منذ سنوات قليلة، أصدرت البريطانية آي ال جيمس، ولم تكن كاتبة معروفة من قبل، على الرغم من تجاوزها سن الأربعين، روايتها الأولى، «خمسون ظلا للرمادي»، التي ستصبح ثلاثية في ما بعد، وتتحدث عن قصة حب غير مألوفة بين رجل أعمال سادي اسمه غراي، وفتاة صغيرة، هي الطالبة أنستاسيا، لتصبح تلك الرواية في أشهر قليلة، الكتاب الأكثر قراءة في العالم، متجاوزا «شيفرة دافنشي» للأمريكي دان براون، وسلسلة «شفق» لاستيفاني ماير، وكتبا أخرى لباولو كويله، وهاروكي موراكامي، وماركيز، كانت موجودة بسخاء في جداول القراءة، وذاكرات القراء.
وعلى الرغم من أن كتاب «الرمادي» لم يحمل أي بصمة فنية من حيث اللغة والأسلوب، ولم يؤسس لطريقة كتابة جديدة، ولم يلق ترحيبا نقديا حارا، ووصف في معظم ما كتب عنه من مراجعات، بأنه مجرد كتاب جنسي إباحي، بلا قيمة، إلا أن ذلك لم يهزم الجزء الأول ولا الثاني، وطرح الجزء الثالث منذ أقل من شهر، والآن هو الكتاب الأول من حيث القراءة. يتبادل القراء الآراء حوله بين من يمدحه ومن يذمه، ومن يقرأه بلا ضجيج، أو يرشحه لآخرين، وهكذا ليتمدد، ويعاد طبعه بملايين النسخ، وأيضا سيحول قريبا إلى شريط سينمائي، كما تحول الجزءان اللذان سبقاه.
البريطانية جيمس لم تدع أنها مبدعة، ولم تكن تعرف حتى أنها يمكن أن تصبح كاتبة ظاهرة ذات يوم، وهي تدون أفكارها وتنشرها على مواقع النواصل الاجتماعي ومدونات الإنترنت، وقطعا فوجئت بتحولها إلى ظاهرة، ولا أظنها ستسعى للبحث عن تفسير، بعكس الذين يكتبون لسنوات طويلة، ويجتهدون في اختراع الأساليب الفنية، واللغة المميزة، ويغازلون القراء بمئات الحيل، ومع ذلك يظلون كتابا ماضين في سكة القبول العادي للكتاب، ولا يتحولون إلى ظواهر. فهم يتساءلون كثيرا عن سبب ركودهم وعدم تميزهم كثيرا، رغم التميز الواضح لكتاباتهم، والاحتفاء النقدي بها.
نعم الظواهر بلا تفسير، والذي يحاول تفسير ظاهرة ما في أي مجال، سيعاني كثيرا ولن يصل إلى جواب معقول، الكاتب الظاهرة، يعامل كظاهرة فقط، الممثل الظاهرة كذلك، المغني الظاهرة، وأي مجال آخر فيه تنافس إبداعي أو وظيفي، أو تجاري، وأذكر جعفر الذي كان يبيع الأدوات المنزلية والعطور ومستلزمات الأطفال في طبلية صغيرة وسط مئات الطبالي التي تشبهها في الشكل والحاجيات ويشبه أصحابها جعفر. كان ذلك أمام بيتنا بالقرب من المستشفى العام، في مدينة بورتسودان، أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ثم فجأة وبلا أي تميز أو ظهور موهبة خارقة، تحول الشراء جميعه إلى جعفر تاركا الآخرين، ليصبح في أشهر قليلة، ظاهرة تجارية، يتحدث عنها الناس، ثم ممتلكا لعدد من المحلات التجارية في السوق، ولم يتغير أي شيء في شكله أو بيعه أو ملابسه. أيضا فقد تحول بائع فول بسيط في ركن المدرسة المتوسطة، إلى بائع ظاهرة، يصطف الناس لساعات من أجل أن يحظوا بالفول الذي يصنعه، على الرغم من أنه فول عادي، يشبه أي فول يمكن تذوقه في أي مكان. وبمقاييس هذا العصر، ومع ظهور مواقع مثل، تويتر وفيسبوك، يمكننا معرفة الظواهر بسهولة، ويمكننا متابعتهم ومتابعة نشاطهم أيضا، ولن نجد أي شيء مميز، أو أي علامة تجيب على سؤال تكونهم ظواهر بينما هناك من هو أجدر ولم يصبح حتى ذرة في غبار ظاهرة. فالمبدع الظاهرة يكتب على تويتر: صباح الخير، مثلا، وتجد ملايين المتابعين أعادوا تغريد صباح الخير تلك، بطريقة تلقائية، كأنما يوجد ثمة تواصل تخاطري بين الظاهرة وبينهم، وغير الظاهرة، يتغزل، ويكتب القصائد المحتشدة بالعاطفة، وربما يتفرد بمعان جديدة، أو مفردات أو حكم، لم يقلها أحد من قبل، لكن لا يلتفت إلى اجتهاداته تلك أحد.
حين صدر كتاب دان براون «شيفرة دافنشي» منذ سنوات عدة، وتمدد بسرعة ليصبح الكتاب الأكثر قراءة، وتباع نسخه بالملايين، سعيت لقراءته باكرا. كان كتابا جيد الصياغة، وفيه أبحاث عميقة، ويطرح قضية جادة، لكنه لم يكن الكتاب الوحيد الذي يفعل ذلك، فقد سبقته كتب أخرى، تتحدث عن المسيحية بوجهات نظر مختلفة، إما تمت قراءتها بعادية شديدة وانتهى أمرها، أو لم تقرأ بحماس على الإطلاق، ساعتها كان لا بد من الاعتراف بأن براون ولد ظاهرة، وسيظل ظاهرة يتسابق الناس إلى كتابته، حتى لو لم يكونوا قراء، وإنما مجرد أشخاص يحتفون بظاهرة. ويمكن أن يتابعونه على تويتر، ويعيدوا تغريد ضحكته لو ضحك ذات يوم. أو صباح الخير التي يكتبها، لو كتب مرة صباح الخير.
قبل دان براون كان الياباني موراكامي، والبرازيلي باولو كويلهو الذي اشتهر برواية صغيرة عادية للغاية، هي «الخيميائي»، وتحول بها إلى ظاهرة، وغيرهما كثيرون، يجب أن يعاملوا هكذا بلا دهشة أو استغراب. لقد قرأت الخيميائي، وقرأت أعمالا أخرى لكويلهو، وفي كل مرة يزداد اقتناعي، بأن امتلاكه ملايين القراء، ظاهرة ينبغي عدم تأملها.
آي ال جيمس طرحت «الرمادي» بتلك الأفكار والأفعال الجنسية الإباحية، كما صنفها بعض من تعرضوا لسلسلة كتبها، ولكن هل كانت أول من يطرح هذه الأفكار بعينها في الكتابة الغربية؟
بالقطع لا، فالكتابة عموما تأخذ من المجتمع الذي تولد فيه كما أردد دائما، وهذه الأفكار غير المحتشمة موجودة في المجتمعات الغربية، بطريقة عادية، يتقبلها الناس ولا ينظرون إليها باستغراب، ولذلك كتبت عن المثلية الجنسية مثلا، روايات عدة، وأنتجت أفلام سينمائية أيضا، ولا بد كتب عن السادية في اللقاءات الحميمة، وأنتجت أفلام كذلك، ولكن لأن جيمس ولدت ظاهرة، فستظل ظاهرة، وكل ما تكتبه سيضاف إلى رصيد الظواهر.
أخيرا أضيف بأن مقارنة الكتاب بالظواهر، لا ينبغي أن تحدث لأن المقارنة هنا ظلم لكتاب رائعين جدا ولدوا عمالقة، لكنهم لم يولدوا ظواهر.
روائي سوداني
أمير تاج السر
أنا آسف للخطأ بهذا التعليق فمكانه القبض على عصابات ببغداد
رمضان كريم
ولا حول ولا قوة الا بالله
يا للمفارقة!
عندما كتب الكاتب الإيرلندي جيمس جويس كتابه الشهير «يوليس» (أو «عوليس» حسب ترجمة طه محمود طه) منذ حوالي قرن من الزمن، أقام الدنيا وأقعدها في العالم الغربي المسيحي، وقتئذٍ. إذ تعاونت الكنيسة الكاثوليكية مع السلطات “المحافظة”، في إيرلندا بالأخص، على حظرِ الكتاب حظرًا قطعيًّا، بعيد صدور الطبعة الأولى منه، وعلى شنِّ حملة حامية الوطيس على الكاتب نفسهِ وإلى حد تهديده بالقتل المتعمَّد، ناهيك عن حرق آلاف النسخ من الكتاب كعقابٍ تمهيدي. فاضطر جيمس جويس، على أثر ذلك، إلى التخفِّي متنقلاً من مكان إلى آخر، واضطر من ثم إلى الهروب خارجَ البلاد ليعيش جلَّ حياته بعيدًا عن مسقط رأسه دبلن. وكلُّ هذه الحملة الشعواء كانت، في الأساس، بسببٍ من مشهدٍ من مشاهد الكتاب يصوِّر جماعًا جنسيًّا ذُهانيَّا متخيَّلاً بين البطل وامرأةٍ أرته جزءًا من فخذها في العراء، مشهدٍ لا يكاد يستحقُّ الذكرَ في “إباحيَّته”، حقيقةً، أمام حتى المشهد الأكثر “حشمةً” من بين مشاهد رواية آي ال جيمس «خمسون ظلا للرمادي».
غير أنه، على صعيد ما يُسمى بـ«قنبلة الموسم»، في الغرب عمومًا، هناك العديد من العوامل التي تؤدي إلى ظهور الكاتب الظاهرة، من أهمها: الجاه والمال وكون الكاتب امرأةً بالذات، خصوصًا عندما تكتب كتابًا جنسيًّا إباحيًّا يخجل من قراءته حتى الرجل!
مقال لطيف و لكن ارجو ان يسمح لي الكاتب الموقر ان اخالفه في تقديره لقصة “شفرة دافنشي” فقد كانت سيئة جدا. و انا في انتظار المقال القادم من الكاتب.
مقال ممتاز ، استاذ امير، افضل ما قرات لك في القدس حتي الان ، نظره فلسفيه ، ليس كل ما يعجب الناس هو الافضل