من حيث الإجراءات المتبعة والمألوفة، التي تشمل الحظر أو المصادرة أو المنع قبل الطباعة، لا تكاد الرقابة على الأعمال المترجمة تختلف عن أنساق الرقابة التي يمكن أن يتعرض لها الكتاب غير المترجم، أياً كانت الموضوعات والميادين المعرفية والتيارات الفكرية التي يتناولها. بيد أن للرقابة على الترجمة طرائق أخرى غير مباشرة، بل خافية على نحو ما، يمارسها رقيب من طراز مختلف أيضاً، ولعلها ليست أقلّ أذى لصناعة الكتاب وحركة القراءة، لأنها تتلاعب بالنصّ وتحرف محتواه، في قليل أو كثير؛ ليس انحناء أمام مخاوف رقابية، بل على نحو إرادي وطوعي هذه المرّة.
فقد يجد ناشر ما أنّ الكتاب المترجم يمكن أن يخلق متاعب سياسية أو أخلاقية أو دينية، فيصرف النظر عن طباعته حتى بعد إنجاز الترجمة، التي كان الناشر قد تعاقد عليها لأسباب محض استثمارية؛ ثمّ عدل عن إصدارها لأسباب محض استثمارية بدورها، خشية أن يكسد الكتاب في المخازن. وقد يمارس المترجم نفسه دوراً رقابياً، بالنيابة عن المؤلف، وليس بالتشاور معه بالضرورة، فيستبعد من النصّ كلّ ما يمكن أن يُغضب الرقيب الرسمي، أو يثير مشكلة لدى القارئ العريض؛ والمترجم، في هذه الحال، يمارس المعنى السلبي لمفهوم «الخيانة» المرتبط بالترجمة. أمّا الصيغة الأكثر سوءاً في هذا الضرب من الرقابة، فهي أن يرضخ مؤلف الكتاب لمتطلبات ناشر الترجمة، فيحذف أو يعدّل أو يضيف، خصيصاً للطبعة المترجمة. وغنيّ عن القول إنّ الكثير من حالات هذه الرقابة إنما تنجم اساساً عن غياب أو تغييب حقوق الملكية الفردية للكتاب، وتعذّر اللجوء إلى القضاء إلا بعد فوات الأوان.
عواقب هذه الأنساق من الرقابة غير المباشرة تصبح أشدّ مأساوية إذا وضع المرء في عين الاعتبار حقيقة وجود 22 دائرة رقابة حكومية، في 22 من وزارات الإعلام والثقافة في العالم العربي؛ فضلاً عن الرقباء الآخرين الذين يتنطحون لهذه المهمة من مواقع أجهزة سياسية أو أمنية، إذا استشعروا أنّ هذا الكتاب أو ذاك يمكن أن يشكّل خطورة ما، أياً كان مقدارها، على أمن النظام الحاكم. كذلك يزداد سوء الحال إذا تذكرنا بضع إحصائيات أوّلية: العرب يشكلون 5٪ من سكان العالم، ولكنهم لا ينتجون إلا 1٪ من كتب العالم؛ ومعظم طبعات الكتب (بما في ذلك اعمال مشاهير المؤلفين) تطبع 5000 نسخة لمجموع سكان يتجاوز الـ 367 مليون نسمة؛ وما يُترجم إلى اللغة اليونانية (قرابة 13,1 مليون ناطق)، على سبيل المثال، أكثر بخمسة أضعاف مما يُترجم إلى قرابة 400 مليون قارئ باللغة العربية!
وهذه حال تدعو إلى الأسى، كما أنها مفارقة محزنة، إذا تذكّر المرء التاريخ الوضاء للترجمة في عصور سلفت، سواء قبل الإسلام أو بعده؛ وفي ما يخصّ نشاط الترجمة وحسن وفادة المترجمين، وليس التضييق عليهم وإخضاعهم لشتى اشكال الرقابة، الصريحة أو المبطنة. فمن المعروف أن مدينة الرها العراقية صارت، منذ القرن الخامس الميلادي، ملاذاً لعدد من كبار المترجمين اليونان الذين التجأوا إليها هرباً من التضييق الديني والعقائدي في أوطانهم الأصلية. كذلك صارت نصيبين، في تركيا؛ وجنديسابور، في بلاد فارس؛ والإسكندرية، في مصر؛ وحران، جنوب شرق تركيا؛ بمثابة «محميات آمنة» لمترجمين وعلماء وفلاسفة وأطباء تعرضوا للتنكيل في حواضر إمبراطورية يونانية أو بيزنطية، فيمموا وجوههم شطر الشرق، وترجموا عشرات الدرر المعرفية.
وأمّا في العصور التي أعقبت ظهور الإسلام، فإنّ تراث الترجمة كان قد بدأ مع الخلافة الأموية، على يد خالد بن يزيد بن معاوية، وتواصل بوتائر متباينة، حتى بلغ ذروته عند تأسيس «بيت الحكمة» في عهد الخليفة هارون الرشيد، ثمّ الخليفة المأمون الذي أستقدم خزانة كتب الروم من قبرص. ورغم أن الأعمال المترجمة شملت نطاقاً عريضاً من الموضوعات العلمية والفلسفية والطبية والدينية، التي لم تكن تتطابق دائماً مع منظورات الفقه الإسلامي المكرّس؛ إلا أنّ حركة الترجمة تواصلت بحماس ونشاط، دون عراقيل جدية ترقى إلى مستوى الرقابة كما ستعرفها الأحقاب اللاحقة.
وفي الإجمال، يتفق الباحثون على أنّ التحديات التي تواجه الكتاب المترجم لا تنحصر في المشكلات اللغوية، ودقّة النقل والتناقل، وترجيح كفة المعنى على حساب المبنى أو العكس، وكفاءة المترجم نفسه، وما إلى ذلك؛ بل تشمل أيضاً تحديات الرقابة، سواء أكانت موضوعية رسمية خارج إرادة المترجم، أو ذاتية طوعية تنبع من تقديرات شخصية، تلتقي في نهاية المطاف مع مخاوف المؤسسة الرقابية واشتراطاتها. وهنا تلعب الثقافة المهيمنة، المتكئة على إرث طويل من الأعراف والتقاليد والمواضعات، دور الكابح لحرّية المترجم في اختيار النصوص، بحيث يصبح عامل الأمان الثقافي هو المعيار الذي يرجّح هذا النصّ على ذاك. والأسوأ، بالطبع، أن يختار مترجم ما عملاً إشكالياً ينذر بإثارة مشكلات مع الرقيب، لكنه يلجأ إلى تخليصه من كلّ الأقسام ذات الأخطار، فلا يترجم بالدرجة المطلوبة من الأمانة، بقدر ما «يشذّب» النصّ و«يهذّب» محتواه.
وبهذا فإنّ أنساق الرقابة الخفية قد تكون أشدّ مضاضة من الأنساق الجلية، على المترجِم والنصّ المترجَم في آن معاً.
صبحي حديدي
{ مع إنني أستبعد أن تكون المافيا الثقافية على علاقة بالمافيا الإجرامية, فالتماثل بينهما جلي, كلاهما لا يتورعان عن فعل مهما كان منافيًا للأخلاق. بل وتتفوق الثقافية على الإجرامية, ليس بأنها أكثر دهاء فحسب, بل لأنها تستطيع بكل تبجح, توفير المبررات الأدبية والإنسانية لفساد أعضاءها وتمويه انحطاطهم بأبعاد فلسفية أو سيكلوجية عميقة الغور, أو شطحات عدمية أو سيريالية وقد تكون رومانسية, وربما داروينية, أي لا تحوجهم المسوغات. لم أخترع شيئًا, سمعت عنهم … أمورًا شائنة يندى لها الجبين خجلًا. صدقني, ليسوا بالبراءة التي يظهرون بها. ….(و)لا بد لأي كاتب مهما بلغ من عبقرية من دفشة مافيوية, وفي حال طمح إلى مكانة, فلا مفر من تعاونه معهم (الأدباء المسيطرون على الساحة الثقافية) أي أن يكون عميلًا لهم, ريثما يضمونه إلى بطانتهم, وإلا كان مصيره السحق والمحق, وفي أحسن الأحوال البقاء ناشئًا في عالم الأدب, ولو بلغ من العمر عتيًا }.هذا مقطع من رواية المترجم الخائن ؛ للروائي السوري فوازحداد ؛ الصادرة طبعتها الأولى في 2008 والتي وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر.رغم أنّ موضوع مقالك بشأن الرقابة على الترجمة…ففي هذه الرّواية هناك رقابة على المترجم باتجاه خط الاستواء…في إحدى تعليقاتي السابقة أشرت إلى ضرورة إنشاء وزارة لشؤون الترجمة في كلّ بلد عربي.
فالتواصل مع العالم الخارجيّ لم يعد فقط يعتمد على العلاقات السياسية بين الحكومات.وتراث الأمة المعرفيّ التاريخيّ يؤكد أنّ للترجمة مكانة القمربين كواكب السّماء.لم نصل إلى القمرلكن على الأقل نراه منيرًا في الليلة الظلماء.
صباح الخير أستاذ صبحي:
موضوع الرقابة على النص سواء كان عربيا او مترجم الى العربية أظنه تحصيل حاصل للسياسة الاستئصالية والديكتاتورية في بلادنا بشكل عام …
قرأت قائمة الكتب الممنوعة من البيع في صالون الجزائر الدولي للكتاب منذ سنتين او ثلاث لا اذكر تحديدا ..ومن العناوين التي جعلتني ادخل في نوبة حزن على تدني مستوى التسيير والتنظيم والوعي ناهيك عن الفهم ومايتبعه… كتاب كفاحي لادولف هتلر! فتخيل خطورة هذا الكتاب على القرئ الجزائري والكوارث التي يمكن ان تنجم على مطالعة هكذا كتاب!!!؟ النكتة أن الكتاب متوفر في المكتبات وهو لايرقى لا للتأمل ولا للمتابعة ولايتجاوز كونه كتاب من التراث النازي المندثر اصلا..!
اضمحلال الاداء السياسي بشكل عام هو مايترتب عنه ظهور مثل هذه القرارات السطحية الساذجة…
مااكثر الممنوع والغير متاح والغير مباح والرقابة في بيئاتنا…!
ننتج كتبا في دار المنى من الأدب الإسكندنافي والعالمي ونترجم اعمال ادبية مهمة ولا نرى من يتكلم عنها او يبرزها للقراء العرب . المسؤولون عن الصفحات الثقافية تحولوا الى روائيين وليس لديهم الوقت لتسليط الضوء على ما يصدر من اعمال ادبية عالمية ولا يساعد احد في التعريف بها ، فالجوائز الأدبية محط اهتمامهم . وكل ما يكتب من نقد وتحليل ما هو الا بين الأصدقاء وللأصدقاء،
اما عملية الرقابة فهذه ابدية وليست حديثة وهي ايضا ليست السبب في تقاعس الترجمة او الحركة الأدبية بل هم المثقفون العرب أنفسهم الذين لا يمارسون دورهم الحقيقي في التعريف بكل ما هو محفز وجديد ومهم .
شاركوا عبر هذا المنبر في القدس العربي وكثفوا من مشاركاتكم ودلّونا على الاعمال المتميزة التي تقومون بترجمتها..القارئ العربي يبحث بنهم عن الاعمال الادبية والفكرية والفلسفية الراقية والمؤثرة..
اتمنى ان تكتبوا عنوانكم البريدي هنا في هذا المنبر…
الناشر ايضا عليه ان يعرّف بنفسه ويستغل اي منبر للتعريف بانتاجه..
أنا أعطيت نسخة من كتاب (لا أصدقاء سوى الجبال) ،الذي كنت قد ترجمته وأنا في السنة الرابعة من دراستي الجامعية، إلى الصديقة الجزائرية فتيحة خوجة التي أخذتها معها إلى الجزائر، ولكنها خبرتني فيما بعد أن أجهزة الأمن صادرت الكتاب. فقالت لهم الصديقة لماذا تصادرون الكتاب مع العلم أن اسم الجزائر غير موجود فيها فرد رجل الأمن عليها جواباً غريباً “لا يجوز أن يدخل كتاب إلى الجزائر بدون موافقة من الرقابة”
الأخ صبحي،
هذه حقيقة لا يختلف عليها ذوا لُبَّيْن: العرب يشكلون 5% من سكان العالم، ولكنهم لا ينتجون إلا 1% من كتب العالم. والأسوأ من ذلك كلهِ، أن نسبة 95% على الأقل من هذه النسبة الأخيرة من الكتب «العربية» المُنْتَجة (1% من كتب العالم) هي إما كتب موجهة لصالح الطبقات الاستبدادية الحاكمة أو كتب جلُّ ما فيها سرقات وانتحالات وتلفيقات أو حتى كتب لا تساوي قيمة الحبر الذي أُهدر على طباعتها!
ولكن، في هذا الزمان العاهر، هناك نوع آخر من المترجمين صاروا «أدباء» و«أدباء أعضاء» فيما يُسمى بـ«اتحاد الكتاب العرب» بدمشق، لمجرد قيام الواحد منهم بترجمة مجموعتين يتيمتين من الشعر الهندي أو الصيني (المترجَم إلى اللغة الإنكليزية عن النص الأصلي) ودون أن يريكَ أي إتقان يُذكر حتى لهذه اللغة الإنكليزية التي قام بالترجمة عنها إلى اللغة العربية. فترى هذا المترجم الرهيب الذي صار «أديبًا» و«أديبًا عضوًا»، بين عشيةٍ وضحاها، تراهُ يصفُّ ويرصف على مكتبه أو منضدته أو مقعده كل أنواع القواميس التي يقتنيها لهذه الغاية، وتراه يعمل بكل «جدٍّ واجتهاد» وبكل «تفانٍ وإخلاص»، في آناء الليلِ قبل أطرافِ النهار، وتراه من ثمَّ ينتج هذين «الكتابين» اليتيمين لكيما يصبح في آخر المطافِ «أديبًا» و«أديبًا عضوًا» فيما يُسمى بـ«اتحاد الكتاب العرب»، بحكم القوانين «الصارمة» التي يتخذها هكذا «اتحاد كتاب عرب»!
تحية إلى الأخت منى والأخ جمال،
بالمناسبة، يا أخت منى، رددتُ على إطرائك الجميل في تعقيبكِ على مقال بروين حبيب الذي يتعلق بموضوع «الأم مدرسة»، والذي نُشر في قسم المنبر في 18 تشرين الأول (أوكتوبر) 2016.
وبالمناسبة، يا أخ جمال، رددتُ أيضًا على تعقيبكَ على «تقرير: نوبل للآداب لبوب ديلان» الذي يظهر تحت عنوان «روح الأدب والفن»، والذي نُشر في نفس المكان والتاريخ.
مساء الخير يا أستاذ حي يقظان ..أشكرك جزيل الشكر وأضم صوتي الى صوت الاستاذ جمال البدري بأن لا تحرمنا من اطلالاتك المتميزة في القدس العربي…
الأخ المحترم حي يقظان : أشكرك.ونريدك دوام التواصل والتعليق والمشاركة ؛ فأنت موسوعة فكرية وأدبية ومعرفية ثمينة ورائعة ؛ كشفتها لنا جريدة القدس.فلا تحرمنا من جودك ولو اختلفنا بالرأي.فاختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية.مع المودة.
شكرًا للقدس العربي وتجاوبها. وهذا ما كنّا نفعله في السنين الماضية وهو تزويد الصحف بنماذج من الاعمال الجديدة المترجمة او حتى تسليمها باليد للذين نعرف ان لهم صوتا ولهم قراء. النقد الأدبي عملية حيوية ابداعية ونحن بأمس الحاجة اليها ناشرين وأدباء.
استاذ صبحي حديدي :
Et voici une phrase de Meursault traduite en arabe : Jl fallait que je m’applique à réduire ce cri, à le raisonner. Il fallait que je sois naturel même dans cette hypothèse, pour rendre plus plausible ma résignation dans la première.
وكان ينبغي ايضا ان اعمد الى تحويل هذا الصراخ، واخضاعه للصواب، وان اكون طبيعيا حتى في هذا الافتراض الجديد، حتى يغدو تسليمي بمشيءة الله، في الافتراض الاول محتملا.
—————
الغريب البير كامو ص122 . دار اسامه دمشق.