يحلو للبعض نعت الثورات الشعبية التي شهدها العالم العربي مع بداية هذا العقد بالخريف العربي في إشارة إلى حالة الانحدار التي أعقبت هذه الثورات في مجال السياسة والاقتصاد، وفي المجال الاجتماعي والأمني. وقد وقر في نفوسهم وران على قلوبهم اعتقادٌ بأن هذه الثورات (مع افتراض براءتها) قد أثرت سلباً على العالم العربي، ودفعت إلى مزيد من الانقسام سواءً على مستوى الدول، او انقسام المجتمعات على نفسها، بالإضافة إلى حالات التهجير القسري والقتل والتدمير وانعدام الأمن.
ويحلو لفئة أخرى، نعت هذه الثورات بالربيع «العبري»، في إشارة إلى نظرية المؤامرة، والتي تدّعي أن هذه الثورات قد دُبّرت لخدمة المشروع الصهيوني في المنطقة، وخراب البلاد العربية، وفي هذا تجنٍ كبير على كل من شارك في هذه الثورات ودفع فاتورة الدعوة إلى التغيير، سواء بروحه ودمه أو من عمره وعذاباته وأحزانه ودموعه، ناهيك عن تسطيح الأمور وتسفيه عقولنا. والحديث يطول عن التُهُم التي تُلقى جزافاً على الموجة الأولى من موجات التغيير التي اجتاحت عالمنا العربي وأدت إلى تحريك المياه الراكدة، فكان أن طفا على السطح أقذر ما في مجتمعاتنا وما في نفوسنا، ثم لم يجد البعض بُدّاً من توجيه اللوم إلى من حرّك قطعة الجُبن! ومن هنا، علينا أن نعترف أن العقل العربي الجَمْعي، المسيطر على تفكير الكثير من مجتمعاتنا بما فيها من النخب الثقافية والسياسية، يعتمد على استخدام التعميم، وإطلاق الأحكام العامة، ثم الربط غير المنطقي بين الأحداث والنتائج، وهذه من كبريات مشاكلنا في العالم العربي. وتحليل مرحلة ثورات الربيع العربي لا تخرج عن إطار هذه العقليّة للأسف!
صحيح أن النتائج المرجوّة من الثورات لم تتحقق بالشكل الكامل في بلاد الربيع العربي، وفي بعضها انقلب الوضع إلى أسوأ مما كان عليه، ولكن اللوم يقع على الأنظمة الاستبدادية (والمستفيدين منها) التي حرصت على البقاء في السلطة وضحّت بالبلاد والعباد في سبيل ذلك، بل إنها تحالفت مع الشيطان نفسه كي يردّ عنها موجات التغيير. يُضاف إلى ذلك طابور الخانعين من أصحاب القرار الذين ترددوا في اتخاذ موقف حاسم، ومارسوا دور المتفرج بانتظار حسم الموقف، ومن ثم تشكيل موقفهم حسب نتائج الحسم! أما اللوم الأكبر، فيقع على بعض من يتم تصنيفهم أنهم صفوة المجتمع، وطبقة مثقفيه ومفكريه، الذين يحتلون مساحات كبيرة على وسائل الإعلام ومنابر الخطابة ووسائل التواصل الاجتماعي، وينشرون مغالطاتهم التاريخية، ودروسهم التي عفا علبها الزمان وفقدت صلاحيتها، رافضين كل الرفض الاقتناع بأن الحياة قد تغيّرت وأن الفرضيات الفكرية والسياسية التي تربّوا عليها وأصبحت ديدنهم هي بحكم الفاقدة للصلاحية والشرعية على حد سواء.
من المفارقات التاريخية التي سيتندّر عليها خَلَفُنا أن بعض مثقفينا وقفوا مع الطغيان والزعامات الديكتاتورية في وجه الأبرياء باسم وحدة وحرية البلاد ونصرة فلسطين والوقوف في وجه المخططات الاستعمارية. هؤلاء الذين كنا نُمنّي النفس بأن يحملوا مشاعل الثورة المقبلة ويكونوا قناديلها، وأن تنير لهم بصيرتهم نهاية النفق المظلم فيقودوا صفوف الجماهير إلى بر الأمان، ولكنهم خذلوا أنفسهم أولاً وخذلوا مجتمعاتهم ثانياً بالوقوف في وجه التغيير ظناً منهم أنهم يحسنون صنعاً. وهو ما أدى في النهاية إلى تسليح هذه الثورات ودخول قافلة الإرهابيين والمتطرفين على خط الثورات لانعدام الأفق السياسي السلمي من جهة والمغالاة في التعامل مع المتظاهرين السلميين، فكانت النتيجة خراب البلاد وقتل وتهجير العباد.
من غير المعقول أن تخفى حالة الانسداد الفكري التي كانت تعاني منها (ول تزال) مجتمعاتنا العربية على كل الأصعدة، هناك أزمة أخلاقية ثقافية فكرية وأخرى دينية ناهيك عن الأزمات الاقتصــادية والسياسية، وهذا كله نتاج حالة الإنغلاق وتكميم الأفواه وفرض الرأي الواحد، واعتماد نهج الدولة البوليسية مع انتشار سرطاني للفساد. إن أي متدبر واعٍ لا بد أن يعلم أن هذه المجتمعات كانت على صفيح ساخن وعلى شفا جرف، بانتظار أن يفور التنور مؤذنا باندلاع ثورة التغيير الجارفة، لقد كانت مسألة وقت لا أكثر لمن يعقل الأمور.
والأنكى من ذلك من يظن أن قمع هذا التغيير، وسحب البساط من تحت قدميه مع انتهاء أول جولة من المعركة، هو حسم للصراع، وقبول بالأمر الواقع، وهو بذلك يكون بالفعل كالنعامة التي تدفن رأسها في التراب!
من يتتبع دراسة المجتمع وحالات التغيير الاجتماعي، يدرك تماماً أن المجتمعات في عمومها تحتكم إلى جبهتين: (المحافظون) الذين يدفعون بالمجتمع نحو الركود والاستقرار والثبات على المعتقدات، و(المُجدّدون) الذين يقودون دعوات التغيير ويقلبون المفاهيم والموازين في المجتمعات. لذا فمن الطبيعي أن يكون هناك نزاع اجتماعي بين المحافظين والمجددين على الدوام، ولكنه نوع من التنافس المرغوب به، كي تتقدم المجتمعات وتجدّد دماءها بلين وسلاسة، دون الحاجة إلى عمليات هدم وإحلال تتمخض عنهما هزات اجتماعية كبيرة.
وبالضرورة فإن البديل عن حالة (الصراع السلمي) هذه لا بد أن يكون حركة تغيير حادة وشديدة (ثورات أو حركات تصحيح شاملة) وهي استجابة طبيعية من المجتمعات لحالة (البيات الفكري) الطويلة، التي أعاقت حركة التقدم وعطّلت صلاحية المفاهيم وحالت دون ضخ الدماء الجديدة في المجتمع، مما أدى إلى تراكم المشاكل واستعصاء حلها، وأنتج بالتالي حالة من التخلّف العام في المجتمع.
وهذا ما حصل في عالمنا العربي، مع استمرار الأنظمة الاستبدادية في الحكم بالطريقة نفسها والمنهج نفسه، مع إغلاق جميع منافذ الحوار والاعتماد على كليشيهات واسطوانات مشروخة، دون الالتفات إلى ضرورة التغيير والاستماع إلى نبض الشارع.
يتكرر في العديد من الأفلام السينمائية مشهدٌ يظهر فيه بطل مغوار يستعرض فنونه القتالية بحركات اليدين والأرجل أو بالسلاح الأبيض أمام منافس ضئيل الجسم نحيل القوام، ولكنه سرعان ما يتناول مسدسه ويردي البطل المقدام عريض المنكبين! الشاهد هنا، أنك إذا أردت أن تستمر في هذه الحياة فعليك أن تطوّر دائماً من أدواتك المستخدمة بحيث تواكب العصر وتتلاءم مع معطياته. إن محاولة فهم ما يجري في عالمنا العربي وإدراك عقليّة جيل الشباب الحالي باستخدام عقلية وأفكار عقد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي هي أشبه ما يكون بمواجهة الرشاش الأتوماتيكي بالقوس والنشّاب!
التغيير هو سنّة الحياة والبشر، وكل من يقف في وجه التغيير سيخرج من الباب الصغير، فصدر التاريخ لا يتسع لمن يخاف من وهج مشاعل الثورة. التغيير آت لا محالة، ومحاولة شيطنة هذا التغــيير لن تمنع حدوثه. لذا أقول ناصحاً، بدلاً من الوقوف في وجه القافلة أصعدوا على متنها وساعدوا على تصحيح مسارها.
كاتب ومُدوّن من الأردن
أيمن يوسف أبولبن
أساس الإنتكاسات بالوطن العربي هي بأولئك اليساريين المطبلين للطغاة والإنقلابيين منذ الإنقلابي الأول عبد الناصر ملك النكسات
والسؤال هو :
من الذي وقف ضد الربيع العربي غير اليساريين وكارهي الإسلاميين من الأعراب ؟
ولا حول ولا قوة الا بالله
أخي الكروي, ربما فاتك أن الاسلام المتطرف أو المتشدد عامة وكذلك وداعش وأخو اتها كلهم كانوا إما ضد ثوررات الشعوب والتغيير (بهذا الشكل من أحل حربة الشعوب وكرامتها) أو بالأحرى هم وجدوا الفرصة سانحة للإنقضاض على الثورات واستغلال الوضع للوصول إلى السلطة, ليس من أجل التغيير أو حق الشعوب في الحرية والكرامة لكن من اجل استبدال الاستبداد بأخر ديني أو قل بشكل ما يميني بدلاً من اليساري!
*حياك الله أخي أيمن
والعزيز الكروي وجميع
قراء ومعلقي قدسنا العزيزة.
*صحيح شريحة (المثقفين )
خذلوا ثورات الربيع العربي
لكن ليس لوحدهم؟
*ماذا عن رجال الدين(المشايخ)
ألم يخذلوا شعوبهم أيضا..؟؟؟
حتى في حصار (قطر ) الظالم الجائر
الأحمق نجد معظم مشايخ دول
الحصار تقف مدافعة عن حكوماتهم
بإستثناء قلة من المشايخ المحترمين
الصادقين.
فضلوا دخول (السجن ) على مجارات
حكوماتهم ف البغي والعدوان.
حسبنا الله ونعم الوكيل.
سلام
أخي أيمن أبو اللبن كراَ على هذا المقال, <> انتهى الاقتباس.
هذا هو من أكثر ماصدمني فعلاً في الربيع العربي لم أكن أتوقع حتى في خيالي أن كتابا أو فنايين معروفين ولهم شهرة واسعة أن يقتاتوا على فتات الاستبداد والإحرام بحق االابرياء والاطفال والنساء, أكاد لا أصدق! هل العقل البشري يستطيع أن يتقبل ويعيش التناقض إلى هذا الحد!
أخي داود العزيز
شكرا على المشاركة. بالفعل التيار اليساري بشكل عام كان موقفه سلبيا بناء على ايدلوجيته القديمة والمبنية على حسبة المصالح بالنسبة لأمريكا وروسيا ظنا منهم أن أمريكا تدعم الثورات
أخ أسامة من ألمانيا
بشكل عام التيار الإسلامي كان مع الثورات، بينما التيار اليساري وهو الأقرب إلى شعارات الثورة والتغيير الديمقراطي المدني تأثر بنظرية المؤامرة وعقلية الحرب الباردة مما أثر بشكل سلبي على موقفه.
يضاف إلى ذلك ما ذكرته أنت عن المتطرفين والمتشددين من اليمين الذين ركبوا موجة الثورات لتحقيق أهدافهم بتمويل عربي وأجنبي للأسف
تابع ، تعليق أخ أسامة
من أهم إنجازات الربيع العربي ، وهو ما سأذكره في المقال اللاحق (2) هو كشف الاقنعة عن ه هؤلاء الذين يختبئون خلف الشعارات.
تحياتي
صحيح إلى حدما لاشك أخي أيمن. لكن أنت تعني بذلك التيار أو التيارات الاسلامية المعتدلة كالنهضة مثلا في تونس (وربما يصعب حقيقة تصنيف هذه التيارت هكذا ببساطة), وبذلك أنا لا ادافع عن التيار اليساري, وأنا أيضا لست إسلامي أو يساري بالمعنى السياسي وربما معتدل فكرياً يسارا أو يمينا ليس مشكلة عنذي, فانا أولا وأخيرا جزء من هذه الثورات والتغيير إذا فالمسألة لست في التيارات فهي عموما لها إيديولوجيتها على إختلافها, فكم يختلف الاخوان المسلمين في مصر عنهم في تونس أو تركيا, وكم هناك احزاب معتدلة شاركت في الثورات واصبحت ضحية لهذا الجدال الايديولوجي يساري يميني!. وبالتالي الاساس هو في النظر الدقيق للامور حتى لايصبح التعميم مغالطة!. التشدد ومن أراد أن يستغل الثورات حديث متشعب بالتأكيد.
أتفق معك عزيزي
أشكرك أخي أيمن
لالاسف الشديد لا يمكن ان نسمي ما جرى من احداث الربيع العربي بالثورات ولسبب بسيط لانه لم يكن هناك اي جهة تقود ولها تاريخ نضالي ويمكن تسميتها بالانتفاضة ضد الحكومات ثم هناك تخوف من الجماعات الاسلامية بصورة عامة في مجتمعاتنا قد لا يكونون مستبدين او طغاة كل الحكومات الحالية(تجربة داعش بالعراق وجبهة النصرة واخواتهم خير دليل) ولكن سوف يعاني المجتمع من فرض امور دينية تخص حياتهم الخاصة والعامة.اما انتقاد اليسار العربي او بعض النخب من المثقفين بسبب وقوفهم ضد التغيير فالامر له وجهان فاليسار العربي بصورة عامة ليس له اي تاثير يذكر بعد زوال نظامي صدام والقذافي والامر الاخر ان ما نسميهم بالمعارضة او الثوار اثبتت الاحداث في تونس وليبيا وسوريا انهم اكثر خيانة لشعوبهم من غيرهم ولا هم لهم سوى الوصول للسلطة او استغلال الحدث من اجل الاموال
أخ سامح. تحياتي عزيزي
والله يا صديقي، نحن أمام ازمة دينية خطيرة انتفى معها معنى المشايخ. الآن الدين أما في تحالف مع السلطة، أو يمارس السلطة الكهنوتية، وأما انه يقود حملة قتل الإنسانية باسم الدين
حسبنا الله ونعم الوكيل
بعد كل هذا الخراب الذي احدثه من مايسمى بالاسلام السياسي او الجهادي ، بالانقضاض على الثورات العربيه والدور التخريبي الذي لعبته هذه التنظيمات لحساب قوى خارجيه وأجندتها ( واعني هنا ما سميى بأصدقاء الشعب السوري) ، هذه القوى التي حاكت قوى وانظمه اسلاميه ، واقصد ايران الاسلاميه وحزب الله في فجورها وإجراما بحق الشعب العربي السوري والعربي بشل عام ، لحساب نظام اقلوي طائيفي وبدائي ، بعد كل هذا ، الم يحن الوقت للتصالح مع العقلانيه ؟؟؟ مع مفهوم المواطنه والوطنيه؟؟؟الى من ينتظر حلولا تهبط من السماء ، فلسوف ينتظر طويلا في مستنقع من الوهم والجهل.
أخ فوزي اعترض على الفقرة الأولى في كلامك. الربيع العربي لم يكن ملكا لأي فئة سياسية، يمين او غيره. ولم يكن مدبرا من الخارج. كما أن الخراب لا يمكن لصقه بالثورة الشعبية
تحياتي أخ سلام
ما حدث هو انفجار شعبي ضد الظلم والديكتاتورية، وهو ما قلت عنه في المقال لموجة الأولى من الربيع العربي
هذه الموجة حققت بعض الأهداف وتوقفت
ولكنها وضعت الأساس الموجة التالية. وأهم ما فعلته أنها غيرت المفاهيم واسست للثورة القادمة التي أتوقع لها أن تشهد تطورا فكريا بعد الإستفادة من دروس الموجة الأولى
تماما أخي أيمن