أربع وعشرون ساعة كانت كافية لتنير لنا الروائية ليانة بدر، الحاضر الصعب، ولتقدم لنا جزءاً مهماً من التاريخ الفلسطيني المسكوت عنه. أربع وعشرون ساعة، هو الزمن الروائي الذي أعادت فيه الكاتبة مساءلة كل شيء بلا مواربة ولا قفازات بيضاء.
تبدو رواية الخيمة البيضاء (2016) كمرآة مشروخة داخلياً، تعكس الأشكال على غير ما هي عليه ظاهرياً، لكنها تعبير عنيف عن التشوهات الداخلية التي لحقت بالأفراد والجماعات والمؤسسات والأحزاب. من هنا، فشخصية نشيد، في الخيمة البيضاء، عالية الدلالة والرمزية، فهي أكبر من مجرد ناشطة تشتغل في منظمة دولية غير حكومية، لها قناعاتها، تعد كل شيء في بلدانها وتأتي لفلسطين فقط للتطبيق، بدون مراعاة خصوصية البلد وناسه. شخصية مثقلة بذاكرة فلسطينية ومقدسية خاصة.
يرتبط جزء من نشاطها بالشابة المتخفية في القدس، التي تطلب النجدة من عالم أصم، بسبب رفض عائلتها زواجها ممن تحب. عائلة تخاف من العار، وتنسى أنها تعيش في عار أكبر: الاحتلال. عندما تساهم في إنقاذ الفتاة المهددة، لا تذهب نشيد كممثلة لهيئة، ولكن كمواطنة لها أحاسيسها الخاصة تجاه القضية النسوية. على الرغم من أناقة رام الله، فهي ليست أكثر من سجن كبير بالنسبة لنشيد، ببؤسها المتخفي، وظلمها، ومعابرها.
تعيش بين هواجس حاضرها وقلقها، وعبثية الواقع، وخوفها على إبنها خالد الرافض بقوة للاحتلال ومظاهره. فهو يشعر كأنه سُرق منه شيء جوهري. وداخل عبثية الاحتلال وغطرسته، ينتهي الأمر باعتقاله بتهمة محاولة طعن جندي إسرائيلي. انشغالها على والدها الذي اختار المنفى خارج أسوار رام الله، كبير ويزيد من شططها. انعزل بعيداً عن المدينة محملاً بذاكرة وتاريخ شاخ معه. في هذا الوضع المغلق، يبدو الماضي في ذهنية نشيد، مغلفاً بالمثالية، بالخصوص من الانتفاضة الأولى التي شكّلت لها النموذج النضالي الأسمى، في الحياة وفي التحرر، بما في ذلك حرية المرأة وليس فلسطين فقط. كل شيء مترابط بقوة. ليست شخصية عاصي أيضاً، عادية؟ فقد عاد من المنفى محملاً بتاريخ ثقيل أصبح تهمة أكثر منه وساماً. فهو صورة عمن عادوا حالمين بلقاء مع وطن افتراضي، ونسوا أن جزءاً كبيراً من الأوطان يموت بفعل الغياب. لا هو عرف أهل رام الله، ولا هم قبلوا به. حتى زوجته لم تخرج من دوامة إثبات الذات والهوية، من خلال رحلات مكوكية تستنزفها، إلى القدس. هناك جيل آخر لا يعني له عاصي الشيء الكثير. احتل المدن وخلق لها منطقاً ليس دائماً صحيحاً. أصبح عاصي فجأة غير مرحب به، لأن العالم الذي خرج محملاً به لم يعد موجوداً اليوم. وإن وجد، فهو جد باهت.
هناك واقع قاس لم تعـــد الرومانسية الثورية كافية لفهمه. حتى إبنته بيسان لها عقليتها التي تجبره على الانصياع لها، لأنه لا خيار آخر له. انشغالاتها مختلفة، وطرقها النضالية تعتمد على هاجس الحرية من خلال فن الراب الذي يصل إلى الروح والقلب بسهولة، وبلغة بسيطة، أحسن من خطابات الأجيال الأولى، المتقنة الصنع ولكن لا يفهمها إلا القليل، لهذا فشلت في إقناع قطاعات كبيرة من الجماهير. لا قوة تمنع بيسان من التواصل مع صديقها وائل الذي يعيش في سجن أكبر، إسمه غزة. عالمان، الاختلاف بينهما ليس شكلياً، ولكنه يمس الجوهر. لم يبقَ أمام عاصي إلا المشي والمشي أبداً وفقاً لمقولة الحرب العالمية الثانية، أمش أو مت marche ou crève.
في كل رواياتها، اشتغلت ليانة بدر على فلسطين التي حوّلتها في نصوصها السجالية إلى موضوعة. مما يعني بالضرورة وضع جانباً، السياسة والأيديولوجية التي أثقلت النص الفلسطيني، كما أثقلت قبله الأدب المقاوم في الجزائر. هذا الوعي المتقدم هو الذي أنجب نجمة لكاتب ياسين، في الجزائر، وما تبقى لكم لغسان كنفاني في فلسطين حينما حوّل هذا الأخير فلسطين إلى موضوعة لغوية شديدة التعقيد الداخلي، من زاوية رؤى نقدية شجاعة.
من يقرأ روايات ليانة بدر ويتابع مشروعها الروائي، سيكتشف بسهولة التحولات التي حدثت في البنية الروائية المتحولة بالموازاة مع المجتمع الفلسطيني المتحول بدوره بقوة، على خلفية احتلالية شديدة العنف. تظل رواية الخيمة البيضاء، مشدودة إلى المكان، رام الله، وإن تشظت بقية الأمكنة وتحوّلت إلى مجرد ذاكرة، استدعاؤها لا يعيدها إلى الحياة. المسافة الفاصلة بين الخيمة البيضاء وبين الرواية الأولى بوصلة من أجل عباد الشمس (1979) طويلة، لكنها ليست في الأخير إلا محصلة لما قالته الرواية الأولى، التي تتبعت فيها ليانة بدر بدايات المقاومة التي لم تستطع حماية نفسها من بيروقراطية أصبحت في النهاية حقيقة مدمرة. من هنا، فالخيمة البيضاء غير منفصلة عن الماضي الروائي لليانة بدر.
فهي جزء من تاريخ تشكل حلقاته، حالات تحول تدريجي انتهت إلى وضعية اليوم، وهي وضعية شديدة الغرابة. فقد تحوّل الصراع ضد الاحتلال، إلى صراع فلسطيني ـ فلسطيني، داخل سجن كبير إسمه رام الله. فقد امتد الصراع إلى العائلة الواحدة حول الميراث، والأرض والحيطان القديمة. شرخ كبير في صلب المجتمع الفلسطيني بما في ذلك التنظيمات وفساد مؤسسات السلطة. هل هذا مآل فلسطين القضية؟ هو السؤال الأكثر خطورة الذي طرحته رواية الخيمة البيضاء؟ ولم توفر له إجابات وهي غير معنية بذلك، حتى ولو فتحت نوافذ صغيرة للأمل من خلال الأجيال التي تريد الحياة، ولها وسائلها النضالية مثل خالد وبيسان مثلاً. نستطيع طبعاً أن نسم هذا النص بالتشاؤم، لكن بالنسبة للذي يعرف فلسطين من الداخل، يدرك جيداً ما ذهبت إليه الرواية. تحوّل النضال إلى مجرد ذاكرة نقلها الشتات باتجاه رام الله، التي تجلت في النص كماكرو مجتمعي معبّر عن كل فلسطين، بعد اتفاقيات أوسلو.
وكأن ليانة تنبهنا إلى نهاية الصورة المثالية التي صنعها الفدائي والمقاوم والمخيم منذ الأربعينيات وربما منذ ثورة الثلاثينيات، التي لم تعد اليوم موجودة في مجتمع مقهور، خسر كل شيء، مقتول داخليا، ومتصارع في ما بينه على الأشياء الصغيرة، في مدن مغلقة تطوّقها الحواجز. المدن السجن. لا يمكن رؤية الخيمة البيضاء مفصولة عن مسار بكامله، هو مشروع ليانة الروائي، وحكي فلسطين روائياً، خارج المقدس السياسي أو النضالي. الوطنية استحقاق وليست نياشين توضع على الصدر. لقد نمط الاحتلال الشخصية الفلسطينية وحوّلها إلى شخصية مريضة بتاريخها. لا هي قادرة على الرجوع إلى المقاومة، ولا قادرة على حماية نفسها من مغريات الاستقلال الذي ليس إلا وهماً جميلاً. ما الفارق في النهاية بين المقيم والعائد، في معتقل كبير إسمه المدينة؟ بهذه الرواية، كسرت ليانة بدر فكرة النموذجية المثالية والقداسة الفلسطينية، وحوّلت القضية إلى تجربة إنسانية آن الأوان لإعادة قراءتها.
شكرا للاستاذ واسيني على هذه الإضاءة للكاتبة الفلسطينية المبدعة ليانا بدر. الخيمة البيضاء التي تحكي مأساة شعب بأكمله في مدن الحصار صورة تصلح لعالم عربي بأكمله حيث الشعوب تعيش في حصار أنظمة الخنوع والركوع والتطبيع مع عدو محتل غاصب