هل إنّ الولايات المتّحدة فعلا قلعة الديمقراطية والمدافعة عن حقوق الإنسان؟ وهل إنّ ممارساتها الدولية في العقود الأخيرة تُدعّم مثل هذه الصفات؟ أم تنزعها تماما وتجعلها محلّ سخرية وتندّر؟
فهذا البلد الذي قام بغزو أفغانستان والعراق وارتكب أفعالا وحشية في سجن «أبو غريب» وسجن «غوانتنامو» فضلا عن الممارسات الوحشية لآلة الحرب التي رصدها الإعلام الحرّ بشكل مباشر في شوارع بغداد وتكريت وديالى والفلّوجة وغيرها، هل يصلح أن يكون في يوم من الأيام وسيطا لعملية السلام التفاوضية بين كيان احتلال وفلسطين التاريخية؟ وإلى الآن مازالت هذه الدولة المارقة تُلوّح باستخدام القوّة ضدّ الدول التي تُواجه الغطرسة الأمريكية، ولا تذعن لشروط الهيمنة التي تريد أن تفرضها، ناهيك عن الممارسات الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني، التي تتلقّى فيها إسرائيل الدعم المطلق من الولايات المتحدة، وآخرها الفيتو المفضوح في مجلس الأمن لعرقلة مشروع قرار مع الحق الفلسطيني المُستلب.
دأبت الولايات المتحدة في تصنيف العالم إلى معسكرين، من معنا ومن هو ضدّنا، وأخذت تُسوّق إعلاميا لفظة الإرهاب، وتُضفي عليها المعنى الذي تريد، وبطبيعة الحال من يتصدّى لمشاريع الهيمنة التي تقودها يُصبح إرهابيا. وتجدر الإشارة إلى أنّ وقائع 11 سبتمبر هي الحادثة الأولى التي جعلت المجتمع الأمريكي يرى، ولأوّل مرّة، أثر السياسة الخارجية على الجبهة الداخلية، وأصبحت فئات واسعة من المجتمع الأمريكي تُدرك أنّ السياسات الخارجية الأمريكية لا تخدم كثيرا المصالح الأمريكية، وتحديدا الأمن الدّاخلي. وسيدرك المجتمع الإسرائيلي الأمر نفسه، إن عاجلا أو آجلا، لما تُنتجه السياسات الإسرائيلية من تهديد أمني داخلي يتغافل عنه قادة اليمين المتطرّف. وتخطئ أمريكا وإسرائيل من جديد خدمة لمصالح ضيّقة، وكلاهما انطلق من رؤية عمياء مصدرها الهيمنة والرغبة في التوسّع ليتمّ عزل الظواهر السياسية عن أسبابها التّاريخية، وقد تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن.
وإن كان قرار ترامب مدفوعا بجماعات المصالح التي تُشكّل اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة، وتُحاول دائبة جرّ السياسة الأمريكية باتّجاه إسرائيل، فإنّ الأمر نفسه يكشف فشل العرب أصحاب المال والثروات الطائلة في تشكيل جماعات ضغط ومصالح خاصة موالية لهم تُوازي اللوبي اليهودي، أو على الأقلّ تُنافسه مرحليّا، لرفع مستوى التأييد داخل المجتمع الأمريكي وغير الأمريكي في اتّجاه مصالح الأمّة وأوّلها المصلحة الفلسطينية في إقامة الدولة واسترجاع الحقوق المسلوبة.
تبقى المنابر الإعلامية الرئيسية في أمريكا متعاطفة مع إسرائيل، حتّى إن اقترفت أبشع الجرائم في حق الشّعب الفلسطيني، فأشكال الضغط السياسي مستمرّة، والإيباك يعمل جاهدا في شراء الذّمم ومنع النقاش حول إسرائيل وجرائمها، وكلّ ذلك لإطالة أمد الأزمة، رغبة في جعل مسألة إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مستحيلة أو بعيدة التحقّق. ويمتلك اللوبي الإسرائيلي في أمريكا نفوذا استثنائيا وقدرة على توظيف النظام السياسي الأمريكي، وهو ما يفسّر العلاقة الحميمة بين إسرائيل والولايات المتحدة، ودرجة الموالاة لإسرائيل من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة. ويجري تصوير اسرائيل على أنها دولة ضحية تدافع عن نفسها، ديمقراطية، متعاطفة ومتسامحة. وقد عمل التيار الليبرالي في الغرب على تصدير مثل هذه السردية، وتناسى العالم جرائم إسرائيل ومجاهرة قادتها بالغزو والهيمنة.
هكذا يتجنّد الإعلام الغربي لجعل الجماهير منغلقة على ذواتها، لا يتعدّى اهتمامها النزعات الاستهلاكية المادّية بديلا عن القيم الإنسانية والأخلاقية. في محاولة لإعادة تشكيل الإنسان الغربي، الذي لا ينتبه إلى ازدواجية المعايير التي تسبغ السياسة الخارجية لبلده. والمؤسف في كلّ ذلك أنّ بعض العرب مازالوا يأملون خيرا في الإدارة الأمريكية ولا يرغبون في أن يقتنعوا أنّ كل ما يهمّ أمريكا مصالحها الذاتية والنفطية أساسا، وحماية حلفائها في المنطقة، وهم تحديدا إسرائيل والمملكة العربية السعودية، ويزيد ذلك تفسيرا عدم تبرير سياساتها أو توضيح أجنداتها، فهي تخدم مصالحها الخاصّة غير عابئة بهموم الشعوب وحقّها في الحياة الكريمة أو تقرير المصير.
كاتب تونسي
لطفي العبيدي