الخطاب الديني بين التجديد والأمركة

المُنتصر لا يكتب التاريخ فقط كما قال تشرشل، ولا يُحدِّد العدالة فقط، كما قال عبد الوهاب المسيري، ولا يضرب عُنقَ ضحيته ويقطع الرأس كتذكارٍ للانتصار فقط، كما كان يفعل هنود الجيفارو، فهو يفرض كذلك على الآخرين ما يشاء من مصطلحات ويُلزمهم بمدلولاتها التي وضعها هو.
عندما يُتداول مصطلح تجديد الخطاب الديني، يرتبط في ذهن البعض بتلك الدعوات التي تُطلقها بعض الأنظمة العربية، وتُروّج لها أبواقُها الإعلامية لتجفيف منابع الإرهاب والتطرف، وإنما في حقيقة الأمر كان هذا المصطلح أحد إفرازات القوة الأمريكية المُهيمِنة، والمطروحُ في أجندتها منذ ما يزيد على ستين عامًا، وأُعيد طرحه في أطروحتَي «صراع الحضارات» لهنتنغتون و»نهاية التاريخ» لـ»فوكوياما»، إلا أنه دخل حَيِّز التنفيذ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
العربدة الأمريكية في البلاد العربية والإسلامية، والرعاية الأمريكية الكاملة للكيان الصهيوني المسخ على حساب أمتنا، ولّدت شعورًا متناميًا بالعداء تجاه أمريكا، التي لم تجد وسيلة فعالة لمواجهة هذا العداء إلا من خلال تطوير الخطاب الديني الإسلامي، بما يخلُق نوعًا من الانسجام والتوافق مع القيم والتوجهات الأمريكية.
صحيفة «الأسبوع» المصرية في مطلع عام 2003 نشرت تفاصيل خطط أمْركة أو تجديد الخطاب الديني للمسلمين ضمن حملتها على الإرهاب، وأوضحت أن الخارجية الأمريكية بذاتها أنشأت «لجنة تطوير الخطاب الديني في الدول العربية والإسلامية»، وقالت إن اللجنة انتهت من توصياتها، وإنها بصدد إبلاغ الدول بها، وأوضحت أن المساعدات الأمريكية سوف تكون مرهونة بتنفيذ هذه التوصيات.
وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفليد، كان أحد أبرز المهتمين بتطوير الخطاب الديني الإسلامي، وحمّل المدارس الدينية مسؤولية التشدد، ورأى أن هذا الواقع يُعرقل التعايش بين هذه الشعوب وأصدقاء أمريكا وحلفائها في المنطقة وعلى رأسهم الكيان الإسرائيلي.
وقطعًا لم تشمل الأنشطة الأمريكية لتجديد الخطاب الديني سوى الدين الإسلامي، فلم نسمع عن تجديد الخطاب الديني اليهودي ولا المسيحي ولا البوذي…. وألزمت أمريكا الأنظمة العربية الحليفة بتبني تجديد الخطاب الديني الإسلامي، وصادف ذلك ميولًا وقناعات مسبقة للمُتأمركين والتغريبيين والعلمانيين، فدقُّوا الطبول لقبول تلك الدعوات.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون أكثر الأنظمة العربية انبطاحا للبيت الأبيض هي أكثرها تركيزًا على قضية تجديد الخطاب الديني، ولذا تُقنع تلك الأنظمة الشعوبَ بمسؤولية النصوص الإسلامية عن التطرف والإرهاب، وأنّ عليها الإذعان لذلك التجديد، ولو كان على حساب الثوابت والنصوص قطعية الثبوت والدلالة.
وعلى طريق أمركة الخطاب الديني، كان التركيز على إقصاء التمسُّك بالنصوص، ووصْف أهل هذا المسلك بالجُمود، والتركيز من جانب آخر على إحياء المسلك التأويلي، بوصفه اتجاها عصرانيًا يأخذ بالمسلمين إلى مواكبة ثقافة العصر. أمركة (تجديد) الخطاب الديني حَمَل في مضمونه الاتجاه إلى التأثير في أصول الدين، وهدم الثوابت والقطعيات الدينية، وإقصاء وتنحية كل ما مِن شأنه الاصطدام بالتوجُّهات الأمريكية، وليس أدل على ذلك من أن علماء الدين في البلاد العربية – الذين لديهم اتجاهات عقلانية في تفسير الدين تسمح بترسيخ مفردات التجديد المزعوم – يحضرون دورات تدريبية مُكثَّفة لتجديد الخطاب الديني في واشنطن، فهل هو تجديد للخطاب الديني؟ أم أمركة للخطاب الديني؟
إننا كمسلمين لا نعترض على التجديد كُليةً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه في الحديث الصحيح أنه قال (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)، ولكن هذا التجديد لا يعني مُجاراة الأهواء، وإنما معناه إحياء ما اندثر منه، وتنقيته من المُحدثات، وردّه إلى حالته الأولى في عهد النبوة، وهذه النسخة كفيلة في حد ذاتها بالتعايش الإنساني وإقرار قيم العدل والسلام والحق والخير.
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان معناه تنقية التراث الإسلامي من الروايات الموضوعة والمكذوبة، بل هو مما تضافرت في العناية به جهود المصلحين، فأي خير في ما هو مبثوث ببعض كتب التراجم والطبقات من حكايات أسطورية عن الأولياء والزاهدين لا يقبلها العقل ولم يصح لها سند؟
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان معناه مواجهة المفاهيم المغلوطة الدخيلة عن العلاقة المُحرّفة بين الدين والدنيا، التي قسمت الناس إلى فريقين، فريق عزف عن الدنيا بحُجّة تعارضها مع الدنيا، وفريق آخر أغرق في المادية.
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان يعني الارتكاز على الإسلام كفكرة مركزية لإحداث نهضة حضارية تعتمد على منظومات الإيمان والقيم والإنتاجية والفاعلية، لأنه بالفعل يملك مُقومات هذه النهضة وله تجربة فريدة في السباق الحضاري.
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان معناه مواجهة التعصب المذهبي وحمْل الناس على خيارات فقهية محددة وتسفيه غيرها في دائرة الخلاف الواسعة، التي هي موارد الاجتهاد وفيها توسعة على الناس.
نقبل بتجديد الخطاب الديني إذا كان معناه تطوير أساليب الدعوة والتلقين وفق مُتطلبات الواقع المعاصر دون التغيير من صفته أو طبيعته. لكن هذه المفردات المطروحة لا تتفق على الإطلاق مع التوجُّهات الأمريكية، والتي تسعى إلى أمركة الخطاب الديني لا تجديده، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية

الخطاب الديني بين التجديد والأمركة

إحسان الفقيه

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    الوسطية والإعتدال هي من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم – ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول محسن ونيس:

    مقالة في منتهي الدقة والإنصاف. نعم الزخم الإعلامي والثقافي لثقافة المنتصر كانت سبباً حيوياً أيضا في تجسر الولايات المتحدة الأمريكية علي أمتنا. لقد إختلفت المفاهيم، واختلطت أساسيات ديننا في توغل مزعوم وتحت مظلات الإرهاب وتوحش لجماعات تحت مسميات عدة، كلها اددت الي توغل فكري لأمركة المفهوم الجديد للإسلام.

  3. يقول نضال اسماعيل:

    المجدد لهذا العصر هو الشيخ المحدث الفقيه محمد ناصر الدين الالباني رحمه الله تعالى.

    1. يقول الكروي داود:

      حياك الله عزيزي نضال وحيا الله الجميع
      نعم الشيخ الألباني مجدد هذا العصر في مجال الحديث, أما الشيخ القرضاوي فهو مجدد هذا العصر في الفقه والإفتاء! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول محمد سعاده. الاردن:

    نتفق مع الكاتبة المحترمة فيما ذهبت اليه بشأن تجديد الخطاب الديني بشكل مختصر مفيد. في المسائل الروحية. كنّا نتمنى على الكاتبة ات تسهب لنا وبالتفصيل المختصر المفيد بشأن الدعوات الأمريكية لتجديد الخطاب الديني ، مع ان عنوان المقالة ذلك ، اذ جاءت مقالتها بضعة عناوين ولَم تبين لنا أو تستند على أمثلة موضوعية. وان جاز التعبير ماهي المواضيع الدينية آلت طالبت مختلف الجهات الأمريكية بتجديد الخطاب الديني فيها حتى تكتمل الصورة والفائدة ، في مقالة قادمة ننتظر ذلك وشكرا ،،

  5. يقول سامح //الأردن:

    *بدون شك الحرباءة(أمريكا ) لعبت
    دورا رئيسيا في مصائب(العرب والمسلمين)؟؟
    *ما المطلوب;- مقاومة السياسة الأمريكية
    قدر المستطاع وعدم الإستسلام
    لاملاءاتها البغيضة كما تفعل (تركيا) حاليا.
    سلام

  6. يقول محمد الولايات المتحده:

    الطريف في الموضوع ان الحكومه الامريكيه لا تستطيع و لا تجرؤ علي تطبيق آي من هذه الاقتراحات علي مواطنيها مسلمي امريكا. ليس لدى الحكومه آي صلاحيه لتجديد الخطاب الديني للمسلمين في امريكا تحت آي مسمي.

  7. يقول عادل الصاري / ليبيا:

    لا غرابة في أن المنتصر يفرض شروطه ونمط الحياة على المهزوم ، فلم نسمع قط أن المنتصر الغالب تبع المغلوب المهزوم ، ولا غرابة في الانتصار أو الهزيمة فالأيام دول ويوم لك ويوم عليك ، المشكلة تكمن في الاستفادة من الانتصار،أو الاستفادة من الهزيمة وتجاوز تأثيراتها.
    قالت السيدة إحسان : ( لم تشمل الأنشطة الأمريكية لتجديد الخطاب الديني سوى الدين الإسلامي، فلم نسمع عن تجديد الخطاب الديني اليهودي ولا المسيحي ولا البوذي ).
    من الطبيعي أن تتجه أنظار ومؤمرات أميركا والعالم إلى الدين الإسلامي ، وتترك الأديان الأخرى ، لأن بعض المتصدرين للخطاب الإسلامي يبثون في خطبهم وفتاويهم الرعب والنفور من هذا الدين، وكثير من الدعاة أعلنوا صراحة أن جميع البشر غير المسلمين مطالبون بالدخول في الإسلام شاءوا أم أبوا ، فإن شاءوا فبها ، وإن امتنعوا فعليهم بدفع الجزية وإلا القتل.
    كيف نستغرب نحن المسلمين ردة الفعل المعادية من قبل الآخر إذا كان فينا من يعتنق فكر داعش والقاعدة وغيرها من الاتجاهات التي تنادى بالقضاء على النصرانية في بلدان تدين بالنصرانية؟.
    لم نسمع قط أن قسيسا دعا إلى فرض المسيحية بالقوة ولا حاخاما دعا إلى فرض اليهودية بالقوة ، مع أن هذه هي في الواقع أمانيهم ، فكل صاحب دين أو مذهب يتمنى أن يسود دينه أو مذهبه على الجميع ، ومع أن في كتبهم دعوات إلى قتال المخالف ، لكنهم لم يلتزموا بها لأنهم ببساطة يقرأون الواقع بذكاء وبعقلانية .
    لكن عندنا نحن من يقرأ نصوصا حثت قوما في زمن ما وفي ظرف خاص على قتال المخالف في الدين ، فيظن أن هذا أمر رباني ملزم في كل وقت، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

  8. يقول آصال أبسال:

    أفهم وأقدر نقد الكاتبة لتجديد الخطاب الديني /الإسلامي/ على الطريقة الأمريكية.. ولانبطاح الأنظمة العربية /الإسلامية/ أمام هذا التجديد..
    ولكن تعميماتها الجارفة حول العلمانيين /خاصة غير المُتأمركين منهم/.. لا تختلف عن تلك التعميمات الجارفة التي يأتي بها الغرب الأمريكي وغير الأمريكي نفسه حول الإسلاميين /الإرهابيين/ أو /غير الإرهابيين/..
    ومن ناحية أخرى.. ليس هناك /ثوابت إيمانية/ أو /قطعيات دينية/ نهائية في أي عقيدة كانت.. كما تظن الكاتبة.. وكما قلت في مكان آخر.. إن أي مسار تفكير ديني /إسلامي/ توجِّهُهُ محددات وثوابت وقناعات إيمانية وعقدية نهائية.. هو بالضرورة مسار قائم على أيديولوجية مغمَّسة في الصميم بثقافات العبودية والاستعباد والاستبداد والعنصرية والذكورية وما شابه.. ثقافات لا تخدم سوى مصالح الأنظمة /الإسلامية/ الحاكمة الطغيانية التي لا تخدم بدورها سوى مصالح اسيادها من الغرب الاستعماري والإمبريالي للحفاظ على سيطرة وهيمنة هذا الغرب..
    أخيرا.. صحيح أنه.. فيما يخص الحديث المذكور عن تجديد الدين على رأس كل مئة سنة.. اتفق الحفاظ /وليس غير الحفاظ/ على أنه حديث “صحيح”.. إلا أن هناك الكثير ممن يعتبره حديثا “متصلا”.. وأن هناك الكثير ممن يعتبره حديثا “معضلا”.. وحتى أن هناك الكثير ممن يعتبره حديثا “مرفوعا”.. والله وحده هو الذي يعلم أي هؤلاء الكثيرين هم الأصح.. !!

إشترك في قائمتنا البريدية