في مجتمعاتنا المحكومة بِسُلَطِ الأمر والنهي، تُجبرُ العين على تحمل مأساوية حرمانها من حق الاستمتاع بجمالية الشعري، التي يمكن اختصارها مؤقتا، وضمن السياق الذي نحن بصدده، بالحق في التفاعل الحر والخلاق، مع فتنة المرئي، التي يظل الفوز به، مشروطا بكثير من الإكراهات الحاجبة لفضاء الرؤية، والمجَسّدة في صرامة الأعراف الأخلاقية المقيدة بها، وهي الإكراهات التي دأبت على إخراج بعض تجليات الشعري من إطاره الجمالي، بإدراجه ضمن إطار المحظورات المرفوضة من قبل القيم الاجتماعية. وبموجب هذه الاعتبارات أيضا، أمست العين متعودة على اختلاق مسالكها وفضاءاتها السرية، التي تمارس فيها، حق تلذذها واستمتاعها بشعرية الرؤية. لأن عجزها عن ممارسة هذا الحق، يجعل من إمكانية التفاعل العلني مع جماليات الكون، أمرا على درجة كبيرة من الصعوبة والتعقيد، حيث تكون بذلك مجبرة على الاختلاء باستيهاماتها في عوالم يتداخل فيها الالتباس بالسرية والغموض، وهو ما يضفي على الرؤية الشعرية طابعا جد ذاتي، وجد شخصي، يستحيل معه الحديث عن معايير معلومة، ومتفق عليها، باعتبارها مرجعيات معتمدة في التمييز بين ما ينبغي قبوله أو رفضه من خصائص ومقومات.
عموما، من الصعب فصل الرؤية الشعرية للعالم، عن الرؤية البصرية، لأن الرؤية الشعرية بوصفها رؤية تأملية وفكرية، تغتني بالرؤية البصرية، التي تتخذ من أشياء العالم مادية كانت أو محسوسة موضوعا لها. وهو الاغتناء الذي يتحقق على مستويين، يتمثل أولهما في المادة المرئية، وثانيهما في حدود تمثل هذه المادة وتقييمها، أي حدود الحرية المسموح بها للتعامل مع هذه المادة. وكما هو معلوم فالمستوى الثاني، هو الذي يتحكم في التوجيه النظري للرؤية، نحو موضوعاتها، إما بالسلب أو بالإيجاب، أي هو الذي يحدد مساراتها واختياراتها ومشاهدها، فيرسم الخطوط الحمراء لما لا يمكن تجاوزه، والخضراء لما هو متاح ومباح للرؤية، وبالتالي فإن العين المقيدة بثوابت معينة، تظل حبيسة أفق ضيق، وفضاء مغلق، سواء على المستوى المعيش أو على المستوى الفني والجمالي، بمعنى أن ذاكرتها ستكون فقيرة ومشروطة بثنائية ما هو خير وما هو شر، مع الأخذ بعين الاعتبار الجانب النسبي فيهما معا، والذي يلقي على طرفي الثنائية، غير قليل من الالتباس.علما بأن الرؤية المشروطة بهذين الحدين، تشكو من ضعف كبير، من حيث الخبرة البصرية، التي لا تتحقق إلا من خلال ذلك الانفتاح الكبير على كل ما يمكن رؤيته، بعيدا عن أي تقنين وتوجيه مسبق. إن العمل بالرؤية الشعرية، بما هي رؤية جمالية للعالم، وفي ظل تبخيس السلط المجتمعية لغير قليل من توجهاتها، يظل مقتصرا على الاستيهامات الحميمية، لأن الجمالية المشروطة بتعاليمها والمقننة بأعرافها الاجتماعية، هي كل ما يمكن للذات أن تتبناه.
في حين تصبح الجمالية المتنكرة لهذه التعاليم وهذه الأعراف، مرادفة للشُّبهة ولما ينبغي تلافيه، كما أن واجب التلافي ينبغي أن يشمل مجموع ما له صلة قريبة أو بعيدة بهذه الرؤية، ذلك أن كل ما يمكن أن يوقظ الحواس، ينبهها، ويبث فيها حياة ما- كي لا نقول نشوة ما – يصبح في حكم المشبوه. بهذا المعنى، سنجد نسبة كبيرة مما هو حق طبيعي من حقوق الحياة عرضة للشك والارتياب الديني أو الأخلاقي.
وحضور هذا المبدأ، يظل واردا ضمن حيثيات أي تعامل محتمل، مع كل رؤية جمالية متمحورة حول الذات أو العالم، حيث سيكون فضاء المتعة المتاح، والمتعاقد عليه سلفا، في ضوء الرؤية الأخلاقية، محصورا داخل دائرة جد ضيقة، ما سيؤثر حتما على نوعية المحفزات/الثيمات الجمالية، التي يمكن أن تكون موضوع متعة واشتهاء من قبل الأفراد والجماعات على حد سواء.
إن ضيق دائرة المتعة الجمالية، أو بالأحرى، الخوض فيها، سيظل رهين محابس الفضاءات المغلقة والخاصة جدا، بالنظر لما يتضمنه من خطورة على الذوق العام. ومن المؤكد، أن المبالغة في توخي الحذر، ستؤدي حتما إلى اختلاط الحق بالباطل، بما يساهم في إدراج الرؤية الشعرية، ضمن منطقة الحظر الاجتماعي العام، الذي يستحسن للذات أن تنأى عن مضاربها، كما لو أن الأمر يتعلق بإعلان حالة من الحجر والكبت، على جمالية رؤية، مطالبةٍ بأن تظل خارج اهتمامات حياتنا الخاصة والعامة، الشيء الذي يضاعف من التباسها، ومن سرية اعتمادها منهجا في التعامل مع أشياء العالم، حيث تكون النتيجة، خُلُو الحياة من شعرية الرؤية، ومن جماليتها، في كافة المجالات، التي يفترض أن تمارس فيها تمظهرها، أسوة بالشعوب الحداثية.
من هنا يمكن القول بمأساوية القهر المزمن الذي تعاني منه العين، حيث ليس لها أن تشكو من قبح، كما ليس لها أن تجاهر بانتقاد مضاد للعرف، أو باقتراح بديل جمالي ما، أو أن تغامر بإطالة نِعمةِ تحديقها في ما تراه جديرا بالرؤية. إن التحديق في ما لا حق لك فيه، من وجهة النظر الأخلاقية، قد يعرضك للعنة. إنه الخطيئة ذاتها، التي يتم على أساسها تصنيف الكائن تراتبيا في السلم الاجتماعي.
إن الشخص إذا ما كان متعودا على جرأة اختراقه للحدود البصرية المرسومة سلفا، سيكون بالضرورة شخصا غير جدير بالانتماء إلى الرابطة المجتمعية، التي يستمد منها مشروعية حضوره، على أساس التزامه بقيمها. وبالتالي فإن كل ما يصدر عنه من مسلكيات، يصنف خارج المدونة الاجتماعية، باعتبارها مسلكيات جانحة، تدخل في باب التجديف، وفي باب اللغو، وباب البدع المارقة، والخارجة عن التعاقد العام، والسوي وكما هو معلوم، فإن العالم بكل ما يمتلكه من مكونات، وعناصر ومقومات وكائنات، خُلق أساسا من أجل أن يُرى بالعين المجردة، قبل أن يرى بالبصيرة. إن مخلوقات الكون بكل أصنافها الحية والجامدة تنتظر حضور العين الرائية التي تمنحها فتنة الظهور والحضور، والتي هي فتنة انتزاع الاعتراف بوجودها. إن أي شيء من أشياء العالم، لا يقتنع بحضوره الفعلي، إلا من خلال الرؤية البصرية، فضلا عن البصيرة التي هي امتداد طبيعي للأولى، إن الشيء بمختلف انتماءاته تشكلاته وتحولاته، سماويا كان أو أرضيا، لا يلبث أن يمرق إلى دائرة النسيان، فور انصراف الرؤية عنه. كما أن العين وجدت أساسا من أجل التملي في كل معروضات الوجود، لذلك فإن الرؤية البصرية في جوهرها، هي احتفاء بحضور الشيء واعتراف بوجوده، كما أنها ومن خلال خاصيتَيِّ الاحتفاء والاعتراف، تحظى هي أيضا بجمالية الرؤية، ومتعتها. وهي الحظوة التي تستمد منها هي أيضا حياتها ووجودها. لأن العين التي تكون غير معنية بالرؤية، هي عين غير معنية بالحياة.
هنا تحديدا يمكن الإشارة إلى ذلك الفرق الفادح، بين عيون فلاسفة، شعراء وفنانين كبار حرموا من نعمة البصر، بدون أن يفقدوا نعمة البصيرة، التي تستطيع أن ترى المرئي بعين القلب وعين العقل، وبين تلك العيون المفتوحة دائما على الهباء، حيث لا علم لها بما يحدث، إلا ضمن شروط اليومي الغارق في بؤسه. إنها العين المعاقة، التي يمكن في أي لحظة، أن تقود صاحبها إلى سجف الجحيم بمحض إرادته.
إن القيم التي تتدخل بشكل أو بآخر، في تقنين شروط الرؤية، بصرف النظر عن طبيعتها ومواضيعها، تمارس نوعا من البتر لأحد أهم الأعضاء البشرية، إنه البتر المفضي إلى الإعدام الرمزي، لتلك الهبة التي يتمكن الكائن خلالها، من تلمس الطريق نحو ذاته، ونحو آفاقه الواعدة المنتظرة، والمنتَظِرة إن ثراء ذاكرة العين، وانفتاحها المنهجي على المرئي، هو الذي يسمح للكائن بالحد من فوضى ذلك التراكم الكبير، وذلك التكديس اللاعقلاني، الذي تحدثه أشياء العالم تحت أنظاره، كي تحظى برؤيته لها. فبفضل هذا الثراء، تمتلك العين قدرتها على التمييز، وعلى القراءة، بين ما يجب تثبيته وما يجب محوه. أما في حالة غياب القدرة على التمييز فإن العين تكون معرضة لخطر التيه، ولخطر مراودات الصدفة، وأكثر من ذلك، لخطر الضرورة الجافة، والخالية من أي جمالية أو شعرية، بالنظر إلى استحالة قدرتها على الإحاطة النسبية بدلالات ما يُراكمه العالم أمامها من أشياء، ومن موجودات، باعتبار أن قسوة الضرورة، المشحونة بإكراهاتها، تختزل كل ما يمتلكه المشهد من ثراء، في ما يجب استهلاكه واستنفاده للتو، خشية الموت وخشية الفقد. لأن التشبث بدين الضرورة، وبتعاليمها هو طوق النجاة الذي يمكن أن يتخلص به الكائن الأعمى، من ضراوة أشباح الفقد وأشباح الموت، حيث تصبح المرئيات المتعلقة بفضاء الضرورة، هي البدء والمنتهى، وهي طريق الخلاص من الجُرف الذي يمكن أن يقع فيه الكائن، في حالة عدم استجابته لنداء الضرورة. بهذا المعنى تتحول الضرورة إلى حجاب، يحول دون ممارسة العين لحقها في التملي الشعري لأشياء العالم وكائناته.
شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني
توق المبدع- كيفما كان- للتعبير، أو التملي، إو الإحساس برؤية جميل العالم، يسبقه ماقبل الوعي ، وهو الذي يعطى معنى لرؤية المبدع محرراً من كل سلطة تقيد عملية ميكانيزم الإبداع.هناك أيضا سلطة الذات عند استبطان رؤية الجميل، فوق ذلك كله هناك أيضا إشكالية الإبداع الفني وكلها مجموع من السلطات تفوق سلطة المجتمع بمؤسساته الجزائية.