الدولة الريعية والانتقال إلى الديمقراطية

حجم الخط
2

تحتاج دول الثروة البترولية والغازية العربية، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، طرح السؤال التالي: هل أنها كدول ريعية، يعتمد دخلها المالي بصورة شبه كاملة على ما تبيعه من البترول والغاز إلى الخارج، ستكون قادرة في المستقبل على المواءمة بين اقتصادها الريعي وعقليتها الريعية، وبين ضرورة انتقالها إلى نظام ديمقراطي، بدون تعديلات جوهرية في كل مكونات ذلك النظام الريعي؟
هذا موضوع بالغ الأهمية ويحتاج أن يناقش باستفاضة، خصوصا بعد أن طرحت ثورات وحراكات الربيع العربي موضوع الديمقراطية بقوة على جميع المجتمعات العربية، الغنية منها والفقيرة. وهذا الموضوع وبقية الشعارات التي طرحتها الملايين في ساحات المدن العربية ستبقى معنا لعقود طويلة.
لنذكر أنفسنا بأن دول البترول والغاز العربية تعتبر دولا ريعية لأن اقتصادها اقتصاد ريعـــي، يقوم على بيع مادة وهبتها الطبيعة، مادة البترول، إلى الخارج، ثم تستلم القوى القائمة على شؤون الدولة ثمن ذلك الريع وتتصرف بتوزيع وإنفاق جزء منه، حسبما تراه.
وإذن فنحن أمام اقتصاد لا يقوم من خلال الجهد والإبداع والمخاطرة، الأمر الذي يقود إلى بناء مجتمع وبشر بعقلية ريعية قوامها: جهد قليل ودخل كبير. وهذا بدوره يولد مشاعر الاسترخاء في المجتمع، وعدم رغبة المواطنين في الانخراط في الحياة السياسية، وفي القيام بأي واجبات تحتاج إلى جهد وتعب. فإذا أضيف إلى ذلك أن الدولة، المستلمة لعائدات الريع البترولي والغازي من الخارج، المكتفية بتلك الثروة التي تستلمها، لن تحتاج في هذه الحالة لجهد مواطنيها لتوليد ثروة تستلمها الدولة عادة في شكل ضرائب وثمن خدمات، فإننا أمام مشهد مركب: دولة مستغنية عن جهد مواطنيها وقادرة على تقديم بعض الخدمات المعيشية الأساسية لمواطنيها، ومواطنون سعيدون بالذي يحصلون عليه بدون عناء ولا بذل جهد. إنها معادلة فيها كل الإمكانيات التدميرية للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وهي حياة مناقضة لكل ما تقوم عليه الديمقراطية من متطلبات، وعلى الأخص مبدأ المواطنة، والأسباب؟
1 ـ نحن أمام سلطة دولة تستلم ثروة الريع الخارجي بكامله وتوزعه حسب مبدأي الولاء والزبونية من جهة، والانتماء الفرعي غير الوطني الطائفي أو القبلي أو العائلي، من جهة أخرى. ولن يكون ذلك التوزيع قائما على العدل والإنصاف والأولويات المجتمعية والالتزام الأخلاقي بالفقراء والمهمشين.

2 ـ في تلك الأجواء لا يمكن أن تنمو مفاهيم المواطنة القائمة على غياب ممارسات التمييز والمحسوبية، على المساواة في الفرص الحياتية والحقوق والواجبات وأمام القانون، على العضوية الكاملة في الحياة السياسية، خصوصا الحياة السياسية الديمقراطية التي تحتاج لنجاحها إلى فاعلين ومشاركين يمثلون المجتمع ويدافعون عن حقوقه أمام إمكانية تغول الدولة وممارساتها الخاطئة.
3 ـ هناك ارتباط وثيق بين امتلاك السلطة، والعكس صحيح أيضا، إذ أن من يملك السلطة يملك الطريق إلى الثروة. وبالطبع فالحديث عن إمكانية قيام مجتمع ديمقراطي، حيث تمتلك أقلية الثروة والسلطة، هو لغو وتهريج تكذبه وقائع تاريخ البشرية عبر كل العصور.
هل كل ذلك يعني عدم إمكانية قيام نظام ديمقراطي في أي دولة يقوم اقتصادها على دخل ريعي خارجي لمادة واحدة، كما هو الحال بالنسبة للدول العربية البترولية والغازية؟ الجواب هو بالطبع كلا.
بالإمكان الانتقال إلى نظام ديمقراطي في دول مثل هذه، إذا حصل إصلاح جذري في نظام الاقتصاد الريعي، إنتاجاَ للريع وبيعا واستلاما للثروة وتوزيعا لها، واستغلالا لجزء منها في توليد ثروة إنتاجية قائمة على الجهد والتنظيم، وسيطرة ومراقبة مؤسسية مجتمعية لكل تلك الجوانب. عند ذاك ستكون ثروة الريع تلك ثروة مساعدة في خلق نظام اقتصادي يصب في صالح الممارسة الديمقراطية بدلا من نظام يشوهها ويحيلها إلى ممارسة مظهرية لا تخدم عموم المواطنين.
لقد جرى التركيز على الدول العربية النفطية الريعية، لأن ذلك الريع يقرر نوع كل مناحي الحياة فيها. لكن، في الواقع، فإن جميع الدول العربية هي دول ريعية بشتى الصور والأشكال والممارسات، وفيها جميعا بنيت شرائح ريعية طفيلية تقف الدولة على رأسها وتشجع استمراريتها، وذلك من مثل ريعية الأراضي التي توزع أو المشاريع والوكالات التي ترسي، حسب الولاء والزبونية أو بيع الجنسية أو بيع الجوازات في مضاربات الأسهم . إنها ممارسات تنسجم تماما مع عقلية وتنظيم القبيلة التي تضرب في أعماق كل ارض العرب وتقوم على توزيع المكرمات حسب الولاء والقرب.
مستقبل الديمقراطية في مجتمعات كهذه يحتاج إلى تغييرات جذرية في العقليتين الريعية والقبلية، وهو طريق طويل لابد من السير فيه، إلى نهايته.
كاتب بحريني

د. علي محمد فخرو

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو سالم:

    شكرًا لحضرتك أستاذ علي فخرو،كل ما قلته صحيح،وهذا بالضبط سبب التخلف والنمو في ارجاء العالم العربي،وخاصة دول البترول والغاز،فكلما أراد الغرب تهديد هذه الأنظمة في ارباحها كلما تحكم في الأسعار وكأنه هو السيد المنتج،كاما أراد اذلال هذه الحكومات اختلق لها مشاكل سياسية بل وحروب طاحنة كما يحصل الان،هناك دولة إسلامية،هناك قبلها القاعدة،هناك المجموعات التكفيرية،هناك ايران،دون الإشارة الى اسراءيل ولو بكلمة واحدة،وووووو،حتى تتشابك المشاكل في بعضها البعض،وترعب الحكام وتجبرهم في الدخول في حروب طاحنة وهذا يحتاج الى تسابق في التسلّح والتناحر بين دول الجوار،الحرب العراقية الإيرانية كلفت دول الخليج انفاق ما يقارب ترليون دولار،وهذا مبلغ باهظ عانت منه دول الخليج الامرين،ولا حاجة للإطالة في أشياء اخرى وكل ذالك يرجع الى التفرد في الحكم في هذه الأنظمة،والنصيحة اللتي تأتيهم من صناع القرار في دول الغرب،

  2. يقول خليل ابورزق:

    عندما يتحتم التغيير فلا محال للاختيار. فاما اعتدلت واما اعتزلت. و للاسف و مما رأينا فان هذه الانظمة عصية على التعديل

إشترك في قائمتنا البريدية