الدعاية الصهيونية إلى زوال

حجم الخط
2

في الماضي غير البعيد، ما كان ليخطر في بال أشد المتفائلين أو حتى كبار المنجمين، أن تصل مستويات التأييد للقضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه الآن في البلدان الغربية وأخص بالذكر بريطانيا..
ما كان يحلم أحد يوما أن يمطر الناخبون البريطانيون نواب دوائرهم بمئات آلاف المكالمات الهاتفية داعين إياهم للتحرك لوقف الحرب الإسرائيلية الإجرامية على قطاع غزة، والمطالبة بالاعتراف بدولة فلسطين. هذا باعتراف وزير الدولة لشؤون التنمية الدولية (المساعدات الخارجية( في حكومة ديفيد كاميرون المحافظة، خلال لقاء مع عدد من الصحافيين العرب، وكنت واحدا منهم، في مكتبه كي يقدم معلومات عن المعونات والخدمات التي قدمتها وتقدمها الحكومة البريطانية للفلسطينيين.
من كان يتوقع أن يأتي اليوم الذي لا يتجرأ فيه حتى، ولو نائب واحد من غلاة الصهاينة في مجلس العموم، على أن يعلن مباشرة وبوضوح رفضه لدولة فلسطينية؟ بينما كانوا في السبعينيات يرفضون حتى الاعتراف بوجود شعب فلسطيني. من كان يحلم، بأن يكون زعيم المعارضة في مجلس العموم البريطاني مؤيدا عنيدا للقضية الفلسطينية وعلى رؤوس الاعيان؟
من كان يتوقع أن يصل جيريمي كوربين وهو اليساري إلى زعامة حزب العمال وهو شيخ المؤيدين والمدافعين عن القضية الفلسطينية، قبل وبعد دخوله إلى مجلس العموم في ثمانينيات القرن الماضي.. والمعارض للحروب الامريكية في منطقتنا والرافض للردع النووي؟ من الذي كان يخطر على باله يوما أن يقود حزب العمال الذي كان في الستينيات والسبعينيات، الأكثر والأشد من بين الاحزاب البريطانية الرئيسية، تأييدا لدول الاحتلال الذي كانت تجمعه بها مظلة الاشتراكية الدولية؟ من كان يتوقع أن يقود حزب العمال، تحت قيادة إيد ميليباند، البرلمانات الأوروبية في الدعوة للاعتراف بدولة فلسطين رسميا، وينجح في التصويت بأغلبية ساحقة من الحاضرين في مجلس العموم (274 مقابل 12 ضد) في إكتوبر 2014، على قرار وإن يكن غير ملزم، يدعو الحكومة إلى الاعتراف بدولة فلسطين؟
من كان يتصور أن يأتي اليوم الذي يجري فيه تحدي اللوبي الصهيوني في بريطانيا راعية المشروع الصهيوني ومانحة الحركة الصهيونية وطنا قوميا لليهود في فلسطين؟
فقد مني هذا اللوبي وأنصاره في الأحزاب البريطانية، بفشل ذريع عندما لعب ورقة معاداة السامية المحروقة ضد كين لفينغستون عمدة لندن الأسبق وكوربين. وذلك باتهام الأول بمعاداة السامية بعد حديثه عن التعاون الذي كان قائما بين الحركة الصهيونية والنظام النازي بين1933 وحتى 1940، وهو الفصل الذي تحاول الحركة الصهيونية اخفاء من تاريخها الأسود. نعم فشل اللوبي الصهيوني في قلب نتائج استطلاعات الرأي التي كانت ترجح فوز المسلم صادق خان مرشح حزب العمال وبين زاك غولد سميث مرشح حزب المحافظين وهو يهودي. وحقق خان ذو الأصول الباكستانية، نصرا مبينا وبفارق أصوات بلغ حوالي نصف مليون تقريبا.
وهذا الانتصار بحد ذاته رغم اهميته ليس الأهم، ولكن تركيبة الفئات المصوتة التي تعكس أن الأجيال الشابة الصاعدة في بريطانيا وغيرها من الدول الغربية، وحتى الولايات المتحدة التي تحقق حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات «BDS» في أوساط شبابها تقدما غير متوقع، ما عاد تلتفت إلى «التهم الصهيونية المعلبة والجاهزة»، التي كانت ولا تزال تخيف الاجيال التي عاشت الفترة المباشرة لمجازر النازية ضد اليهود وغير اليهود. ويستدل على ذلك، من نتائج اخر استطلاع الرأي بعد الحملة الشرسة على لفينغستون وزعيمه كوربين بالتساهل مع معادي السامية داخل الحزب. وتفيد نتائج الاستطلاع التي نشرت قبل يوم واحد فقط من الانتخابات أن فئة الشباب ما بين18 عاما و45 عاما هي الفئة التي منحت اصواتها لصادق خان، بينما كان حظ غولد سميث أوفر بين ذوي الفئة العمرية 65 عاما فما فوق. وليس لهذا إلا تفسير واحد وهو أن تهمة «معاداة السامية» فقدت بريقها كما فقدت مصداقيتها ولم تعد تلقى آذانا صاغية في اوساط جيل المستقبل.. ولهذا دلالاته الكبيرة، والفلسطينيون عليهم أن يعولوا على المستقبل.. فهو لهم وحدهم مهما طال الزمن أو قصر.
باختصار، لم يعد نفوذ ماكنة الدعاية الصهيونية العملاقة على ما كان عليه منذ تأسيسها وحتى اواخر ثمانينيات القرن الماضي.. ونجحت قضية فلسطين بقوة عدالتها ونضالات شعبها وصموده على ارضه، والجهود الجبارة لانصارها وجرائم اسرائيل وعنصريتها في اختراق جدار الاعلام المنحاز… وأخص الإعلام في بريطانيا وهي سبب بلاء ونكبة الشعب الفلسطيني، التي سيحيي الفلسطينيون غدا ذكراها الـ 68، بإصدارها وعد بلفور المشؤوم عام 1917 الذي يقترب من مئويته، وهو الوعد ذاته الذي منحت بموجبه بريطانيا، اليهود وطنا في فلسطين، إضافة بالطبع إلى إجراءاتها التعسفية كقوة انتداب وقمعها للثورات الفلسطينية المتعاقبة قبل تسليمها الجزء الأكبر من فلسطين للحركة الصهيونية.
هذه طبعا معلومات عامة تعلمناها في الكتب المدرسية، ولكن لا أدري إن كانت لا تزال تدرس للاجيال الجديدة.. ولا استبعد أن يكون تغييرا قد فرض على منهجي التاريخ والجغرافية المدرسية، بعدما اصبحت اسرائيل دولة صديقة ولها سفارات وممثليات في عدد من الدول العربية، بموجب معاهدات سلام عقدت معها مجانا، ومن دون مقابل. وربما تضع اسرائيل هذه المعلومات في خانة التحريض ضدها… من يدري.
وسائل الإعلام البريطانية كانت منحازة بامتياز لليهود والحركة الصهيونية منذ البداية، فعبر إحدى هذه الوسائل وأخص بالذكر صحيفة «الغارديان» التي كان يطلق عليها «غارديان مانشستر» ذات الحضور اليهودي القوي، جرى تقديم وزير الخارجية البريطاني جيمس بلفور إلى قادة في الحركة الصهيونية، ومن هنا جاءت فكرة وعد بلفور.
هذا ليس موضوعنا ولكنه تذكير بالدور الكبير والمنحاز للاعلام البريطاني في دعم الحركة الصهيونية ممثلة باسرائيل، في الماضي وإلى درجة أقل في الحاضر. وهذه ليست تهما تلقى جزافا، بل هذا الانحياز هو ما توصلت اليه دراسة حول دور وسائل الإعلام البريطانية المرئي منه على وجه الخصوص، في قضية الشرق الاوسط، اجرتها جامعة غلاسكو الاسكتلندية في مطلع القرن الحالي.. واثبتت الدراسة أن هناك انحيازا كاملا، بل وتشويها للحقائق بطرح القضايا منقوصة. غير أن القضية الفلسطينية بعدالتها نجحت في تحقيق الاختراق والانعطاف في الاعلام، لاسيما الصحافة، والفضل يعود إلى عوامل عدة منها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ حجم التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني على مدى حوالي قرن من الزمن ولا يزال من دون هوادة، لإحقاق الحق واستعادة حقوقه في دحر الاحتلال وتحقيق الاستقلال.
ـ انتفاضة اطفال الحجارة عام 1987، فإليها يعود الفضل الاكبر في تحقيق الانعطاف والتحول الكبير في التعاطف مع الشعب الفلسطيني.. فلا تزال صور جنود الاحتلال وهم يكسرون عظام الاطفال حية وشاهدة على جرائم الاحتلال.
ـ انتفاضة الاقصى التي استخدم فيها جيش الاحتلال طائراته واسلحته الفتاكة ضد المدنيين العزل.
ـ الحصار الذي يفرضه الاحتلال على مليوني فلسطيني في قطاع غزة منذ حوالي عشر سنوات.
ـ الحروب الثلاث التي نفذتها حكومات الاحتلال المتعاقبة على قطاع غزة والمجازر والجرائم التي حصلت.
ـ تنكر دولة الاحتلال لما يسمى تجاوزا اتفاقيات السلام وسياسة الاستيطان وسرقة الاراضي التي تواصلها حتى الان خلافا للاجماع الدولي.
ـ غطرسة اسرائيل وتراجع نفوذ ماكنتها الاعلامية في وجه تطور وسائل الاعلام «الشعبية» في نقل الخبر والصورة التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي على الانترنت. وتطور ووعي الشباب لاهمية استخدام هذه الوسائل وحسن استخدامها.
ـ حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني التي انطلقت في السبعينيات ووضعت الأسس ومهدت الطريق امام حركة المقاطعة «BDS» التي تقود حاليا النضال ضد اسرائيل في الخارج وتحقق الانتصارات.
ـ وللتاريخ فقط لا بد من الاشارة إلى الدور المحوري الذي لعبه الاتحاد العام لطلبة فلسطين بفروعه المختلفة، لا سيما في المملكة المتحدة الذي كان لي شرف تأسيسه في مطلع السبعينيات ورئاسته لست سنوات، في زرع بذور التغيير التي بدأت تؤتى أكلها، في الجامعات البريطانية والاتحاد الوطني للطلبة في بريطانيا الذي تقوده الان رئيسة تؤيد المقاطعة، حيث كان الصراع على اشده بين الجمعيات اليهودية التي كانت تجول وتصول، ونجاح الاتحاد في دحر هذه الجمعيات وفرض نفسه كأحد الروافد الاساسية للثورة الفلسطينية ومتحدثا باسمها في غياب التمثيل الرسمي.
الرأي العام العالمي تغير ويتغير لصالح القضية الفلسطينية والدعاية الصهيونية إلى زوال. ولكن الطريق لا يزال طويلا ولن يكون مفروشا بالورود.. المعركة لا تزال في بداياتها والمطلوب مضاعفة الجهود.. ومهما كبرت الانتصارات الاعلامية، يبقى صمود الشعب الفلسطيني على ارضه، وتواصل نضاله بكل مؤسساته المدنية وغير المدنية، وتطوير هذا النضال والارتقاء، هو الأصل.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

الدعاية الصهيونية إلى زوال

علي الصالح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hassan:

    القول بكلمة ” إسرائيل ” هو في حد ذاته جرم ضد الإنسانية جمعاء. النطق بتلك الكلمة هو نسف كلي للحق الفلسطيني لذلك عمل الصهاينة على ترسيخ تلك الكمة ثم توثيقها في الكتب وفي المعاجم حتى ينسى العالم كلمة فلسطين أرضا ووطنا للفلسطينيين. ولكن ما حدث هو عكس ما أراد الصهاينة .

  2. يقول سليمان سوريا:

    لقد فشل الفلسطينيون من تحقيق أهدافهم عندما كان أكثر من ثلاث أرباع العام يقدمون الدعم والمساندة للفسطينيين قبل انهيار الاتحاد السوفياتي واليوم بعد أن حصل ما حصل من انهيار للدول العربية أظن أن القطار فد فاتنا

إشترك في قائمتنا البريدية