لا يزال العقل العربي متعنتا أمام سبل خلاصه، متجاهلا كل ما هوعليه، يستعذب النوم، مرجحا فرضية التغير التاريخي الحتمي، الذي يضمنه الله لهذه الأمة، فهي «الأمة الناجية» ولن تخذل، إذ فضلت على العالمين.
فمنذ سقوط الخلافة بعد حالة الانسداد التي شهدتها الامبراطورية العثمانية، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية البحث عن مرحلة جديدة، ظلت الدولة العربية تحاول تجديد بنيتها الهيكلية، ضمن عملية تشييد الدولة من الصفر ـ ما أفضى إلى دوام تعقد الفكر السياسي العربي، الذي أبقى على حالة الانحلال والتخبط الدائمين، يعكسه واقع التفتت الراهن للفضاء العربي الموزع على دول متعددة، ترفض خلق فضاء مشترك للتعاون في ما بينها، رغم وجود مسميات اتحادية موؤدة منذ البداية (جامعة الدول العربية ـ منظمة المؤتمر الاسلامي- اتحاد المغرب العربي- الاتحاد الأفريقي….).
ومن المؤكد أن الخطاب العربي مازال دون المطلوب، أو لعله جاهل تماما لطبيعة الصراع وحقيقته، ذلك أن الاستمرار في إحكام الأقنعة لهدف تصفية القضايا العربية، وأهمها القضية الفلسطينية «الجرح الغائر» منذ سنين، وجعلها مسرحية مفتوحة في حيثياتها، خطاب سياسي مراوغ وماكر من طرف اللوبيات الصهيوأمريكية لتقديم الخدمة التي ليس لها أمد للمشاريع الامبريالية الأمريكية والغربية، في منطقة تنام على ثروات، تعتبر محرك الآلة الصناعية الغربية وكذلك وليدتها الحربية، التي في المقابل اكتفى العرب بمراقبة صورها المشهدية المبدعة على مدى قرنين، حاصرين دورهم في صب البنزين في محركاتها، حاذرين من إمكانية الغفل فتتوقف عداداتها. وهم إلى الآن مازالوا متمسكين بالنظريات المسقطة والشعارات والمثاليات والطوباويات الهاوية تاريخيا، التي جعلت العالم العربي خارج حركة التاريخ، على امتداد القرن العشرين خاصة – قرن الإبداع الامبريالي المتوحش الذي حقق أكبر مساعيه ومشاريعه في منطقة أهل الكهف – الذين لم يؤذن لهم بعد بأن ينهضوا ليروا النور أو ليطرحوا خطاب مواجهة علمية وحضارية يكون فاعلا ومجديا نظرا وعملا.
الأكيد أن تيار القومية والاشتراكية خفت، ليعلو مكانه تيار التعصب الديني اللاعقلاني، الذي خدم مشاريع الهيمنة وسوغ أحقية الرد الامبريالي الغربي بكل وحشية، مختصرا مسافات أهدافه الاستراتيجية. هذا تحديدا ما أكده الفهم الإسلامي الراديكالي، الذي نظر وتحدث عنه كثيرون، خاصة برنارد لويس ولوران مورافيتش، كخطابات غربية ايديولوجية موجهة في مجملها.
فشلت التجربة القومية ومحاولة البحث عن الهوية العربية المشتركة، وتوفير بيئة قومية اتحادية. كما فشلت التجارب الاشتراكية والشيوعية في هذا الوطن الممتد من النهر إلى البحر. أما الخطاب الديني الغالب فهو يأخذ شكل التعصب، ويحمل سمات فشله في منهجه الذي يسير وفقه، معمقا في ذلك واقع المواجهة، ولكنه للأسف غير خاضع لمنهج عقلاني، وكيف يكون وهو وليد تدين منغلق لا تساؤل منفتح. تلك بنيته، كثيرا ما يتوقف عن التفكير أو لعله توقف تماما عن ذلك، بالنظر إلى البديل الذي يطرحه من جهة شكل الدولة وطبيعة التعايش المدني ورفض المؤسسات. ولعله جزء من فهم بررت به بعض الأقلام الغربية المظللة في مجملها، في طريقة تحليلها لطبيعة الوقائع في العالم العربي والإسلامي، في علاقته ببقية القوميات الغربية وسيرورة الأحداث الجارية من أن الشعوب العربية غير مؤهلة للديمقراطية وللحياة المواطنية. وذلك المسعى إلى إلباس الصراع السياسي الجيوستراتيجي الحقيقي ثوب المعتقد الديني وصراع الحضارات، تؤكده أحداث بداية الألفية التي نعيشها، وما هو إلا «صراع جهالات» في حقيقة الأمر، اذا ما استحضرنا عبارة إدوارد سعيد أو بالأحرى «تسييس حضارات».
ولكن أمام خطر يهدد وجودنا ويخترق أمننا القومي قطرا بعد قطر ويمارس كل أنواع الحقارة الاستعمارية والاستيطانية لإخواننا العرب المسلمين، الذين يتمسكون بحقهم في تقرير مصيرهم واسترداد أرض افتكت منهم غصبا تحت شعار يهودي قلب الأدوار تاريخيا بمقولة مضحكة ومقرفة في آن واحد لهرتزل: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وجلب أفرادا تائهين مكنهم من وطن أخرج منه سكانه الأصليين. أمام كل هذا هل نرفض خطاب المواجهة وثقافة المقاومة وكل أبجديات الممانعة، ونقف مع تسوية مسدودة؟ هل نتجاهل الخطاب الذي يصرح بلهجة واضحة وصريحة للعالم الغربي الرأسمالي والامبريالي المتغطرس بأنه معاد لطموحاته الامبريالية ولكيانه الوظيفي إسرائيل؟ ألم يحن الوقت لنتخلص من تلك الشبهات الدينية التي يؤججها الخطاب الغربي الماكر بين مختلف الأقطار الاسلامية؟ وهي مساع هدفها الأساسي تغييب العقل العربي والإسلامي عن واقعية الصراع وحقيقته.
وقد بات واضحا منذ حرب تموز/يوليو 2006 أن خيار المقاومة خيار فعال فرض نفسه كمتغير مهم واستراتيجي في المنطقة، قادرعلى تغيير المعطيات على الأرض في ظل عجز عربي رسمي وصمت اسلامي مريب، واكتفاء باستجداء الولايات المتحدة الأمريكية والرأي العام العالمي والمنظمات الدولية والتنديد والتشذيب المتواصل من موقع المتفرج. ومن الطبيعي أمام هذا العجز والصمت العربي أن يتواصل العدوان الصهيوني على فلسطين في أبشع صوره.
يبدو أننا في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التخلي عن تلك الحساسيات الدينية وتركها جانبا لسلبيات نتاجاتها، ونفهم أننا إزاء صراع سياسي لا غير مهما سعت الايديولوجيات الغربية إلباسه ثوب المعتقد الديني وتمريره في أزياء مختلفة. ومن المؤكد أن مشروع الممانعة اذا ما واصل تبني جميع المناهج العقلانية والتكتيكية وحظي بدعم الأمة سوف يحفظ لها كرامتها ويخلصها من هشاشة الموقف خلافا لمبادرات الهوان الأخرى التي تعمق رداءة الموقف وهزاله وانهزاميته في حرب ايديولوجيات ومصالح فرضت علينا ونحن المسالمون.
٭باحث في الحضارة من تونس
لطفي العبيدي