الدورة 69 للجمعية العامة… إيبولا والمناخ والإرهاب… وغزة الغائب الأكبر

■ المشهد يتكرر- نيويورك تعيش أسبوعين أو ثلاثة في النصف الثاني من أيلول/سبتمبر حالة هستيرية نسميها هنا كابوس الجمعية العامة. تغلق الشوارع وتقام الحواجز، وتنتشر كلاب مكافحة المتفجرات، وعشرات الألوف من الشرطة وسيارات الليموزين الفارهة التي تلحق بها، وتتقدمها عشرات السيارات السوداء المليئة بالحراس ورجال ونساء الأمن. يتم تفتيش الداخلين إلى المبنى مرة وراء مرة. نضيع في المبنى الذي نعرفه جيدا لعشرات السنين، لكثرة ما يتم تقطيعه بالحواجز الداخلية للتسهيل على الرؤساء، مقابل التنكيد على الموظفين والصحافيين والمدعوين. ينتعش الاقتصاد في نيويورك لوصول هذا العدد الهائل من الدبلوماسيين ومساعديهم، الذين يملأون فنادق المدينة. كثير من الوفود يعتبر رحلة نيويورك فرصة «لشم الهواء»، أي التفسح وشراء هدايا لكل أفراد القبيلة. المستفيد الأكبر من انعقاد الدورة أصحاب الفنادق والمطاعم وشركات الحراسة والأمن وسيارات الليموزين وصالونات الليل والتدليك (بالتأكيد) ومحلات الهدايا والملابس والجواهر الثمينة، وقلة من يستفيد من الرحلة ليشاهد أجمل متاحف الدنيا وأغناها، أو يشاهد مسرحية في منطقة برودوي الشهيرة، حيث يستمر عرض بعضها سنوات طويلة. المدينة في هذا الفترة تسترجع ضعف الأموال التي تدفعها الولايات المتحدة للمنظمة الدولية مساهمة في الميزانية. ورغم هذا، كثيرا ما يبتز الجالس في البيت الأبيض المنظمة الدولية بتأخير إرسال الأموال المستحقة كي يجبرها على الخنوع.
إذن ابتدأت في نيويورك أعمال الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة بمشاركة 140 رئيس دولة أو رئيس حكومة. وقد انطلقت أعمال الدورة بثلاثة مؤتمرات رفيعة المستوى: مؤتمر خاص حول وباء إيبولا (الجمعة 19/9) وقمة حول التغير المناخي (الثلاثاء 23/9) وقمة مجلس الأمن على مستوى الرؤساء حول الإرهاب والإرهابيين الأجانب (الأربعاء 24/9) تحت رئاسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، لأن بلاده تترأس المجلس للشهر الحالي. كما عقد مؤتمر حول السكان الأصليين استمر يومين (23-24). خصص لكل متحدث خمس عشرة دقيقة، غير أن الكثيرين أعطوا أنفسهم مزيدا من الوقت، خاصة البلد المضيف، حيث استغرق خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما 39 دقيقة. رئاسة الدورة 69 كانت من نصيب القارة الأفريقية التي اختارت وزير خارجية أوغندا سام كاهمبا كوتيسا رئيسا للدورة.
المواضيع التي تكررت في كل خطاب تقريبا هي مواضيع المؤتمرات نفسها التي ميزت بداية المؤتمر. وسنمر على ثلاثة مواضيع تكررت في الأيام الأولى لكلمات الوفود، لكن غزة التي تعرضت لمجزرة بشعة قبل أقل من شهرين كانت الغائب الأكبر، فلم ترد كلمة غزة في خطابات بعض الرؤساء العرب، الذين راح بعضهم يتحدث عن دولة من صناعة الخيال وصلت مرحلة الاستقرار الديمقراطي وسيادة القانون وحرية التعبير والتجمع وفصل السلطات واستقلال القضاء والمواطنة المتساوية. ولو لم أكن أعرف من هو المتحدث وسألتني عن أي بلد يتكلم ذلك الخطيب لقلت، إما السويد أو النرويج أو آيسلندا. غزة كانت يتيمة على مائدة عصابات لئيمة. ولولا الكلمات القوية التي ألقاها أمير قطر والرئيس التركي أردوغان ورئيسة الأرجنتين، لما كانت ظهرت غزة على رادار الجمعية العامة. ولنستعرض بعض المسائل المهمة.

الإرهاب

لقد جعلت الولايات المتحدة وجوقة حلفائها الصغار والكبار موضوع الإرهاب، الموضوع الأساس في هذه الدورة، ولا أشك أن هناك نوايا سيئة على طريقة قول كلمة حق يراد بها باطل. فقد لا تختلف دولتان في الدورة على أن الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» جماعة إرهابية مجرمة لا تنتمي إلى الحضارة الإنسانية وهزيمتها لا تحتمل التأجيل. لكن أن تتحول «داعش» إلى موضوع جوهري لا يوجد ما هو أهم منه، هنا يثار التساؤل. من خلق «داعش» ومونها وسهل لها المرور إلى الداخل السوري؟ ثلاث سنوات و»داعش» وأخواتها يتمددن في كل أنحاء سوريا، لكن ظلت الأمور طبيعية ولا حاجة للسرعة ما دام العرب يقتلون بعضهم بعضا وما دام تفكيك سوريا مستمرا وما دام النظام مستفيدا من وجود هذه الجماعات فلا بأس أن تتمدد كي يصبح الخيار أمام الشعب السوري واضحا: الإرهاب الذي تمثله «داعش» أم القهر والاضطهاد في ظل الاستقرار القائم على الخوف؟
كانت جلسات الجمعية العامة في أيامها الأولى وجلسة مجلس الأمن، التي خصصت لبحث الإرهاب، فرصة لكثير من الدول الكولونيالية أن تحاضر العرب والمسلمين عن التسامح وقبول الآخر والانفتاح، متناسين ما ارتكبوه من جرائم واستغلال واستعباد واستعمار واحتلالات عديدة وحروب إبادة ضد السكان الأصليين. أما الذي يزيد من حنق المراقب لهذه المعزوفة من الخطب العصماء، تناسي إسرائيل ولو من نوع رفع العتب. لم تجف بعد دماء الغزيين حتى يتم تناسيها بهذه السرعة، لذا فالتوسع في إظهار خطر «داعش»، لا نشك أنه مقصود من أجل التغطية على إرهاب الدولة الذي مارسته كثير من الدول الاستعمارية وتمارسه الآن بشكل يومي تلك الدولة الصنيعة للفكر الكولونيالي العنصري البغيض، الذي يعتبر الآخر أقل تحضرا وأقل قيمة وقتله بآلات حديثة من مسافة بعيدة من على الأرض، أو من عرض البحر أو من أعالي السماء، لا يؤنب ضمير أحد ولا يستحق دمعة من أحد. إنها ازدواجية المعايير في أبشع صورها.

التغير المناخي

لقد كانت قمة المناخ ناجحة بكل المقاييس، ليس فقط للحضور الهائل، بل لهذا الزخم الذي تمخض عن القمة لحشد الجهود لمواجهة هذا التحدي الحقيقي، الذي إذا لم تتم السيطرة عليه الآن سيؤثر على مستقبل أجيال وأجيال وعلى كوكب الأرض نفسه. فالاحتباس الحراري الذي أدى إلى تغير عينات المناخ المستقرة، أدى إلى زيادة الكوارث الطبيعية بشكل حاد. فقد شردت الكوارث الطبيعية 22 مليون إنسان عام 2013 معظمهم كانوا ضحايا للزلازل والفيضانات والأعاصير والرياح العاتية. فمثلا شرد طوفان هايان في الفلبين 4.1 مليون شخص. ولم تسلم قارة أو منطقة جغرافية من هذه التقلبات المناخية، التي أدت إلى تشريد ما يعادل ثلاثة أضعاف ما شردته الحروب مجتمعة في العام نفسه.
لقد عقد المجتمعون العزم على العمل معا، دولا كبيرة أو صغيرة، على تخفيف الانبعاثات الغازية بسرعة والتحول نحو الصناعات الصديقة للبيئة، ثم زيادة إنتاج الطاقات الجديدة والمتجددة التي لا تسبب التلوث، كالطاقة الشمسية والرياح والمياه. وقد التزمت الدول الأعضاء بمبالغ مالية كبيرة من أجل هذا التحول والاستثمار في الطاقات النظيفة، ومساعدة الدول النامية للحاق بركب التقدم والمحافظة على البيئة في الوقت نفسه. وسيلتقي ممثلو الدول في باريس في كانون الأول/ ديسمبر 2015، للتوصل إلى اتفاقية دولية شاملة حول التغير المناخي وسبل حماية كوكب الأرض من الاحتباس الحراري. وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة ليس عندنا خطة بديلة لحماية الأرض لأننا ليس عندنا كوكب ثان بديل عن الأرض لنهرب إليه.

إيبولا

الخطر الذي يمثله وباء إيبولا يستحق مؤتمرا خاصا به، بل العديد من المؤتمرات والنشاطات. داء معد يسبب إسهالات حادة وحمى دموية وينقل عن طريق فيروس سمي باسمه. اكتشف الوباء عام 1976 في الكونغو وجمهورية أفريقيا الوسطى. وكان يعتقد أنه يصيب الحيوانات فقط، إلا أنه انتقل إلى الإنسان. انتشر مؤخرا بداية من شهر آذار/مارس الماضي في ثلاث دول في غرب أفريقيا هي، ليبيريا وسيراليون وغينيا، وأدى إلى مقتل أكثر من 2500 إنسان. بينما يصل عدد المصابين إلى أكثر من 5500. وتواجه البلدان الثلاثة التي تم تشخيص المرض فيها صعوبات اقتصادية اضافية بسبب الخوف الذي أدى بكثير من شركات الطيران إلى إلغاء رحلاتها ووقف بعض خطوط المواصلات البرية وعدم السماح لمواطني هذه البلدان بالسفر أو تصدير البضائع، مما ضاعف مآسيها. حتى ان السعودية قررت عدم منح تأشيرات لمواطني هذه البلدان لتأدية فريضة الحج.
وقد أنشأت الأمم المتحدة بعثة خاصة باسم مرض الإيبولا مهمتها مساعدة تلك الدول في احتواء المرض وتقديم المشورة للدول للتعامل مع الدول الثلاث المنكوبة وجلب الخبراء والتقنيين لمساعدة هذه الدول في التغلب على الوباء. من جهتها قامت الولايات المتحدة بإرسل أكثر من 2000 جندي متخصص في الإغاثة الطبية والشؤون الصحية إلى تلك البلدان للمساعدة في القضاء على المرض.

وأخيرا غزة

كنا نتوقع أن يكون هناك حضور قوي لغزة – أم الشهداء، وبلد الصمود والبطولات. كنا نتوقع أن دموع أطفال غزة الذين فقدوا آباءهم وبيوتهم ومعلميهم ومدارسهم، أن تصل أصحاب الشأن في هذا المحفل الدولي الكبير. كنا ننتظر أن يدخل كل رئيس عربي أو حاكم أو وزير حاملا على ظهره كيسا من معاناة الشعب الفلسطيني التي تعجز عن تحملها الجبال، يفتحه أمام الحضور ويشرح لهم قصة كل قطعة ضمها الكيس فيقول: هذه بقايا ثياب الشهيد الصغير أحمد، وهذه كتب الصغيرة عبير التي لطختها دماؤها عندما سقط فوقها صاروخ. وكنا نعتقد أن العائلات التسعين التي فقدت على الأقل ثلاثة من أفرادها أن يكونوا حاضرين في الجلسة، أو أن يكون هناك من يتأكد أن يكون لهم حضور. لكن أملنا خاب خاصة في بعض الدول الشقيقة التي ما زالت محكومة بعقدة الشيطنة. لكن شيئا من أمل عاد لنا ونحن نسمع الكلمات القوية والجريئة التي أطلقها الشيخ تميم أمير قطر، الذي طالب باعتماد قرار تحت الفصل السابع لإجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة. إنه الوحيد الذي تجرأ أن يحيي صمود الشعب الفلسطيني، كما أدان العدوان على غزة وعلى الشعب الفلسطيني. والصرخات التي نفثها أردوغان ضد الظلم ونفاق الأوروبيين واختلال الموازين داخل مجلس الأمن، والخطبة القوية التي أطلقتها كريستينا فرنانديس ضد الدول التي تمارس الإرهاب الاقتصادي عن طريق المؤسسات المالية ودعوتها القوية لإقامة دولة فلسطينية متساوية تماما مع الدول الأخرى. ننتظر مزيدا من المداخلات في الأيام القليلة القادمة، خاصة خطبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لنرى كيف يعالج موضوع غزة، الذي وعد أن تكون كلمته حاسمة يطالب فيها بإنهاء الاحتلال خلال ثلاث سنوات.

٭ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك

د. عبد الحميد صيام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد بلحرمة المغرب:

    هي في حقيقة الامر اجتماعات روتينية داب ما يسمى بالمجتمع الدولي عقدها كل سنة في شهر ايلول في مقر الجمعية العامة للامم – المتحدة – لدراسة ازمات وكوارث ومواضيع تعصف بهدا العالم ولا سيما المنطقتين العربية والاسلامية هي من صنع الولايات المتحدة وحلفاؤها الاوربيين الدين يعبثون بامن هدا العالم ويتظاهرون بعكس دلك من خلال تصريحاتهم وخطبهم المعسولة ونفاقهم المخجل واكاديبهم الواضحة وكيلهم بمكيالين فادا كانت الولايات المتحدة تحاضرنا عن ظاهرة الارهاب وتحدر من اخطاره وتتباكى على ضحاياه وتحشد التوابع لاجل محاربته وتطالب خزائن النفط من اجل دفع فواتير اجتثاته بطبيعة الحال ليس حبا ولا خوفا على مصير البلدان العربية وانظمتها المهترئة وشعوبها ولكن خدمة لمصالحها ومصالح كيانها المصطنع
    فمن صنع هدا الغول المتوحش؟ ومن دربه وحقنه باسباب القوة وامده بكل لوازم الحياة والاستمراروسهل له العبور للاراضي السورية والعراقية؟ ثم من اعطى الحق للولايات المتحدة لتعريف الارهاب حسب مفهومها المنحرف وحسب مصلحتها؟ الم تصف الولايات المتحدة الارهاب الصهيوني الفائق في وحشيته في غزة بانه – دفاع
    عن النفس -؟.ان المسلسل الدي يتكرر كل سنة في نيويورك ويحضره العديد من رؤساء الدول والحكومات لا يعدو كونه اجتماعا استعراضيا خاليا من كل مضمون بفعل عدم جدية القوى الكبرى في حل مشاكل العالم بل العكس هو الصحيح فهي من يعمل على تفاقمها خدمة لمصالحها.

  2. يقول خليل ابورزق:

    النذالة في تخيير الشعوب العربية بين الاستبداد او الفوضى. الاستبداد او التردي امنيا و اقتصاديا و اجتماعيا. رأيناه بعد ان اهتزت الانظمة في 1967 ثم اثر الثورة الاسلامية في ايران 1978 التي اطاحت بالشاه فدخلت البلاد في حالة فوضى و دماء حتى قال السادات في خطاب له هل تريدون ان اقلبها الى ايران دموية واجعل كل امرأة تلبس خيمة؟ ثم اتخذذوا من حالة الجزائرفي التسعينيات بعبعا لكل من يطالب بالحرية. وهذا ما نراه من اليوم من عقوبات لثورة الشباب العربي منذ اواخر 2010 حتى الان. و اعتقد ان الحكومات العربية اياها ستعطل اعمار غزة عقابا لها لانها ايقظت بعض الكرامة العربية

  3. يقول طه الجزائري:

    شكرا سيدي الكريم تحية طيبة و بعد في بداية المقال اصدقك القول انني سررت ايما سرور و كاني اتجول في نيورك و انت تصفها خلال انعقاد الجمعية العامة للامم المتحدة خاصة و اني مشتاق لزيارة الهيئة الاممية فقد كنت رائعا بوصفك الدقيق لما يجري في هذه الهيئة و حولها سيدي الكريم. غير ان غزة و فلسطين الجريحة نقلت ذلك الشوق لزيارة الامم المتحدة من جهة الشرق الى فلسطسن . لقد خاطبت المشاعر سيدي عند تعرضك لشهداء غزة و اطفالها و حصارها و تدميرها لا يسعني مرة اخرى الا ان اشكر كل شعب غزة و الشعب الفلسطيني الذي استطاع ان يبعث هذا الشوق في قلب كل حر عبر العلام

إشترك في قائمتنا البريدية