الرقص بين لغة الجسد وترجمتها

الرقص هو لغة الجسد ينطقها جسد الطفل قبل أن ينطق لسانه بالكلام، وهو أداة تعبير نستطيع من خلالها نقل أحاسيس تعجز أحياناُ وسائل التعبير الأخرى عن نقلها.
حتى النباتات والطيور والحيوانات والكواكب تتخاطب بالحركة والتحليق والاهتزاز والدوران، وما الرقص في النهاية إلا هذا كله مصحوباً بنغم قد تعزفه آلة موسيقية أو أوتار حنجرة أو تشابك أيدٍ أو ارتطام أقدام أو حتى رذاذ مطر على زجاج نافذة.
ولأن الرقص كلام الجسد والأجساد أوطان والأوطان لغات وتاريخ وتراث، نجد أن لكل جسد راقص لغته الخاصة المرتبطة حتما بمكان الولادة وثقافة البلد وتراثه، فالرقص في البرازيل مثلاً هو «كرنفال» بكل ما يحمله هذا من احتفال، وربما هذا يفسر حالة الفرح التي ترافق رقص البرازيليات بغض النظر عن نوعية الرقص الذي يمارسنه، وأذكر مرة كم شعرت بالصدمة بسبب التناقض بين الوجه السعيد لراقصة شرقية برازيلية وكم الحزن والشجن في كلمات الأغنية العربية المرافقة لها.
وقادني هذا في ما بعد إلى السؤال عن قدرة الراقص الأجنبي على فهم الشجن الذي تحمله موسيقانا وترجمته رقصاً، وإلى أي مدى الترجمة ستكون قادرة على الوفاء للمعنى والاحساس؟ للإجابة عن هذا السؤال أجد نفسي مضطرة للعودة إلى الوراء وبداية اكتشافي للرقص وشغفي به، هناك في قلب الفلامنكو.
الفلامنكو…روح الغجر:
المكان قد يكون ناصية شارع أو قبو حانة أو خشبة مسرح، ولكن الأعمدة الأربعة التي يرتكز عليها الفلامنكو لا تتغير وهي:
أقدام الراقصين وأذرعهم، أوتار الغيتار، حناجر المغنيين، وأكف العازفين التي تضبط إيقاع الموسيقى والرقص. وهناك خامساً قرين إبداع الراقص، جني الوحي الذي يهبط على الراقص أو المغني ويجعله يدخل في حالة من الطرب تنسيه العالم من حوله، وهو بالإسبانية: «duende». لن يستطيع أي راقص فلامنكو شرح معنى المصطلح لك، بل سيقول ببساطة: هذا لا يشرح بل يعاش، والفلامنكو بالنهاية ليس رقصاً وحسب، بل هو أحاسيس هائلة وغائرة إن صح التعبير، بل إن هناك شكلا من أشكال الغناء يسمى «الأغاني العميقة»، ويمكن فيه تشبيه الروح الغجرية ببئر عميقة معتمة، وصنف «الغناء العميق» هو الدلو الذي يحمل ماء الروح «دموعها» نحو الأعلى. حتى أن شاعر الأندلس العظيم لوركا، خصص ديواناً كاملاً بعنوان «قصيدة الغناء العميق»، وهذا النوع من الغناء يعتبره لوركا بمثابة «ثقافة الدم» لكونه الأكثر عمقاً وتعبيراً عن روح الشعب الإسباني. عندما يخرج صوت المغني من أعماق الروح ويتصبب الراقص عرقاً أشبه بالدم، عندها تصدح حناجر الجمهور «أولية»، الصرخة التي لا ترجمة حرفية لها في لغتنا إلا «الله» التي نصرخها أيضاً عندما يدخل المغني ويدخلنا في حالة الطرب، وهي الصرخة نفسها التي ترجمت فيما بعد إلى «عظمة على عظمة يا ست» لتستجيب لعظمة حنجرة الست «أم كلثوم».
الفلامكنو هو رقص الألم ولكنه رقص الفرح أيضاً كما في الـ»أرلغيرا» و»سيفليانس» مثلاً، وهو رقص المرأة والرجل معاً ووجهاً لوجه، أما امرأة الفلامنكو ورغم نعومة وردتها الحمراء، هي امرأة قوية ومفعمة بأنوثة متحدية، امرأة تراقص الرجل بأقدامها، بعينيها، بذراعيها وبطبقات ثوبها.. ولأن الفلامنكو ابن الأندلس حيث عبر أجدادنا وتأثير الرقص الشرقي عليه جلي في حركة الأيدي والأوراك، والأنوثة الكامنة فيه لا تكتمل إلا برقص الأنوثة المطلق، قادتني قدماي رغماً عني إلى الجذور، وكأن الرقص كالأوطإن نهجرها لنعود إليها، إلى هناك حيث اللغة الأم والرقص بلا وسيط أو مترجم.
الرقص الشرقي.. رقص الأنوثة المطلق:
يحدث أن تتعلم الفلامنكو في مدرسة للرقص، فيتناهى لسمعك نغم شرقي من القاعة المجاورة، فيتبعه قلبك غير واثق إلا من خفقانه مع ضربات الإيقاع ولتكتشف بعدها أن معلمة الرقص لا تشبه راقصات أفلام المقاولات، وأن قاعة الرقص لها أربعة جدران ولكنها ملاعب مفتوحة للأنوثة، حيث لا رقيب إلا انعكاس صورتك في المرايا، مرايا ستتعلم مع الوقت مصادقتها والبوح لها. إنه الرقص المصمم على مقاس الأنوثة، حيث يعبر النغم مناطق من جسد المرأة لا يستطيع أي رقص آخر الاقتراب منها فكيف إذن ملامستها، سيرسم الورك رقم ثمانية ثم يمحى ليرسم من جديد إلى ما لا نهاية، وليكتشف في النهاية أن «اللانهاية» لها شكل الثمانية باعتراف الرياضيات وإثباتها.. وهو رقص الخصوبة أيضاَ، هكذا بدأ في المعابد وهكذا استمر محاكياً الطبيعة، في اهتزاز الخصر مقارباً اهتزاز أوراق الشجر، في امتداد الأذرع بانحناء طفيف كغصن شجرة يحمل ثمرته بكل أناقة، وكما تكتب الريح أبجديتها على الرمال وتسميها كثبان رملية هكذا يرسم الصدر أبجديته الخاصة على جذع الراقص ويسميها أحرفه الراقصة.
كل هذا يسمى تقنية «تكنيك» وهو يحتاج إلى «جسد سمكة» ليسبح مع النغم، كما يحتاج إلى تضاريس جسدية تمتد بين السهول والوديان والجبال لنقل الحركة بكامل صدقها وأمانتها، وطبعاً يحتاج إلى الكثير من الإرادة والتدريب، ولكن يبقى الرقص ناقصاً ومعقماً إن لم يرتبط بالإحساس.
الإحساس هو الذي يحول جسد الراقصة إلى آلة موسيقية خالصة تضاف إلى الآلات العازفة الأخرى، وهو المايسترو الخفي الذي يقود الراقصة ببطء إلى تخطي حدود جسدها وتجاوز عتبة الألم للوصول إلى «السلطنة» حيث الروح في ملكوتها الأعلى.
وحيث يتكثف الدم تحت الجلد ويصاب الجلد بالقشعريرة والأطراف بالتنمل، وتتكدس المياه في العيون لا دموع فرح ولا دموع حزن، بل عرق الروح وماؤها عندما تتفجر ينابيع الأحاسيس داخلنا.
هذا الجانب من الرقص لا يدرس وتعجز أغلب الراقصات الأجنبيات عن فهمه أو ترجمته، وغالباً ما يعجزن أمام امتحان «أم كلثوم»، ولهذا تعتبر سهير زكي راقصة الإحساس الأولى وأول راقصة تجرأت على الاقتراب من أغاني أم كلثوم، فكانت «أم كلثوم الرقص الشرقي» عن جدارة. ما يميز سهير زكي هو جرعة الإحساس العالية التي تجعل كل عضلة في الوجه والجسد ترقص وتتنفس موسيقى، فنشعر وهي تمشي وكأنها ترقص وحتى عندما تقف تمنح صمت الموسيقى بلاغته، والإثارة لديها راقية تلامس الروح لا الجسد. وفي الرقص الشرقي الإثارة ميزة ولعنة في آن، وبسبب الحسية العالية فيه وارتباطه بالأنوثة، تم استغلاله بطريقة سيئة وصار أقرب إلى العهر منه إلى الفن. وارتبطت صورة الراقصة بالمرأة الساقطة والمشتهاة، في تناقض غريب بين الازدراء والاشتهاء، حيث تهاجم الراقصة في الشارع وتقدس في الخفاء. والتحدي الحقيقي الذي يواجه الرقص الشرقي اليوم هو في إعادة الاعتبار له كفن راق وإعادة الراقصة من خشبة الملهى الليلي إلى خشبة المسرح، وضمن هذا السياق كثرت في الآونة الأخيرة المطالبة بتغطية جسد الراقصة الشرقية، ليس من باب الحشمة والستر، ولكن رغبة في تغيير زاوية النظر للراقصة وتقييمها استناداً للموهبة الفنية لا استناداَ لكمية اللحم العاري.
قديماً كان يقال إن «الراقصة تستطيع أن تهد عروش»، في إشارة إلى سلطة الراقصة المطلقة وفتنتها التي لا تقاوم، حتى في الأساطير القديمة هناك شخصية سالومي، ابنة هيروديا التي رقصت بأثوابها السبعة ونجحت في استمالة هيرودس، فأذعن في النهاية لمطلبها وقدم لها رأس يوحنا المعمدان هدية على طبق من فضة.
سلطة الراقصة على الرجال تكمن ربما في امتلاكها مفاتيح جسدها وغوايته، ولكن هناك خيطا رفيعا جداً بين الغواية والابتذال، بين تحريض الخيال والإثارة الفجة في الملاهي والمطاعم. وجمالية الرقص الشرقي هي في ألا تتجاوز الغواية «رشة الفلفل» التي نبهر بها عادة الطعام، أي نقصان في تلك الخلطة سيقود إلى «رقص فاتر» أشبه بالحركات البهلوانية، أما الزيادة فستقود حتماً إلى الابتذال وهنا الطامة الكبرى وهذه هي الحال اليوم للأسف. غالباً ما يكون رقص الأجنبيات أقل ابتذالاً وبتقنية عالية، ولكن بإحساس ضعيف بسبب مشكلة اللغة والغربة عن المجتمع الشرقي، وكما هو الحال مع اللغات ترقص كل راقصة «الشرقي» بلكنة بلادها، فالروسيات يرقصن بروح البالية والبرازيليات بابتهاج السامبا وربما الأرجنتينيات هن الأوفر حظاً فيما يتعلق بالإحساس بسبب التانغو وما فيه من شجن وحنين.
ورغم أن الرقص الشرقي أناني والتانغو رقص المشاركة، ولكنه يشترك مع الرقص الشرقي في قدسية الرقم ثمانية، التي ترسمها الأقدام هنا لا الأوراك. وحتى لا يأخذني التانغو في غواية دوائره اللانهائية ويجعلني أسترسل في الكلام أكثر، خصوصاً ألا شيء يشبه الرقص سوى الكتابة عنه، سأختم بأجمل مشهد شاهدته في قاعة الرقص:
فتاة معاقة منذ الولادة ونصفها الأيمن شبه مشلول، رأيتها في درس الرقص ترقص بخفة ورشاقة، وأستطيع الجزم بأنها وهي ترقص استقامت أطرافها اليمنى، وكأن الرقص يشفي ويخدر الألم، يخترع الجمال ويمنح أجنحة سحرية. وربما من أجل هذا نرقص، لنقاوم اليأس والموت… ولأن الحياة في النهاية رقصة لا تعاش حقيقة إلا في ارتجال عيشها.

كاتبة سورية

 

الرقص بين لغة الجسد وترجمتها

آية الأتاسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آدم س د:

    **الإحساس هو الذي يحول جسد الراقصة إلى آلة موسيقية خالصة تضاف إلى الآلات العازفة الأخرى… يقود الراقصة ببطء إلى تخطي حدود جسدها وتجاوز عتبة الألم للوصول إلى «السلطنة» حيث الروح في ملكوتها الأعلى، وحيث يتكثف الدم تحت الجلد ويصاب الجلد بالقشعريرة والأطراف بالتنمل.. **
    هذه منزلة لا يعيها إلا من تخطى الحجب وتكشفت له حقائق الأمور، فكيف يعرف هذه العوالم لمن لم يذق شيئا منها ولم يقتحم ساحاتها؟!! هي منزلة لا يصبر أغوارها إلا من أوتي ذوقا وحسا يتجاوز إدراك العوام كالشيخ داوود كروي، نرجو أن لا يبخل علينا في البوح بما جادت به قريحته في هذا المضمار. ولاحول ولا قوة إلا بالله.

  2. يقول الدكتورجمال البدري:

    لفظة أوليه : معناها بالضبط ( الله ؛ الله ) مكررة وليس لفظ ( الله ) للتعجب لمرّة واحدة.وهي كلمة استثارة تخرج من أعماق الهزّة كالدراويش الصوفية في الحلقة…وعبارتك : ( الغناء العميق هوالدلوالذي يحمل ماء الروح «دموعها» نحو الأعلى ).رائعة…حقيقة المقال مكتوب بلغة محسوسة المشاعر؛ فهو( آية ) شرقية راقصة ؛ من دون حناجرولا تطبيل ولا رقم ثمانية.نعم رقم ثمانية يدلّ على اللانهاية ؛ ولي فيه شاهد
    شهيد له مناسبة وذكرى أخرى إن شاء الله.

  3. يقول محمد سيجري:

    لاشيء يشبه الرقص سوى الكتابة عنه ..
    من يكتب التاريخ ، ليس كمن عاش تلك الحقبة من الناريخ ، وكذلك من يسرد احداث المعركة .. قد يجيد نقل تراتبية الحدث لكنه لن يلامس احساس وشعور ذاك المقاتل الذي خاض غمارها وعاش لحظاتها .
    مايميز هذا المقال ان الكاتبة ليست متطفلة على مضمار هي ليست احد لاعبيه ، بل هي احد ابطاله المجتهدين كهاوية وعاشقة لهذا الفن النبيل المفعم بالإحساس والذي يحمل في كينونته اعلى درجات الرقي وأسلس لغات الارض وأحبها لمتذوقي هذا الفن الروحي الا وهي لغة الجسد التي يفهمها الجميع دون حاجة الى ترجمة أو ترجمان .
    حرفية في الوصف وعمق في المعنى ورهافة في الحس ونبل في الروح وصواب في المقاربة والمقارنة بين النظرتين ( الابتذال و الرقي ) .
    الشكر موفور لكاتبنا الشابة آية التي مافتئت تغدق على محبيها بمقالات تلامس الوجدان وتداعب الخيال وتحلق بعالم الانسان .

  4. يقول محمد سيجري .. كندا:

    لاشيء يشبه الرقص كما الكتابة عنه ..
    من يؤرخ لحقبة من الزمن بالتأكيد ليس كمن عاشها وأمعن في تفاصيلها ، ومن يسترسل في سرد احداث معركة وإن اجاد في تراتبية أحداثها ، قطعاً ليس كمن خاض غمارها وعاصر آلامها وبؤسها لانه مهما امتلك من بلاغة السرد سيبقى نبض الإحساس منقوص لاستكمال جمالية اللوحة .
    مايميز هذه المقالة عن الرقص ان كاتبتها ليست متطفلة على ميدان تتجول في زواريبه وتمعن في تحليل ماهيته وتفصل في أدواته وهي ليست لاعبة فيه ، بل لعلها الأمهر بين لاعبيه كهاوية متمرسة وعاشقة هائمة ، لا كمحترفة أو غاوية .
    رؤية الكاتبة تحمل بعداً في النضج والمدى لفن تراه في اعلى سلم النبل والنقاء رغم انه يحمل إشكاليته بين ثناياه وللحقيقة أقول قلما من تجرأ على الخوض فيه كما تتعمق في ادق تفاصيل حركاته الراقصة كي لاتضيع جمالية وروعة المشهد الذي تنقله إلينا وكأننا لانقرأ بل نتسمر امام شاشة عملاقة نستمتع بما نرى من فن راقٍ جميل ، وكذلك أراها وفقت بتصويبها بالمقارنة بين النظرتين المتعاكستين لذات المنتج الابتذال .. والرقي .
    ابداع في الخيال ان نرقص على أنغام رزاز المطر وهو يداعب نوافذنا المغلقة في ليالينا الباردة .
    الشكر موفور لكاتبنا الشابة آية التي مافتئت تغدق علينا بمقالات تحمل من نقاء روحها مايخاطب الوجدان ويحلق في عوالم الانسان .

إشترك في قائمتنا البريدية