في الثاني عشر من الشهر الجاري تمت الانتخابات النيابية العراقية، وهي الرابعة منذ احتلال العراق في عام 2003. وفي حين تضاربت البيانات الرسمية العراقية عن نسبة المشاركة التي أعلنتها في البداية بأنها 31 في المئة، ثم تم تعديلها في بيانات لاحقة لتصل إلى 44 في المئة، قالت الصحافة العالمية في استطلاعاتها بأنها كانت تتراوح بين 16 إلى 25 في المئة، ووصفتها بأنها أدنى نسبة مشاركة من جميع ما سبقها من انتخابات، وأن المؤشرات جميعها كانت تقول بأن العملية ستفشل فشلا ذريعا، بعد تصميم الكثير من القطاعات الشعبية على العزوف عن المشاركة، على الرغم من أن بعض المراكز البحثية كانت تتوقع أن عودة المحافظات التي كان يسيطر عليها تنظيم «الدولة» إلى سيطرة الحكومة، قد تكون دافعا لزيادة رقعة المشاركة في العملية الانتخابية، على اعتبار أن ثقة المواطن تزداد بالسلطات الحاكمة حين تثبت سيطرتها على أجزاء البلاد وتدحر أعداءها. لكن العكس هو الذي حصل في العراق.
وهنا يأتي التحليل السياسي ليقول بأن الشعب العراقي أصابته حالة يأس تام من العملية السياسية، وكذلك من العملية الانتخابية، التي كانت في كل مرة تنتج الوجوه نفسها والاحزاب والتيارات والتحالفات نفسها، بسبب قانون سانت ليغو الذي تسير وفقه عملية توزيع الحصص والمقاعد البرلمانية، والذي يخدم الاحزاب الكبيرة ويعيد أنتاجها في كل مرة. كما أن مفوضية الانتخابات التي تدير وتشرف على العملية برمتها، هي مُشكّلة وفق التوليفة التحاصصية الطائفية والعرقية، وبالتالي لا بد من أن تساعد في عودة الوجوه القديمة شاء من شاء وأبى من أبى. لذلك باتت المشاركات المتتالية، رغم تغيّر الكثير من الظروف الذاتية والموضوعية غير مؤثرة على النتائج.
وهنا وجّه المواطن صفعة قوية إلى الطبقة السياسية المهيمنة على السلطة، منذ عقد ونصف العقد بالعزوف عن المشاركة، بل إن الكثير من المواطنين شاركوا في حملة كبرى لنزع وتمزيق لافتات وصور وشعارات الكثير من المرشحين في كل مدن العراق، حتى بانت وكأنها عملية مدبرة ومتفق عليها. وبغض النظر عن نسبة المشاركة والظروف التي قادت إلى هذا الاحتجاج الشعبي المهم، فقد أفرزت المهزلة الرابعة خريطة سياسية جديدة، لكنها ليست مفاجأة كما روّج لها البعض. حيث أن تقدم تحالف «سائرون» الذي يتزعمه مقتدى الصدر كانت رافعته عزوف الناس عن المشاركة، وليست المشاركة الواسعة هي التي أتت به في المقدمة. ما فائدة أن تكون رابحا بأصوات أقل من 25 في المئة، بينما أكثر من 70 في المئة من شعبك لم يشارك؟ صحيح أن الصدر حاول توسيع قاعدة دعمه الإقليمية واستقلاله عن إيران، كما أنه دعا أنصاره مرات عدة إلى الخروج في تظاهرات واعتصامات تطالب بالاصلاحات ومحاربة الفساد والمحاصصة الحزبية، لكن فوز تحالفه ما زال مفتقرا إلى الشرعية الانتخابية بسبب عزوف الناس. ولو قبلنا شكليا موضوع الفوز في النتائج، واتجهنا إلى النظر في أقوال زعيم التيار، سنجده يؤكد مرارا على أنه سيسعى إلى تشكيل كتلة سياسية تصل إلى البرلمان، تفضي إلى تشكيل حكومة وطنية وليست طائفية. إذن السؤال المهم الان هل مقتدى الصدر قادر على تحقيق نسبة الثلثين في البرلمان، كي يفي بوعده بتشكيل حكومة وطنية بعد هذا الفوز؟
إن التحدي الأكبر أمام الصدر هو ضرورة تحقيق نسبة الثلثين في البرلمان، التي بها يستطيع التصويت على رئيس الجمهورية والحكومة. وهذه عملية صعبة وشائكة لانه ليس الوحيد في الملعب، كما أنه غير مقبول من قوى أخرى من النسيج الطائفي نفسه، وهو يعرفها جيدا ويبادلها المشاعر نفسها، لذلك كانت تغريدته واضحه عندما أحجم عن مد يده إليها، بينما مد اليد إلى قوائم سماها بالاسم. هنا برز تحد وتحد مقابل في الخريطة السياسية وبشكل واضح بين تحالف «سائرون» الذي يتزعمه، وتحالف «الفتح» الذي يتزعمه هادي العامري و»دولة القانون»، التي يتزعمها نوري المالكي. وهما اليوم يسعيان إلى استمالة أطراف من التحالفات الاخرى للحصول على الأغلبية. وهنا لا بد من القول بأن هذا التحالف الاخير أقوى بكثير من تحالف «سائرون»، لانهم يمتلكون قوى السلطة الناعمة والصلبة، التي سيطر عليها المالكي عندما كان رئيسا للوزراء مدة ثمانية أعوام، وقائدا عاما للقوات المسلحة، وبيده الأجهزة الامنية، وحتى السلطة القضائية التي سخرها لخدمته.
كما يمتلك هادي العامري ميليشيات الحشد الشعبي التي تسيطر اليوم على مدن كاملة، مضافا إلى ذلك دعم غير محدود من إيران الموجودة في بنية العملية السياسية. فإذا كان الصدر يراهن على تفكيك أو اجتذاب أطراف من هذا التحالف إلى «سائرون»، فهي مراهنة فاشلة، لان هذا التحالف يتكون من أحزاب وتيارات وشخصيات وميليشيات مسلحة، ودرجة التماسك والضبط والانضباط بينها عالية. لكن قد يجد ضالته في تشكيل الكتلة الأكبر في التحالف مع الاحزاب الكردية والسنية، أو في القائمة العراقية وتحالف بغداد وقوائم صغيرة أخرى حققت تقدما في الانتخابات، لكن الإشكالات ستظهر في ما بعد عند تشكيل الحكومة، لأن تجميع أحزاب وكتل غير متجانسة في بوتقة واحدة يبقى هشا ويهدد مستقبل الحكومة.
سؤال آخر موجود على الخريطة السياسية التي أفرزتها مهزلة الانتخابات الاخيرة. ما هي حظوظ رئيس الوزراء الحالي في التجديد لولاية ثانية؟ إنه في موقف صعب بعد النتائج التي حصل عليها، على الرغم من الدعم الدولي الذي قُدّم له في الحرب على تنظيم «الدولة»، الذي كان يستهدف إعادة إنتاجه لولاية ثانية. وهذا دليل واضح على أن الخطاب الرسمي لم يعد مقنعا، فهو حاول استثمار الحرب على ما يسمى بالارهاب والفساد، لكنه لم يجن أصواتا بهما. اليوم نوري المالكي ليس له من هدف سوى إبعاد حيدر العبادي عن صدارة المشهد السياسي. وتحالف هادي العامري الذي رفض التحالف معه قبل الانتخابات، مازال ليس في جعبته منحه الثقة مرة ثانية، فهل تكون قائمة رئيس الوزراء الحالي هدفا للتشظية من قبل مقتدى الصدر والمالكي والعامري في صراع تكوين الكتلة الاكبر؟ ربما هذا ممكن، لكن يجب ألا ننسى بأن رئيس الوزراء يُسمى من قبل الولايات المتحدة وإيران وليس غيرهما. ولهذا السبب يتواجد حاليا في بغداد قائد فيلق القدس الايراني قاسم سليماني، الذي راقب العملية الانتخابية، ويشرف ويوجه المفاوضات الجارية اليوم لتشكل الكتلة الاكبر. كما تواجد مبعوث الرئيس الامريكي دونالد ترامب مؤخرا للغرض نفسه.
أيا ما تأتي النتائج ستبقى ميزة المرحلة المقبلة هو أن نظام الحكم سوف يكون مفتقرا إلى الشرعية الانتخابية بسبب عزوف الناس عن المشاركة. وأن كل من يدعي بأنه قد فاز وأنه يمثل الشعب، سواء فردا أو تيارا أو حزبا فهو واهم، لان الانتخابات حتى لو جاءت بنسبة مشاركة نصف الشعب تبقى بدون طعم التمثيل الحقيقي. فما بالكم بأن النتائج الحالية كانت في أحسن الأحوال بنسبة مشاركة بلغت 25 في المئة؟ هنا يجب التذكير بأن الأيام المقبلة ستشهد تلاعبا كبيرا بالنتائج، خاصة لصالح الحرس القديم سُنة وشيعة، الذين أخفقوا في الحصول على أصوات وغابت أسماء لامعه منهم. هؤلاء يمثلون دولا ومصالح كبرى وأصواتهم لا ينتجها الصندوق الانتخابي بل المصالح الدولية والإقليمية.
باحث سياسي عربي
د. مثنى عبدالله
معظم الشيعة ذهبوا بأمر المرجعية للإنتخابات, ومعظم السُنة جلسوا في منازلهم لعلمهم بالتزوير! ولا حول ولا قوة الا بالله