إن الأمريكيين انتخبوا في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي شخصية لا تليق بمنصب الرئاسة، هو أمر لا يوجد حوله الكثير من الخلاف، لا في الأوساط السياسية الليبرالية ولا المحافظة، لا داخل أمريكا ولا خارجها. مشكلة دونالد ترامب ليست أنه جاء إلى السياسة، والسياسة في أعلى مواقعها، من حقل الأعمال والاستثمار. الحقيقة، أن العلاقة بين دوائر السياسة ودوائر المال في الولايات المتحدة قديمة، عميقة الجذور، ووثيقة، المشكلة أن الرجل يبدو سطحياً، يفقتد القدرة على فهم القضايا المركبة، ويتعامل مع المسائل السياسية الكبرى بانطباعية مباشرة. وإلى جانب تصوره لعملية إدارة أكبر دول العالم وأكثر تأثيراً وكأنها إقطاعاً شخصياً، لم يظهر الرئيس المنتخب طوال شهور حملته الانتخابية إدراكاً كافياً لمخاطر المغامرة في اللغة من قبل رئيس الولايات المتحدة. أطلق ترامب خلال العام الماضي، تصريحاً صادماً خلف الآخر، بعضها يمكن أن يؤسس لحرب أهليه، أو لنزاع دولي، بدون أن يرف له جفن.
عموماً، ومهما كان الأمر، هذه هي الديمقراطية. في النظام الديمقراطي، يمكن للشعوب في لحظة ما أن توصل إلى مقعد الحكم معتوهاً، أو مريضاً بالزهايمر، أو أهوج. ولكن فضيلة الديمقراطية أنها توفر للشعوب الفرصة، خلال سنوات قليلة، لأن تعيد النظر في الخطأ الذي ارتكبته، أن تطرد حكامهما من مواقعهم وتأتي بآخرين أكثر مدعاة للثقة. في نظام غير ديمقراطي، يتسلم مقاليد الحكم قتلة ومجرمون وتافهون، مثل رئيس مصر الحالي، أو الرئيس السوري، ولا تستطيع الشعوب حتى مجرد التفكير في إطاحتهم، بدون أن تبدأ حرباً أهلية مدمرة. بيد أن علاقة النظام الديمقراطي بمؤسسة الدولة الحديثة هي أكثر تعقيداً ومدعاة للتأمل من مجرد المقارنة مع الحكم الاستبدادي. وربما تعتبر حالة الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، مثالاً هاماً على هذه العلاقة التي لم تزل تشغل علماء السياسة والمؤرخين منذ بدأ الوعي بطبيعة مؤسسة الدولة الحديثة في التشكل.
منذ بروزه على الساحة السياسية، مرشحاً للرئاسة عن الحزب الجمهوري، أظهر دونالد ترامب نزعة حادة للتميز والخروج عن القواعد المتعارف عليها للحكومة الأمريكية. ندد ترامب مراراً بالطريقة التي تدار فيها شؤون الولايات المتحدة من واشنطن، بدون أن يفرق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ووعد بـ «تنظيف مستنقعات واشنطن». وإلى جانب تقديم نفسه باعتباره خارجاً عن المؤسسة الحاكمة، تبنى ترامب بعضاً من السياسات المثيرة للجدل، والتي يمكن وصفها بالمناهضة لإجماع واشنطن السياسي. ضارباً عرض الحائط باتهامات العنصرية، تحدث ترامب بلغة فجة ضد المسلمين والمكسيكيين والسود، ووعد بتبني سياسات مثل منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، وبناء حائط على الحدود مع المكسيك، تدفع حكومة المكسيك تكاليفه؛ وبنقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس. وحتى حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا لم يستثنوا من تنديدات ترامب، الذي عبر عن قناعته بأن حلف الناتو أصبح من الماضي، وأن الولايات المتحدة، تحت قيادته، ستجعل الدول الأوروبية الحليفة تتحمل تكاليف الدفاع عنها. أما الخروج الترامبي الأكبر عن الإجماع فتمثل في رسائله بالغة الإيجابية والود لروسيا ورئيسها. والمؤكد، بغض النظر عن حقيقة المسؤول عن تلك اللغة والوعود، أن المواقف المناهضة للمؤسسة، والوعود السياسية الغريبة والخارجة عن المألوف، كان لها أثر ملموس في انتصار ترامب الانتخابي المفاجئ.
ما حدث بعد نجاح ترامب في الفوز بالرئاسة يكاد لا تكون له صلة بلغة ترامب ووعوده الانتخابية. من اختارهم الرئيس المنتخب لتولي المناصب الأساسية في إدارته، ينتمي أغلبهم لمؤسسات السياسة والجيش والمال التقليدية. رجال أعمال ومال كبار، جنرالات سابقون، أو حكام ولايات ورجال كونغرس. قلة ضيئلة فقط من المرشحين لإدارة ترامب يمكن وصفها بالشخصيات الغريبة عن المؤسسة. وما إن بدأت جلسات الاستماع، بعد عطلة نهاية العام، الخاصة بإقرار الكونغرس لمرشحي ترامب في مناصبهم، حتى بدأ هؤلاء في إطلاق تصريحات لا تتفق بالضرورة مع وعود الرئيس المنتخب الانتخابية. لم تتسلم إدارة ترامب مقاليد الحكم بعد، ولكن مرشحيه للمناصب الرئيسة، مثل العدل والدفاع والخارجية، تنصلوا من الكثير من السياسات التي كان ترامب تبناها خلال شهور الحملة الانتخابية، وتحدثوا أمام لجنة الكونغرس الخاصة بحذر، وبلغة رجال الدولة المسؤولين، الحريصين على مصالح الدولة الأمريكية وقيمها التقليدية. والمتوقع، كما حدث مع إدارات أمريكية سابقة، أن يتعزز هذا الاتجاه بعد تولي رجال ترامب الحكم. بمعنى، أن تصبح الإدارة أكثر تماهياً مع تقاليد الدولة، وأكثر بعداً عن السياسات الغريبة والمثيرة للجدل. فكيف يمكن تفسير هذا المتغير، خلال هذه الفترة القصيرة بين الفوز في الانتخابات الرئاسية وتولي مقاليد الحكم؟
ولدت الدولة الحديثة، في القرنين السابع والثامن عشر، باعتبارها مؤسسة حكم مركزية، بالغة السلطات. في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبفعل التقدم في وسائل الاتصال والتحكم والرقابة والسجلات، أصبحت الدولة بالغة القوة والسيطرة.
لا يجرد النظام الديمقراطي مؤسسة الدولة من مصادر القوة والتحكم، ولكنه يعمل على عقلنتها وجعلها أكثر استجابة لطموحات الناس وحاجاتهم. يوفر النظام الديمقراطي مساحة كافية لتعبير الناس عن الغضب والرضا، عن ما يرونه صواباً وما يرونه ضاراً، في مناسبات دورية، ويفرض على مؤسسة الدولة وضع مقدراتها وخبراتها في خدمة البرنامج الذي منحه الناس ثقتهم. هذا، إلى جانب مساحات الحرية الأخرى التي تجعل من الناس، المنظمات المدنية المختلفة، الصحافة والإعلام، رقيباً على عملية الحكم خلال السنوات بين المناسبات الانتخابية. ولكن العلاقة بين العملية الديمقراطية ومؤسسة الدولة ليست علاقة من طرف واحد. ليست الدولة مؤسسة سلبية، تتلقى، وتستمع، وتنفذ، بصورة آلية؛ ولا هي كيان مصمت، ترثه الحكومات المنتخبة عندما تتسلم مقاليد السلطة، وتورثه لمن يأتي خلفها عندما تترك مقعدها. الدولة نفسها كيان حي، يحتفظ بضمير وتقليد وقيم، ولديه تصوره الخاص لمصالحه وكيفية المحافظة على هذا المصالح. والأهم، أن الدول كيان قادر على إعادة توليد ذاته، وبالتالي، إعادة توليد القيم والتقاليد والمصالح.
كما يقوم النظام الديمقراطي بعقلنة مؤسسة الدولة وجعلها أكثر حساسية لإرادة الشعب، تعمل الدولة على ضبط جموح الحكام المنتخبين، ونقلهم إلى مواقع أقرب إلى تقاليدها المستقرة، قيمها، وتصورها لما هي مصالحها الكبرى. يمكن لإدارة ترامب، مثلاً، أن تعلن عزمها تحسين العلاقات مع روسيا، تماماً كما كانت إدارة أوباما قد فعلت في 2009. ولكن ترامب لا يستطيع التنازل عن مصالح أمريكية حيوية في أوروبا من أجل تحقيق هدفه. والواضح، أن ليس ثمة ما هو جديد في نظرة ترامب للصين باعتبارها قوة تمثل تهديداً للولايات المتحدة. هذه هي ذاتها السياسة التي أخذت في التبلور منذ إدارة بوش الابن الثانية، وطوال عهدي أوباما. اليوم، تحيط الولايات المتحدة الصين بما يقارب المئتي قاعدة ونقطة تسهيلات عسكرية. ما يستطيعه ترامب، هو تبني طرائق مختلفة قليلاً عن مقاربة أوباما للصين.
الدول الحديثة في نموذجها الغربي، الديمقراطي، لا تلتقط من قارعة الطريق، بل هي مؤسسات عميقة الجذور. والسياسات التي تتعهدها الإدارات المنتخبة، مهما كان حجم انتصارها الانتخابي، لا يجب أن تصطدم بتقاليد وقيم ومصالح الدولة. وينطبق هذا على حكومة ترامب، كما انطبق على حكومات سابقة من قبله.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
د. بشير موسى نافع
المقال يحاكم ترامب وهوما يزال لم يستلم سلطة الإدارة الأمريكية…وما جاء في المقال يصلح ليوم انتهاء رئاسة ترامب بعد أربع سنوات أوربما بعد ثمانية أعوام.بتقديري المتواضع إنه مقال مفترض.