الخريطة الأبدية للعالم

■ إنها وليدة التاريخ وحركته: تتحدد ملامح خريطة العالم وفق الزمن والمكان والظرف والأيديولوجيا وعصب الحرب: المال. تتحدد وتتشكل وتتحول، لكن الجوهر قائم، فللعالم خريطته الأبدية، إنها خريطة مناطق نفوذها.
لطالما سمعنا عن مناطق نفوذ دول منطقة الخليج وتمويلاتها، ولقلما، في المقابل، سمعنا عن خطوة مماثلة إيرانيا. فما الذي يفسر الصعود الإيراني إلى دوائر التأثير هذه بمثل هذا الشكل القياسي؟ وما مصلحة إيران في ممارساتها الاختراقية متعددة الأذرع التي باتت شغلا شاغلا يملأ دنيا رجال أعمال ومستثمري بلاد فارس؟
أولا، كسب الأصدقاء وصنع اللوبيات مفتاح الفوز بالقوة الآهلة لإثبات مواقف وازنة على الساحة الدولية. والبروز على الواجهة دوليا يستدعي من الطرف المعني عتادا أيديولوجيا جديرا بتحريك هذه المواقف. ومادامت إيران دولة مرت بفترة حظر وعقاب عمّرا طويلا، فلم يكن مدهشا أن تظهر في حلة طرف من أطراف «تحالف الضعفاء» الذي شكل كتلة من الدول أثبتت نفسها في الواجهة كـ»طريق ثالثة» إيمانا منها بأن الاضطهاد – الاقتصادي أساسا- متى التقت ضحاياه، أمكن لها اكثر خوض غمار المواجهة، عملا بمنطق «الاتحاد قوة».
من هنا لم يكن غريبا أن تنحو الجهات الإيرانية المؤثرة ماديا منحى التقرب من الحراك الثوري الجنوب أمريكي بمفهومه المعادي لليبرالية.. ولم يكن غريبا بالاستتباع أن يكون القطاع الليبرالي الإيراني الأداة النافذة للانخراط في المشاريع السياسية المعادية لليبرالية.
ومن هذا المنطلق، نفهم أكثر كيف تتخذ دورة التمويل بشقيها، الأخذ والعطاء، صيغة همزة الوصل بين مختلف الجهات النافذة لمشروع ثوري اقتصادي جديد تقوده إيران ويتركز في رسم ملامح انحياز من انتمى تاريخيا إلى فئة غير المنحازين.
لا يحرك طرحنا هذا تأثير المسلك التاريخي لمجموعة دول عدم الانحياز – التي كانت إيران عضوا فيها – بقدر ما يحركنا ما هو جدير بتسمية العقلية غير المنحازة التي ظلت تعلو على آنية الحدث التاريخي. العقلية غير المنحازة.. حركية تتعالى على الحركة السياسية بزخمها الماثل أمامنا كالسديم الذي يحس ولا يرى، حركية المضطهدين في الأرض، صوت من لا صوت له، منبر من لا منبر له.. وكأن إيران أعادت إلى الوعي الجمعي ركام مكبوتات لا وعي جمعي آخر صارت حاملة مشعلها فأبرزت قوتها الناعمة أمام الملأ. طبعا، صارت تستدعي قيادة «حركة المضطهدين في الأرض» ضوابط ألفية ثالثة لم تعد عاملة وفق نبراس منتصف القرن الماضي، وعليه لا نتفاجأ من تغلغل تأثير مؤسسة إيرانية إعلامية داخل حركات سياسية ناشئة ذات قدرة على تحريك الجماهير مثل، حركة بوديموس الإسبانية، التي تسعى إلى إقامة الجسر بينها وبين المد الحركي الشعبي اليساري الأمريكي اللاتيني، الذي تستلهم منه في نهاية المطاف.
وقد تقود خطوات من هذا النوع إلى إثارة الفضائح من قبيل تلك التي أشاعت أن تمويلا قدمته المؤسسة ذاتها للحزب، فاق الحد المسموح للهبات قانونيا فأخفي لإدارة الضرائب.
توسع وتغلغل لافت إذن وكسب مواقع مؤثرة، جعلا إيران تتقاسم مناطق النفوذ مع أصحاب القوى الناعمة التقليديين، فلا غرابة في أن يجري الحديث عن أهداف متنوعة من النفوذ الإيراني الممول كمدارس قرآنية في نيجيريا، ومشروع سياحي في تونس، فضلا عن مؤسسات دينية في أوروبا كمؤسسة أهل البيت في إسبانيا..
ترتبط ظاهرة التمويل الخارجي عضويا بأدوات السيطرة على العقول وصياغة العقليات وتنميط أنمـــاط الحياة وتوجيه المعتقد، والتاريخ شاهد على اختراق هذه الأساليب حدود الزمن والمكان والمجال.. وقد ظهرت تحت مسمى معروف جنّد حشودا وفرت له أسباب الاستمرا ر ولايزال : البروباغندا.
منفّذ جديد من منافذ القوة الناعمة لن تعدو أن تتحول إلى قوة تتضاءل نعومة بمرور الأيام لتزداد خشونة. وما الكفاح من أجل الاستقلال في هذا المجال – وهو مجال الاستقلال الفكري لا أقلّ – إلا كفاح ذو وزن ضئيل في وجه استفحال المد المتزايد للنفوذ الأيديولوجي في العالم.
أما الصحافة، فمتى مورست بمهنية، فإنها لا تزال تملك على الأقل القدرة على تنزيل الحقائق من طابع المسلم به لترقيها إلى مصاف علامات الاستفهام. وصدق القلقشندي في «صبح الأعشى» حينما يقول: «وإن صنت وجهك عن السؤال، رضيت بمنزلة الجهال».

٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

بيار لوي ريمون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    تعجبني زوايا نظرتك للعناوين التي تناقشها يا بيار لوي ريمون بسبب نظرتك تتجاوز حدود لغتك الفرنسية وربما بسبب دراستك للسان العربي وللسان الصيني حسب ما فهمت من متابعتي لما تنشره في القدس العربي، وتحت عنوان الخريطة الأبدية أنا اختلف مع طريقة طرحك 180 درجة، لماذا؟

    أولا لم تذكر أنَّ ما بين دجلة والنيل كان مهد الحضارات الإنسانية بالإضافة إلى مهبط الوحي لليهودية والمسيحية والإسلام، فكانت مكان تدوين اللغة الإنسانية (الأسرة)، وكانت مكان تدوين القانون (الدولة).

    أنني لاحظت الفلسفة بنيت على مفهوم صراع بين الأضداد، بينما الحكمة تنطلق من مفهوم التكامل بين الأضداد، فأيهم أكثر سعادة ما بين ثقافة الـ أنا (الرجل) وثقافة الـ آخر (المرأة) عندما تكون العلاقة بينهما أساسها مفهوم الصراع أم التكامل؟! النظام البيروقراطي يقول له الصراع أو ثقافة الـ أنا الربوية، بينما أجواء العولمة تعمل على نشر ثقافة الـ نحن والتي هي من خلال تكامل ثقافة الـ أنا وثقافة الـ آخر، ومن هنا نفهم سر أزمة النظام البيروقراطي لدولة الحداثة لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بداية من الكيان الصهيوني وموقعي قرار تأسيسه فرنسا وروسيا في عام 2016، حيث مستوى الفساد وصل إلى مستويات خرافية في عام 2015 في تواطئ البنك الدولي بقيادته الفرنسية، لأجل دعم الصناعة الفرنسية ورفضت حتى روسيا استلامها لتخلفها التقني، ولكن اشترتها مصر والهند وإيران، فأي أخلاق لدى فرنسا في تلك الحالة مع الظلم الحاصل في سوريا ومصر وإيران والتمييز ما بين الرجل والمرأة وطبقات المجتمع في الهند؟!

    هناك فرق ما بين الرجل (الحكمة/اللغة) والمرأة (الفلسفة/الفكر) ومن هذه الزاوية أفهم مارك توين فيما قاله في أن الرجل من أجل المبدأ، يُضحي بأي شخص، والمرأة من أجل شخص، تضحي بأي مبدأ؟! والسبب من وجهة نظري هو أنَّ الفكر بدون اللغة، يشت ويضيع ويصبح كل شيء ضبابي، واللغة بدون فكر، ستكون مثل الببغاء لا تفهم معنى المعاني، ولا مبنى المباني، فكيف بلغة الاستقراء والاستنباط والتي لها علاقة بلغة القرآن وكلمة الله ومعانيها الـ99، ومن هنا أفهم إشكالية النظام البيروقراطي لدولة الحداثة، التي تعتبر الفرد (الـ أنا) وليس الأسرة (الـ نحن التي تشمل الـ أنا والـ آخر) أصغر وحدة بناء في المجتمع، فعندما تكون الأسرة هي علاقة ما بين الـ أنا والـ أنا، كما أعاد تعريفها باراك أوباما بقانون عام 2015 تكون بلا أخلاق وفق كل الثقافات في العالم؟!

    أنا مقتنع أو لا أظن مصطلح المقاصد الشرعية له علاقة بلغة الإسلام، فيما يتعلق الأمر داخل حدود الإسلام، لماذا؟ لأنّ الله فرض علينا كي نصبح مسلمين، أن نؤمن من أنّه لا يعلم بالنيّات إلاّ الله، فكيف بمن يدعي لا يعلم بنية البشر، ولكنه يعلم بنية خالق البشر؟! ثم معجزة الإسلام كانت لغة القرآن وبلاغته، وفيها تنفرد بـ 99 معنى لله ليس منها رب من الأرباب ولكن رب الأرباب، والله خالق الملحد والمشرك والمنافق والمؤمن بأي شيء؟! لأن في دولة الإسلام لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلاّ بالتقوى، والتقوى لا يعلم بها إلاّ الله، فلذلك تجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يفضح كل المنافقين في عهده رغم أنَّ الوحي أخبره من هم، في مسألة نفاقهم، في الإسلام لا يتم التعامل مع الـ آخر بناء على نيته بل على ما يصدر منه؟!

    هل التقنية والعولمة الآن كافية، لوضع النقاط على الحروف، لأي طرف من الأطراف، التي همّها البحث ما بين الأسطر؟! بحجة ليس هناك شيء اسمه مصداقية أو نزاهة أو أمانة؟! حتى لو كانت صورة السيلفي، كمدخل لمفهوم العولمة للحوار، والذي أنا لا أضيع وقتي في شيء، غير تسويق مشروع صالح، لتطوير النظام البيروقراطي، لكي يستطيع أن يتعايش مع ما فرضته العولمة، من تحديات حقيقية ليس فقط على أمريكا وأوربا عام 2016، بل حتى على نظام الأمم المتحدة، بداية من مجلس الأمن وحق النقض/الفيتو، وبيان حقوق الإنسان الذي لا يعترف بالإنسان، انسان له حتى حقوق الحيوانات في دولة الحداثة، ما لم يكن لديه أوراق، صادرة من جهة يعترف بها النظام البيروقراطي، ومن هنا إشكالية فلسطين أو الـ بدون أو اللاجئين في عام 2015؟!

    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية