تحولت المملكة العربية السعودية إلى دولة تشير إليها أصابع السياسية الدولية بأنها مصدر تهديد استقرار منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي من المحيط إلى الخليج، وبدأت تصدر ردود فعل من قادة العالم، سواء من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة وحتى العالم العربي، وإن كان بشكل محتشم بالنسبة للعرب. وخلال الثلاث سنوات الأخيرة، تزعمت العربية السعودية نزاعات في منطقة الشرق الأوسط، التي تقلق المنتظم الدولي بشكل كبير للغاية، ومنها:
– الحرب ضد بلد فقير الموارد وغني بعزة النفس وهو اليمن، فهذا البلد يعيش الآن وضعا إنسانيا ترفضه كل القيم الروحية والمادية، ورغم قوة البطش العسكري لم يتنازل ولم يستسلم.
– محاولة تجييش المنتظم الدولي لإبطال الاتفاق النووي الإيراني مع القوى الكبرى، وهو الاتفاق الذي باركه العالم، لأنه جنّب الشرق الأوسط حربا خطيرة، قد تتخذ طابع الحرب العالمية الثالثة إذا خرجت من نطاق السيطرة.
– فرض حصار سياسي واقتصادي على دولة قطر، شريك الماضي في حرب اليمن، بحجة تمويل الإرهاب، وخرق سياسة مجلس التعاون الخليجي، ووصل الأمر إلى حد محاولة تغيير النظام والتهديد بغزو هذا البلد الصغير.
– احتجاز رئيس حكومة لبنان سعد الحريري، ضد كل القوانين والأعراف الدولية المعمول بها في مجال تبادل الزيارات الدبلوماسية، وهناك إجماع على أن الهدف هو ضرب استقرار لبنان وتشجيع إسرائيل على ضرب حزب الله.
وتبقى المفارقة المثيرة من زاوية جيوستراتيجية محضة، هو تزعم المملكة العربية السعودية لكل هذه النزاعات في وقت تفتقد للقوة اللازمة للدفاع عن أمنها القومي، أمام قوة إقليمية مثل إيران، وحاجة الرياض إلى الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة لتضمن أمنها أمام إيران. كما تنطلق العربية السعودية من معطيات قديمة، وهي أهمية النفط في العالم، ويعتقد ولي العهد محمد بن سلمان في استمرار صلاحية استراتيجية الملك فيصل، عندما قطع النفط عن الغرب في السبعينيات، والاعتماد على هذا المعطي في ظل فقدان البترول أهميته بسبب تنوع مصادر الطاقة، وبسبب ارتفاع الدول المصدرة للنفط، يؤدي الى كوارث سياسية للرياض في علاقاتها الدولية. ومن أبرز عناوين هذه التحول ما صدر عن وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل، الأسبوع الماضي، بأن «المانيا ترفض روح المغامرة السعودية، نرفضها ولن نسكت عنها». موقف عميد الدبلوماسية الألمانية هو موقف وسط الاتحاد الأوروبي. ونقل كاتب هذه السطور في مقال له في جريدة «القدس العربي» يوما واحدا قبل التصريحات عن مصادر أوروبية رفيعة المستوى ما يلي «إذا فشلت هذه المساعي (فك احتجاز الحريري)، فقد تجد السعودية نفسها أمام رد فعل قوي لدول الاتحاد الأوروبي، حيث لم تنفع سياسة توظيف الصفقات التجارية الضخمة لشراء صمت الأوروبيين». وفي تصريح آخر للمصادر نفسها «دولة من حجم روسيا بقوتها العسكرية والاقتصادية تتعرض لعقوبات أوروبية وانتقادات قوية، ولا نعتقد أن السعودية في قوة روسيا، ولهذا يجب عدم خرقها لخطوط حمر في العلاقات الدولية، حتى لا تجد نفسها كدولة غير مسؤولة».
لم تقدر السعودية جيدا ردود فعل أوروبا، سواء العلنية منها أو السرية، التي يتم تصريفها عبر قنوات غير معلنة، مثل الاجتماعات بين وفود استخباراتية للطرفين، هذه الاجتماعات التي تكون أحيانا أكثر أهمية من الاجتماعات على أعلى مستوى مسؤولي البلدين، مثل الرؤساء والملوك ورؤساء الحكومات. وما غاب عن العربية السعودية هو ما يلي:
ـ دول الاتحاد الأوروبي لم تتردد في مواجهة حليف رئيسي وهو الحليف التركي، فقد اتخذت مواقف صارمة تجاه سياسة طيب رجب أردوغان بعد محاولة الانقلاب الأخير، وتزعمت هذه السياسة الصارمة ألمانيا التي تعتبر الشريك الاقتصادي والسياسي الرئيسي لتركيا.
ـ دول الاتحاد الأوروبي لم تتردد في مواجهة سياسة روسيا، فقد فرضت عليها عقوبات اقتصادية وسياسية بعد أزمة القرم، ولم تتراجع عن مواقفها، رغم الشبح العسكري الروسي في البلطيق، وعلى حدود أوروبا الشرقية وتوظيف موسكو للغاز الذي لا غنى للأوروبيين عن استيراده.
ـ دول الاتحاد الأوروبي لم توافق على سياسة الولايات المتحدة في الملف الإيراني، إذ تستمر في اعتبار الاتفاق الإيراني – السداسي حلا للمشروع النووي لطهران، فهو يتفهم مطالب هذا البلد في الطاقة النووية السلمية المدنية، كما يشكل نموذجا لأي اتفاق مستقبلا مع قوى أخرى تطمح إلى الطاقة النووية المدنية وليس الحربية.
التجربة أبانت كيف تخلصت الولايات المتحدة من الاعتماد على استيراد النفط السعودي، فهي الآن تعتمد على نفسها، بل تصدره، بينما من يستغل النفط السعودي هو الشركات الأمريكية التي يحميها قانون الاستثمار الدولي. لو كانت الولايات المتحدة ما زالت تعتمد على النفط السعودي لما رأينا قانون جاستا، أي محاكمة الدول الراعية للإرهاب بسبب تفجيرات 11 سبتمبر، وهو القانون الذي أصبح بمثابة سيف دومقليس على رأس القيادة السياسية والمالية في الرياض. ويوجد انقسام وسط دول الاتحاد الأوروبي بشأن التعامل مع السعودية، فهناك مجموعة دول جنوب أوروبا، ومعها فرنسا، التي ترغب في التعامل الهادئ مع أخطاء الرياض ومحاولة توجيهها نحو دبلوماسية عقلانية بعيدا عن المغامرات، وهناك تيار أوروبا الشمالية وتتزعمه المانيا، الذي لا يريد التنازل نهائيا أمام ما يعتبره «صبيانيات الرياض في العلاقات الدولية».
لقد خسرت السعودية حرب اليمن، وأزمة قطر والملف النووي الإيراني والآن أزمة الحريري، وأخيرا وربما ليس بالأخير خسرت إجماع الأوروبيين السابق، وهي الخسارة الخامسة في ظرف وجيز.
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»
د. حسين مجدوبي
مقال رائع جدا