الذكرى العاشرة لاغتيال سمير قصير: خمس دلالات راهنة

حجم الخط
0

كثيرة هي الدلالات الراهنة التي يُتاح للمرء أن يتلمسها، حتى إذا عفّ عن استخلاصها كدروس وعِبَر، في هذه الذكرى العاشرة لاغتيال سمير قصير (1960 ـ 2005)؛ المؤرّخ، والأكاديمي، والكاتب، والناشط السياسي والحقوقي؛ شهيد الحرّية والديمقراطية والتقدّم، باسم لبنان، أوّلاً، ثمّ فلسطين وسوريا أيضاً. ولعلّ الدلالة الأولى هي أنّ دمه لم يذهب هدراً، رغم كلّ المعطيات التي أشارت إلى العكس، بعد أشهر قليلة أعقبت اغتياله، أو تشير إلى هذا اليوم كذلك؛ ورغم أنّ الحركة التي تصدّر الراحل قيادتها، بل اليسار اللبناني إجمالاً، طوت الكثير من سماتها النضالية، أو طُويت في صفتها التكوينية على الأقلّ.
ولم يذهب دم قصير هدراً لأنّ المنظومة التي اغتالته، أي النظام السوري بالتضافر مع الأخطبوط الأمني اللبناني متعدد الرؤوس ـ الذي يبدأ من «حزب الله»، ويمرّ بحلفاء النظام السوري الأقلّ شأناً وليس الأقلّ فاشية، دون أن ينتهي بسلسلة الأجهزة «الرسمية» الملحقة بمكونات طائفية ومذهبية شتى… ـ لا تتخبط اليوم، وتُفتضح، كمنظومة أطلق عليها الراحل تسمية «اللبنانية ـ السورية للتلازم والعلاقات المميزة، شركة غير محدودة اللامسؤولية»، فحسب؛ بل تتهددها أخطار الانقراض على إيقاع انهيار النظام السوري، كبير السَحَرة ورأس القَتَلة.
شتان، في مستوى أوّل من هذه المعادلة، بين حسن نصر الله هذه الأيام ـ قائد ميليشيا مرتزقة، لا تكتفي بقتال السوريين دفاعاً عن نظام مستبد قاتل آيل إلى سقوط حتمي، بل صارت تكفّر كلّ شيعي لا يرتزق معها ويشايعها في الجريمة ـ وحسن نصر الله السابق، أو حتى الأسبق: «سيّد المقاومة» لدى شرائح واسعة من العرب، السنّة قبل الشيعة.
ومن المأساوي حقاً أن الراحل، مثل عشرات الآلاف من اللبنانيين والسوريين، مثلنا جميعاً ربما، داعبته الآمال في أنّ الأقنعة قد سقطت، يومئذ، عن تلك المنظومة الأمنية؛ فباتت مكشوفة ظاهرة للعيان، أضعف من ذي قبل، بل أضعف كثيراً، دون أن يعني هذا أنها فقدت تماماً قدرة الضرب بشراسة، والانتقام أيضاً. ولاحظوا استخدام الراحل لهذا الخيار تحديداً: الانتقام! ففي مقال بعنوان «وسقط القناع»، نُشر أواخر نيسان (ابريل)، سنة الاغتيال، اعتبر قصير أن «بعض رموز الطوفان المخابراتي» سوف يحاولون «شراء المزيد من الوقت»، و»قد يسعى النظام الأمني مرّة جديدة إلى الإنتقام»، و»لكن شيئاً لن يقدر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لقد ذهب النظام الأمني. فليكن ذهاباً من دون رجعة».
وبالمعنى العريض لحركة التاريخ، لم تعد عقارب الساعة إلى الوراء في لبنان ما بعد اغتيال قصير، بالقياس على ما تمّ إنجازه على أكثر من صعيد سياسي، بما في هذا انسحاب النظام السوري عسكرياً من البلد؛ وهذه دلالة ثانية.
غير أنّ الصعيد الأمني لم يشهد تحرّك عقارب الساعة إلى الأمام على نحو يكفي لكي يُقال إنها لن تعود إلى الوراء في عشرات الملفات، وبينها بالطبع عودة الاغتيالات، وإحكام قبضة «حزب الله» العسكرية والأمنية أكثر فأكثر، ليس دون جرّ البلد والجيش اللبناني إلى حروب الحزب في عرسال والقلمون. ولقد اتضح أنّ ما يشبه «الهجوع» الأمني قد طبــــع الفترة التي أعقبت الاغتيال، لأسباب التقــــاط الأنفــــاس وامتصاص الصدمات قبل تنظـــيم القوى من جديد؛ الأمر الذي تُرجم في استفاقة مباغتة للوحش الأمني، قبل أن تنفلت الوحشية من كلّ عقال، ليس ضدّ خصوم الداخل في لبنان فقط، بل في سوريا أيضاً، أو بادىء ذي بدء.
في دلالة ثالثة، لم يكن اغتيال قصير قد استهدف رمزاً سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً أو طائفياً، في الأصل؛ بل أُريد للضرية أن توجّه رسالة مدوية داخلياً وخارجياً (إذْ كان الراحل معروفاً على نطاق واسع في الغرب، وفي فرنسا بصفة خاصة)؛ وأن تتفجّر، بالضبط، في قلب تلك الأوساط التي لن يكفيها انسحاب قوّات النظام السوري (وبقاء منظومته الأمنية مهيمنة، هنا وهناك، نافذة السطوة والقرار)؛ ولن يرضيها قرار يستبدل هذا المسؤول الأمني أو ذاك (دون أن يُجتثّ تماماً ممثّلوه في باطن الجهاز، أو تُفكك بما يكفي وشبكات الولاء التي ما تزال تدين له بالطاعة). الجريمة قالت، بوضوح بربري أقصى، إنّ إسكات قلم جسور قد يرتدي من الأهمية الستراتيجية ما يعادل، أو حتى يفوق، كلّ حسابات التكتيك الصغيرة، هنا وهناك؛ في الداخل أو في الجوار والعالم، على جبهة اليسار مثل اليمين، والثقافة أسوة بالسياسة… وهكذا فإنّ الاغتيال لم يكن تمريناً في الثأر أو التأديب أو تلقين الدروس، فحسب؛ بل كان تذكرة للجميع بأنّ الإطاحة برأس أمني هنا، أو تبديل آخر هناك، لا يعني أنّ الوحش قضى أو تمّ ترويضه أو همد مؤقتاً. الوحش، في الواقع، ظلّ حيّاً يسعى ويفخخ ويقتل، في توقيت محسوب يُراد منه أن يبعث أبلغ الرسائل، وأن يلحق أفدح الأضرار حيث ينبغي.
والسذّج وحدهم، في تلمّس دلالة رابعة، هم الذين تجاهلوا مقدار حاجة النظام السوري إلى إسكات هذا الصوت، تحديداً، يومذاك؛ وحاجة المنظومة الأمنية، ذاتها، إلى إسكات أمثاله اليوم، في ذروة المآزق. ففي آخر تعليقاته على الأوضاع السورية، مقاله «الخطأ بعد الخطأ»، كتب قصير: «وكنّا اعتقدنا أن الحكم السوري استخلص العبر مما جرى له في لبنان، جراء أخطائه المتراكمة، وأنه سوف يخرج من الهزيمة التي تلقاها بعزم على انتهاج سياسة توفّر عليه هزيمة أكبر، فيبادر إلى تغيير جذري في أدائه يحول دون وقوع مواجهة مع شعبه تكمل ما عاناه في المواجهة مع الشعب اللبناني (…) ولكن عبثاً. فما تفيده الاعتقالات الأخيرة هو أن الإصلاح عند أهل البعث لا يعني القبول بالرأي المعارض. والتحولات الإقليمية الهائلة، من العراق إلى لبنان، لا تدفعهم سوى إلى التهويل من الخطر الأمريكي، من دون التفكير لحظة بالوسائل الأنجع لدرء هذا الخطر». قبل هذا، تحت عنوان «حين تغامر سورية… بالديمقراطية»، تساءل قصير: «أهو السقوط المدوي لنظام البعث في العراق بما كشفه من جرائم لصدام حسين تتفّه فداحتها سجلات كلّ أنداده؟ أم هو توهّم البعث الآخر أنه لا يزال يستطيع التستّر بتشاطره في اللعبة الاقليمية للإيحاء أنّ لا شيء تغيّر؟».
وأمّا الدلالة الخامسة فإنّ منطقها يزداد جلاءً اليوم، أكثر من ذي قبل: استهداف قصير بُني، أيضاً، على ربطه الصائب، والشجاع تماماً، بين استعادة وتطوير الديمقراطية اللبنانية، واستعادة وإطلاق الديمقراطية التي عرفتها سورية في أكثر من مرحلة على امتداد تاريخها الحديث، قبل وقوع البلاد أسيرة استبداد حزب البعث سنة 1963. كان المطلوب، إذاً، ليس رأس ذلك اللبناني، الديمقراطي، اليساري إجمالاً، الناقد للنظام الأمني، أسوة بالأنظمة الطائفية والإقطاعية والعائلية، الداعي إلى قطيعة صريحة مع الماضي المريض الفاسد المتهالك، فحسب؛ بل أيضاً ذلك اللبناني الذي بات يرى الصلة، كلّ الصلة، بين شعبين واستقلالين وديمقراطيتين: في لبنان، كما في سوريا.
ويبقى، في الخلفية الأعمق من هذه الدلالات الخمس، أنّ انتفاضات العرب، أياً كانت مآلاتها المفتوحة، في آلامها وآمالها، إخفاقاتها ونجاحاتها؛ هي بعض ذلك الحلم النبيل لأحد أنبل شهداء العرب في أحقابهم المعاصرة: سمير قصير، «قِران الفتوّة والوعي، واقتران الرأي بالشجاعة»، كما عبّر محمود درويش.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية