عدّت الأوساط الأكاديمية، والفكرية، التونسية في باب «المفاجأة» أن يصدر المؤلف عملاً روائياً، هو المعروف بشخصية الأستاذ الجامعي والمفكر اللغوي والناقد، صاحب «الاستدلال البلاغي»، و»المعنى المحال»، و»توجيه النفي»، و»جمالية الألفة: النصّ ومتقبّله في التراث النقدي»، و»نظريّة الأعمال اللّغويّة»، و»تخييل الأصول: الإسلام وكتابة الحداثة».
والحال أنّ بعض أفضل عناصر هذه المفاجأة، وهي سارّة بادىء ذي بدء، لا يكمن في إصدار رواية، بمعنى النوع الأدبي الذي يحاور الأشغال الأكاديمية، فحسب؛ بل كذلك في أنّ المبخوت يخرج على المشهد الأدبي التونسي بهذه الرواية تحديداً: التسخير العالي لمختلف فنون السرد، على نحو لا ينمّ إلا عن تمرّس مديد؛ واقتراح كوكبة مدهشة من الشخوص، حول شخصيتَيْ عبد الناصر وزينة، التي يتقصد المبخوت تقديمها في هيئات روائية متخيَّلة تارة، وتمثيلات واقعية وشبه تنميطية طوراً؛ وإقامة تناغم ماهر، وماكر في الواقع، بين مشاهد السرد والحكي، ومشاهد الكلام والحوار، والمشاهد المتقطعة الأقرب إلى السيناريو السينمائي، فضلاً عن تنويع القواميس اللغوية الفردية بين متكلم وآخر في غمرة هذا كله؛ ثمّ، أخيراً وليس آخراً، القبض على قضايا شائكة، اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية وثقافية وحزبية (بل وإعلامية ونسوية أيضاً!)، في تونس الحبيب بورقيبة ومطالع عهد زين العابدين بن علي، ولكن في تونس أخرى أعمق من هذه السطوح، متحوّلة ومعقدة وديناميكية، حيث الأمل والخيبة، واللذة والاغتصاب، واختلاط الحدود بين اليسار واليمين والوسط… كلّ هذا بما يوظّف الفنّ الروائي ويكرّمه، لا بما يختزله أو يخسفه إلى محض استعراض لوقائع وملفات وحوليات.
من الرواية، الفصل المعنون «رواق الوجع والألم»: «كانت زينة متوترة وكان عبد الناصر هادئاً أو يتصنع الهدوء. عمّت الفوضى في المشرب، تدافع الطلبة للخروج إلا عبد الناصر. أمسك زينة من يدها. انزويا في الركن الأيسر من المشرب. وضعها وراءه وفتح يديه يرسم بهما في الركن مثلثاً. وضعت زينة يديها على كتفيه. التصقت محتمية به من خطر محدق. أحسّ بصدرها الناهد في ظهره. دفنت رأسها بين كتفيه. شعرت بخوف شديد ممزوج بسعادة غامرة، «لحظة انتشاء يجتمع فيها تاتانوس وإيروس» على ما قالت له بعد أن انتهى كل شيء. لم تعد تسمع شيئاً. خرجت من ضجيج المشرب والساحة لترحل في مروج القمح الأصفر الذهبي التي تزيّنها هنا وهناك حمرة شقائق النعمان، أو البوقرعون كما يسمى في قريتها. رأت، لحظتها، ما ملأت به الأيام، لسنوات طوال، عينيها فألفته».
دار التنوير، تونس 2014.
342 ص.
الرواية مرشحة ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر (الجائزة العالمية للرواية العربية)
لمزيد المعلومات يمنكم الاتصال بي على المايل [email protected]