لم يعد التذكير والتأنيث يخضعان لواو الجماعة ونون النسوة وتاء التأنيث، فلو كان الأمر كذلك لما كانت الشمس أنثى والقمر ذكرا، لكن لغتنا جادت على من يتوارثونها بما لم تجُد به لغة اخرى ليس فقط لأنها كما وصفها جاك بيرك ممهورة برسالة انطولوجية، بل لأنها احيانا مّضلّلة عن قصد، كأن تسمي الملدوغ بالسمّ سليما، والاعمى بصيرا، ويكون نصيب العبيد من اسمائها خيرا من نصيب سادتهم، ربما درءا للحسد كما يفعل البعض عندما يطلقون اسم الشحّاذ على ابنائهم، ولعله امر يتجاوز المصادفة ان يكون المرض ذكرا وكذلك الفقر والكفر والسّخط والكذب، وهناك مثل شعبي في مصر يصف الفقر المدقع بأنه ذكر، لكن بالرغم من ذلك فإن الحرب في لغتنا انثى وهي مشروع ذكوري بامتياز، وان كان هناك من يستشهدون بالتجربة الاستثنائية والفذة للنساء الامازونيات اللواتي كنّ يبترن اثداءهنّ كي لا تعوقهن عن استخدام القوس، وما اثار انتباهي لهذه المسألة ليس ثنائية التأنيث والتذكيرذات الجذر العضوي بقدر ما هو كتاب لهراقليطس عن جدلية الحب والحرب، والمصطلحات المتعلقة بالحرب التي انتقلت عدواها الى الحب كالصدّ والاتّقاء، والانتصار والهزيمة والمراوغة والتمنّع، إذ يبدو ان الطبيعة البشرية لا تقبل ما رسم لها من تضاريس وخطوط طول وعرض وخط استواء ايضا، لهذا فالانوثة ليست قارة مغايرة بكل مكوناتها للذكورة، وما بدأه اراغون شعرا في غزله بإلزا حين قال ان المرأة هي مستقبل الرجل اكمله فوكوياما في اطروحة تتنبأ بتأنيث التاريخ وبالتالي تأنيث العالم، لكن ما حدث في الغرب خيّب ظنه كما خيّب ظن التاريخ ما قاله عن موته، بحيث تولت نساء اوروبيات مناصب كانت على الدوام ذكورية ومنها منصب وزير الدفاع .
لكن ما علاقة هذا كله بعنوان هذه المقالة وهو الرواية انثى ؟ الاجابة تتطلب عودة الى تلك المرأة التي جعلت بقاءها على قيد الحياة مشروطا ومرتهنا للكلام، انها شهرزاد التي شهرت قدرتها على الحكي مقابل شهريار الذي شهر سيفه بانتظار صمتها . فهل كانت شهرزاد ثرثارة ام روائية تربط بين نهايات الفصول في روايتها وبين الفجر ؟
وما ينشر في مختلف المناسبات عن تأنيث فن الرواية في ايامنا غالبا ما يكون امتدادا لرؤى افقدها التاريخ صلاحيتها، لأن من اطلق عليها هنريك ابسن في مسرحيته الشهيرة « الدمية « قررت ان تنطق وان تبوح، لأن ما فاض من مخزون صمتها لم يعد له متسع، وشهرزاد العربية الان لا تروي لتؤجل الذبح بل لتقول لشهريار بأنه ثرثر بما يكفي، وآن له ان يصغي ولو قليلا، لكن بعد شروق الشمس وفي عزّ النهار وليس في الهزيع الاخير من الليل، وان كان يغلب على الروايات التي تكتبها نساء وليس ما يسمى الادب النسائي لأنه لا وجود له، السيرة الذاتية بعد اجراء جراحات لها فذلك هو المتوقع من شــهرزاد التي انتصرت على السيف باللسان، ومعظم ما اتيـــح لي قراءته من روايات كتبتــــها نساء حفّــــزني الى مقاربة حفـــرية تتجاوز المطروق السايكولوجي التقليدي، فالمرأة تحمل بــــروايتهـــا كما لو انها جنين لكنها تتولى بنفسها دور القابلة كي تلد . لهذا فالرواية الانثى جوانيــة، وشخوصها سواء كانوا رجالا او نساء هم تجليات لذلك المخزون الشهرزادي الذي فاض عن طاقة الاحتمال . الرواية الانثى تذكرني بما كتبه الانثروبولوجست بيير كلاستر في كتابه الآسر مجتمع ما قبل الدولة، فقد لاحظ ان المجتمعات التي تأخذ فيها المرأة دور السلة ويأخذ فيها الذكر دور القوس لها تقاليد تحرم الصيّاد من ثمار ما اصطاد اي تحرمه من الانتشاء بنجاحه لهذا يمارس انتقاما بريئا من القبيلة بحيث يخترع لغة وايقاعات لا علاقة لها بلغة القبيلة وايقاعاتها، فهل ما تحاوله الرواية الانثى هو كذلك ؟ ام ان ستة الاف عام من السطو الذكوري والاحتكار افرغت ايديولوجيا الذكورة من مزاعمها .
ونحن بالطبع لا نشهد الان انقلابا كونيا كالذي اعقب اكتشاف الذكر للبرونز والذي اقترن بما يسميه مالينوفسكي هزيمة الانوثة الكبرى في التاريخ، لكن ما يكتشف الان لا علاقة له بالمعادن بل بالمفاهيم، فالذكورة اقتادت هذا الكوكب الى كوارث شملت كل الكائنات وآن للذكر ان يصغي لكن دون ان يشهر سيفه ، فالتاريخ هو ايضا ذكر، لكن الاسطورة جعلت منه انثى، حين اطلقت عليه اسم هيكوبيا العجوز التي لا تكف عن الثرثرة على مدار اللحظة !
الرواية الانثى ليست انتقاما شهرزاديا ولا هي مونولوج مشحون بالشجن والانين، انها تعبير آخر عن نبوءة اراغون وهي ان الانثى هي مستقبل الانسان لأنها المرادف للطبيعة وليس للتاريخ، لهذا على من ترجموا عبارة هوفمان الشهيرة وهي ان الاسلوب هو الرجل ان يعيدوا النظر، فالاسلوب هو الانسان الذي يشمل نصفي البيضة المشطورة بخيط حرير كما قال افلاطون !
٭ كاتب أردني
خيري منصور
تحياتي : الرّواية أنثى…كذلك قالها الشاعرالراحل نزارقباني( الحضارة أنثى ) والرّواية بنت الحضارة ؛ كما الشعرابن البداوة.وأبوهما : الإبداع.