… إلى مبروكة علي…
قالت لي: الينابيع هنا كثيرة والأشجار تتكلم، وإذا كنت حاذقاً وذرباً أيها الراعي، سيتبعك العشب، فتعال – وأنا جائع ودوابي جائعة، وكلٌّ منا، يحفظُ من الحرب سطرا وربما أقل – إحمل عصاك يا راعي، ولتكن قصيرة وقاسية ولها عينان، السماء هنا قريبة من الأرض أكثر، والعصا الطويلة تنوش الملائكة، فيكيدون بك، فاحذر لئلا تسقط على أول المسافة والدرب طويلة يا ابن قلبي.
ولم أكُ أعرف تونس الخضراء، تعومُ على النبيذ، حتى ضممت يدَ فتاتها الخضراء المائلة كسطر في الأحلام، وحملت في الصباح التالي ما يلزمُ المسافرَ من الزاد والمال، وبعض زبيبها الذي هطل عليَّ واغتسلت به حتى صار جسدي شجرة عنب، والشجرة نبعا، ووضعت زبيبة معجونة باسمها تحت لساني، كيلا أصاب بجلطة مفاجئة أو اكتئابٍ، أو أسقطَ من شرفةِ الطابق السابع في حديقة الأطفال الأجانب.
علمتُ أنَّ زبيبها/ الدواء، توأم النبيذ الأحمر والأبيض والأصفر، وزيتونها معجزة، وهو ما يجعل تونس أنثى شهية بلا التاءِ المربوطة أو نونِ النسوةِ العظيمةِ كالآثارِ والبحرِ الممتد من أقصى قلب المرأة إلى شمال الرجل البدوي القادم من الشرق، حاملاً عصاه وقصيدة وفانوساً قديماً وقمقماً من النحاس، يخبئ فيه الأصوات الحميدة وتفاعيل الشعر الصغيرة على المشي بعد.
(روكا) تشلحُ عصراً خلخالها على الشاطئ، توهم النوارس بوجبةٍ شهية مما ينزل من فمها كلاما، تحمله الريح الرطبة القادمة من البحر والداخلة في رئة الرجل الراعي، لا تعرف النوارس كيف تغذَّت من غير ما تلتقطه من الأرض أو وجه الماء، لكنها تتحلّق حول الخلخال كدائرة من النار البيضاء، بينما روكا تلبدُ في القريب، تراقب المشهدَ، وتسجلُ في دفترها ما تراه ينفعُ لرواية يكونُ بطلها خلخالها وصوت حبيبها في الريح المحيطة به وبدائرة النار البيضاء.
(روكا) تضيء في فصل الصيف بلا زيت أو شمس، تطل من جوار القارة العجوز عليها، وهي تعرف أن الفتى البدوي بسحنته البرونز، ينام في قطعة الشمس الدافئة، يعدُّ لها العربات التي تجرها الغزلان والنيازك والطيور والطائرات المتجهة شمالا وأحزان البلدان المتكومة كغيمة والغيوم والقصص، كل قصص الجدات للأحفاد عن الغولة والعنقاء والخل الوفي، والمستحيل، وأصابعها، وساتانها العنب ليلة البارحة، وسريرها بالحرير المتهاطل عليه، وقطع ألبستها الداخلية، متناثرة في ربيع الغرفة كنجوم ملونة، وزعلها المفاجئ، وطفلها الذي لم تنجبه وأسمته (بديس) ورسمته بوجنتيه الحمراوين على الحائط خلف السرير، وقبلتهُ كثيراً حتى أدمَت خدَّه الأيسر. قال الفتى الذي يطل على تونس: ما أجملك!، فلتهب أشجارك علي، كل شجرة عطر، وكل شجرة مكان لاسمين، وكل شجرة كنز، وكل شجرة ستر، وكل شجرة تابوت لعاشقين، وقال الفتى الذي أخذ قطعة من سماء قريبة من سمائها وآخى جرحه وجرحها، وفض عن بعد نافذة عزلتها وأخرج رغبتها إلى العلن، حتى صارت كوكبا من الحليب البارد، يرضع أطفالا عشاقا وجوعى، واشتهاها حتى سال دم قصيدته ورنَّ خلخالها في ست جهات.
وقال: خذيني إليك، فالموت هنا كثير، وحيث تقيمين وضربت بقدمك الأرض ورنَّ خلخالك تفجرَّت الينابيع وطفرَ الحُبُّ من عينِ الأرض، وأنا عطِشٌ ودوابي عطشى، فما حيلة الراعي بلا ماء أيتها البهية الرقراقة؟!
صنفتُ البلدان في طبقتين، وقلت هي ذي تونس الفحلُ، وبقيةُ البلدانِ المخصيات، ولو لم أكُن سوريا، واخترت قبرا لي فيها، لأحرقتُ بيدي جثتي، وحمَّلت روحي رمادها لتذره فوقَ البلاد وبيتِ الصبية المولودة في يوم عاصف، اختارت لها أمها ولاّدة شاعرة وساحرة، قرأت في أذنها، ورسمت أمام عينيها الطلاسمَ وفعولن، فجاءت شهية مثل بلد ويانعة مثل ثمرة تفاح وطويلة كليل الرعاة الشتوي، كبرت الصبية ووصلتني شهقتها متأخرة، ها أنا أترنَّم بها وأقضم أصابعها وترا.. وترا.
وقلتُ أحبكِ، ورسمت لها على الهواء قلبا كبيرا، يخترقه سهم، وتسيل قطرات دم منه، كنت هكذا أعيش قبل ثلاثين عاما من عمري في هذه الساعة، كانَ بقي أن أرجعَ أكثر، فآخذ زوجين من الحمام الزاجل، وأدربهما على حمل الرسائل الخفيفة والقصيدة، وأدلهما جيدا على طريقِ بيتها بين أرض مزروعة بالنار وسماء تنخفض قليلا من ثقلِ الطائرات.
وقلتُ أحبُّ أصابعكِ الطويلات، ولي هوى في الأصابع الطويلة، منذ تعرفتُ السكاكر، وقطع الشوكولا البنية الفاتحة، فزرعتْ أصابعَ على السرير والكرسي وطاولة الكتابة وفي الحديقة الخلفية للبيت، وفي كتابي المرمي على طاولتها، وبين سطرين غامضين من آخر قصة كتبتَها، وأهدتني أقلاماً تشبهُ أصابعها، مائلة نحو التدّين والشغب معاً، لم أكتب بها أبدا، لكني تذكرتُ السكاكر وقطع الشوكولا، فأكلتها.
قالت لي ماذا تحبُّ من الألوان أيها الفتى/ الراعي؟
قلت: الأزرق السماوي يا خضراء، واستدركتُ: قميصك الساتان السماوي، فتركَتْ البيتَ، وأشعلتْ فيه نارا، لئلا ترجع إليه ثانية، ونصبت لي ولها خيمةً من الساتان الأبيض، ولأني أحب الأزرق، صاحت بقطعةٍ من السماء القريبة، فجاءتها وغلفت الخيمة بالسماوي.
كانَ يجبُ القول: أحبُّ استدارة وجهك، وأنْ أخفيَّ تتمته: (واستدارة مؤخرتك) من تحت الجذع إلى أعلى الفخذين، قلتُ، فرسمَتْ وجهها دائرة على الماء، ثم كسرت مرآتها، ونظرت في وجهي لأرى استدارتها وأشربها على مهل، وقلت أحبك وأحبك ثم أحبك، فأسّرت نبعاً أبكمَ، هجَّت أمامه أحرفاً قليلةَ، حتى نطق النبع، فعلمتهُ الكتابةَ، لم تعطه قلما ليكتبَ، خلعت إصبعاً من أصابعها الطويلات وأعطتهُ وأول ما كتبَ: أحبك.
لئلا تزعل تونس سأقول تونس وروكا الخضراوان
ولئلا تزعل سوريا سأقول سوريا وروكا الجميلتان
قلتُ: هرمتُ، قبل الأوان، أربعُ سنين عرجاء توكأت علي، حتى رقَّ كتفي وشفَّ عن عظمٍ قديم، وليسَ للتَعِبِ إلاّ النوم يا بهية، فرسمتْ على الفور جزيرة لا أحد فيها سواي، كانَ الضباب سريري وغطائي عصافير بلا مناقير، وفراشات مضيئة، وجملا قصيرة من كتاب بحار ميت، من عاداته الكتابة واحتلال الجزر، والحديث عن المستقبل، وكان أن التقيت بها، فتوسّعَ السرير، وتوسعَّت الجزيرة على حساب المحيطات والبحار، فصار العالم، العالم كله جزيرةً، كنتُ الملكَ الزوج وكانت الملكة، وكنت أضاعف جهدي، وأحرث بها، لأنجبَ فلاحينَ وعمالا مهرة وأصحاب صنعٍ، يُعمِّرونَ المكان، ويبعثونَ فيه الحياة. هكذا عندما تطأ روحي أرض تونس، وتحضن أخضرها، بكل بساطة، وبلا حروب ومحاربين قرطاجيين أشداء، أكونُ قد احتللتُ العالم.
كاتب سوري
محمد المطرود
مبللة شفتي السفلى بماء الدهشة….!
لا شيء هنا لاستند عليه من دوار الكلمات
فاغرق في بحر المعنى
يا محمد ..
الشجرة التي زرعتها بقلبي تكبر ..تكبر قصيدة قصيدة و فرحا فرحا ..تكبر لتعانق أصابعك ،أصابعك الغارقة في ماء قلبك ، أصابعك التي أشتهى تقبيلها ، أشتهى ضمها او بالاحرى ضمي اليها ..هناك في غاباتك الخضراء بطول و عرض فصلي العشق و الشعر كم أشتهى أن اغفو
لي عندك عطر و لك فيّ وردة ..فقل للمسافات احترقي لينام العطر في رحم الوردة