفرت عن العديد من التفاهمات المعلنة وغير المعلنة، وكذا توقيع «نداء السودان» كوثيقة سياسية تأتي بعد «إعلان باريس»، لتشكل الوثيقتان وما تحويهما من تفاصيل، مرجعيات سياسية توافقية وغطاء سياسيا وطنيا مطلوبا لإدارة الأزمة، وتغطية سياسية لما قد ينتج من أفعال في الأمد المنظور مع قوى «التمرد»، التي يقودها الرئيس السوداني في وجه الوطن وشعبه، بعدما احتكم نهائيا في ما يبدو على القوى الأمنية والميليشياتية في شرعنة قهره وبقائه. نشير إلى أن فعاليات أديس أبابا كان ينقصها الرئيس السوداني كطرف في الأزمة والمدعي الجنائي الدولي كطرف آخر.
على خلفية «إعلان باريس» و»نداء السودان»، يكون العنوان الأبرز في دولاب العمل الوطني السوداني المعارض هو تفكيك نظام الرئيس السوداني وصناعة السلام وإنهاء الحرب وتكريس الدولة الديمقراطية، كاستحقاقات وطنية تمثل اليوم أحد أهم الأجندات الوطنية لمجموع القوى الوطنية في شقيها السياسي المدني، والعسكري في نقلة نوعية تطمح لإدارة حوار وطني بآليات شفافة ومحايدة تقوم على التعريف بماهية هذا السودان وأزمته العضوية، ومن ثم جدلياته المتناقضة لحل بنيوي لمتن الأزمة في مفاصلها التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية، الواقعة محط «بزنس» البشيريين الذين ما انفكوا يعتاشون عليها باسم احتكار الإله وتفويض «السماء السياسي»، للسيطرة على مقدرات الأمة وسرقتها سرقة موصوفة وعلنية.
واليوم سودانيا ظاهرة الإسلام السياسي في الحكم السوداني لا تعني للشعب السوداني، ومن دون اجتهاد، غير السرقة والفساد والتعذيب، لحماية امبراطورية الفساد برئاسة البشير، غير المسبوق في الحرب والقتل والسحل والاستعداد لارتكاب كل ما يخالف الله، وفي الوقت نفسه ممارسة التجارة السياسية الرابحة باسمه.
ضمن هذا المنظور لعل الاستفهام الذي هو ذاته محل استفهامات أخرى هو اتفاق تلك القوى على تفكيك نظام الحكم عبر آلية النضال الجماهيري السلمي اليومي، لبلوغ «الثورة» الوطنية الجماهيرية الشاملة، بمعنى التغيير الجذري في كل البنى، وليـــس بمعنى «الانتفاضة»- كفعل محدود- يرمي إلى عملية إحلال واستبدال منظومة التمركز المهيمنة نفسها بواحدة أخرى لأغراض الشرعنة نفسها، وهي نتيجة إن تم اختبارها واقعيا نجدها تتعارض مع الاستحقاقات الوطنية التاريخية، التي يجب أن تقع، وهو محل الإشكال الخفي في اللعبة السودانية أو بين النخبة السياسية السودانية متمركزة ومحيطا.
المقاربة التي توصلت إليها هذه القوى المعارضة لإدارة صراعها مع نظام الخرطوم لتفكيكه، هي ميكاينزم «السلمية» عبر الحوار للحل الشامل أو الأدوات الجماهيرية، بما فيها العصيان المدني. ولنا هنا أن نتساءل طالما أن هذه الآلية ظلت محل تباعد أو تقارب هذه القوى، في ما مضي، بل الأكثر كانت محلا «للمناورة» وخطابا تستعمله القوى المدنية في وجه القوى العسكرية المسلحة، ومن الأسئلة مثلا، من يمتلك أدوات هذه السلمية وتحقيقها ميدانيا وضمان نتائجها؟ وإلى أي مدى يستجيب الشارع السوداني في ظل حالته الواقعة محل استقطاب سياسي جهوي وعرقي ومصالحي، مع نظام الحكم لنداءات هذه القوى؟ وهل هذه القوى تستند إلى أرضية جماهيرية حقيقية أو افتراضية، في ظل معامل خلل المصداقية والثقة والهوة، إنه محك عملي واختبار وتجريب لهذه القوى التي ما انفكت تنادي بالسلمية، وهي آلية عقلانية للخلاص في الحالة السودانية، وتبريرها مفهوم، لأن القوى المدنية الحزبية ترى أن التغيير العسكري المسلح قد ينجم عنه عمل مضاد وعكسي من طرف قوى الهيمنة التي يتزعمها ويرعاها حكم الجنرال البشير، الذي وضع السودان وشعبه محل غنيمة «سماوية» لتحقيق منافع وطموحات ذاتية على الأرض. وما بين الإسقاط المسلح والقوى العكسية المضادة للحكم قد تسقط مؤسسة الدولة ذاتها في حالة شبيهة بسوريا أو ليبيا المجاورة، وهو محل تخوف القوى الوطنية المعارضة ومحط ابتزاز نظام الحكم لها، لتؤكد القول القائل، إما نحن أو انهيار مؤسسة الدولة، موقع الصراع بين الإرادات المجتمعية لمكونات البلاد. والله غالب على أمره وحكمته وقدره.
يقع هذا في ظل مقاربة أخرى ثابتة للبشير، تبينت بشكل لا غبار عليه في مفاوضات أديس أبابا وتصريحاته التي جاءت متزامنة مع أشغال المفاوضات، هذه المقاربة هي أمنية عسكرية قحة لحسم الصراع مع قوى «التمرد» الوطنية، من أجل الدولة، جاءوا من الأحزاب الوطنية أو قوى المقاومة الوطنية، وذلك لفائدة بقاء قوى «التمرد» العاملة ضد الدولة والمواطن برئاسة البشير، الذي يستعمل الجميع لحماية وحصانة نفسه، إنه مجرم عالي الاحترافية حول الدولة لمؤسسة مكتملة في رعاية الفساد ونهب الأموال. من من أصحاب اللحى لا يمتلك العمارات والعقارات والأموال المودعة في الخارج، ومن يعرف ميزانية الدولة التي توظف لأغراض الرشى وتأمين مصالح الجمهور الفاسد العامل مع المؤتمر الوطني، موزعين في مؤسسات دركية لحمايته واستمراريته، البشير لا تسقطه السلمية وسوف يستمر ويعيد ترشيح نفسه وديكتاتورية، ما لم تنهج آليات جديدة ونوعية للقضاء عليه، وبالطبع انهيار حكمه ساعة نهايته، مثل الوطني الحاكم في مصر يوم تقدم مبارك باستقالته. كلها معطيات تتطلب حسم الخيارات في ظل مقاربة الحكم العسكرية لنظامه، وعدم وضوح شماعة السلمية، لا يهم، فيها يقول إجمعوا توقيعاتكم، لا تفاوض ولا حوار، ولا أريكم إلا ما أرى، والميدان هو الفصل وتجدونها عند الغافل! وقبل إرسال المقال تم اعتقال كل القيادات الموقعة على «نداء السودان» في الخرطوم كما جاءت في الأخبار.
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
محجوب حسين