حزمة من الأسئلة المستوجبة تتطاير أمام القارئ والناقد بمجرد التفكير في مقاربة رواية «شيخة» لكاتبها علي حسن أبو السعود، الصادرة حديثاً عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي، فالرواية مكتوبة منذ ستين عاماً، إلا أنها لم تُطبع وتُنشر إلا نهاية العام الماضي، بدون ذكر أي أسباب لهذا التأخير، الأمر الذي أفقد الروائي حقه الريادي في محاولة كتابة رواية التاريخ السياسي، وهو حقل على درجة من الأهمية والحساسية لم يُقتحم خليجياً إلا في العقد الأخير.
كما أن الرواية جاءت بتقديم من عدنان السيد محمد العوامي، فهو الذي أشرف على مراجعتها وتحريرها وإصدارها، حيث أعطى لنفسه الحق في خدش براءة النص بقوله «أما أنا فما أبرِّئ نفسي من التصرف في ما وجدت من خلل يسير في تسلسل الأحداث تقديماً وتأخيراً، وفقاً للمتاح من مصادر التاريخ، بما لا يخل بالأصل، وكذلك تغيير أسماء بعض الشخصيات المتخيلة؛ بغية توشيحها بغلالة من الرمز تقربها من غرض المؤلف».
هذا التصرف المُخل، يعني أننا قُبالة رواية مختلفة في جانب منها عما أراده مؤلفها الأول علي أبو السعود، بمعنى أنها رواية محسّنة جمالياً وموضوعياً، أو منزوعة النوايا ومهذبة المقاصد ربما، خصوصاً أن المقدمة التي كتبها عدنان العوامي في مستهل الرواية لا تقدم أي إشارة إلى ما تم التصرف فيه على مستوى فنية النص ومضامينه، بقدر ما تنشغل بالوثيقة السياسية التاريخية التي اتكأت عليها الرواية.
كل ذلك الاجتراء على بكرية النص يدفع إلى التساؤل بارتياب مشروع، عما تم العبث به في صُلب المكامن السياسية والعاطفية تحديداً، التي قد تكون عُرضة للتكهنات والتخرصات التأويلية، وبالتالي فقدنا فرصة الاطلاع على النص الأصلي، ولم يعد بمقدورنا إلا التعامل مع الرواية بشكلها ومضمونها المتاح.
ليس ثمة شيء أكثر صعوبة يجب تأمينه في الرواية من عرض الزمن، كما يقرر لوبلوك، أي تعيين المدى الزمني وتحديد الوتيرة التي يقتضيها والرجوع بها إلى صلب القصة، وبالنظر إلى أن أبو السعود قد أراد لرواية «شيخة» أن تحمل السمة التسجيلية، جاء الزمن خارجياً، محافظاً على انتظام حركته وتعدد شخصياته وخصوبة أحداثه، وهذا هو الدور البنيوي الذي اضطلع به إذ لا وجود لسيرة الإنسان في الرواية التي بموجبها يقاس الزمن، حيث تناولت الرواية جُملة من الأحداث الحقيقية، التي حدثت في القطيف وما حولها في القرن التاسع عشر الميلادي، وبهذا يكون الزمن عنصراً تكوينياً من مكونات شكلها الروائي، إذ لا تنطلق من درجة الصفر زمنياً في عالمها المحكي.
لا خيار للسرد إلا أن يشير ـ تصريحاً أو تلميحاً ـ إلى زمنيته، وهذا هو ما يفسر عنوان الرواية التوضيحي، الذي يفصح كعتبة استهلالية عن كونها «رواية غرامية تاريخية على ضفاف الخليج»، بمعنى أن أبو السعود أراد من خلال الإشارة إلى تلك العتبة الزمنية، إعادة تشييد لحظة تاريخية وعرة، بأثر رجعي، اعتماداً على الوثيقة التاريخية المكتوبة، والمرويات الشفاهية المتوارثة، ومخياله الذاتي، وباستدعاء طابور من رموز الحقبة والمكان بأسمائهم الحقيقية والمواربة.
تتمحور الرواية حول عشق الوجيه القطيفي سليمان بن مانع للأرملة الأرستقراطية الفاتنة «شيخة»، وهو الأمر الذي يرسم ملامح الشخصيات وفضاءات الحركة داخل الرواية المكتوبة برؤية ونبرة ومطامح برجوازية، حيث تنقدح شرارة أول لقاء في حمَّام «أبو لوزة»، محل التقاء واسترخاء وتنزُّه النخبة الاجتماعية، باعتباره حاضناً لزمن متصوَّر، تعاضده منظومة من القرائن الكفيلة بانتظام النص، وتحديد آليات اشتغاله.
في تلك الفضاءات والسيناريوهات المركبة بمزيج من الوقائع والخيال، يعدّد أبو السعود مآثر الفخامة والثراء لتلك الطبقة الحاكمة بالمعنى السياسي السلطوي، سواء في الملابس الحريرية الفخمة، أو البخور والعطور باهظة الثمن، أو الاصطبلات والخيول التي تستخدم كمواصلات لعلية القوم، أو في السباقات الترفيهية، حيث الجواري والعبيد المنذورين لخدمة الوجهاء كالآلات في يومياتهم ونزهاتهم، وبذلك تتبأر الرواية ـ شكلياً ـ في حكاية حب انبساطية ما بين سليمان وشيخة، بدون أي توتر درامي، فالحكاية في جانبها العاطفي مجرد رغبة ملحة للزواج من امرأة ذات معصم بض، حسب تعبير أبو السعود، عندما اخترق «وميض معصمها أعماق قلبه»، وهذا هو ما حدث بالفعل، إذ انتهت الحكاية بزواج تقليدي بدون أي اختراقات اجتماعية أو عُرفية أو قيمية.
القصة العاطفية المدّبرة تلك ما هي إلا خلفية تمويهية، أشبه ما تكون بالمهاد الاجتماعي للقصة الأهم المتمثلة في الصراع السياسي ما بين زعماء القطيف وسيهات، ومقتل متولي حكم القطيف عبدالله بن غانم، المعين من قبل تركي بن عبدالله، على أيدي أهالي سيهات بقيادة علي عبدالرحيم آل نصر، بعد اتهامه بالخيانة وتبديل تحالفاته التي أدت إلى تكبيد أهالي سيهات خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.
واللافت أن الرواية تقدم تلك الواقعة من منظور مختلف ومغاير لما تم إيراده في معظم الوثائق التاريخية، وكأن الروائي أبو السعود، قد أعطى لنفسه، وبموجب مفهوم التخييل التاريخي، حق لي عنق التاريخ، وتبديل الوقائع لتستجيب لمقاصده الروائية، إذ تطرح الرواية الواقعة ذات التفاصيل المتعلقة بقبض أهالي سيهات على ابن غانم، إلا أنها تميل إلى أن مقتله تم على أيدي قوة أخرى «فما أن توغلوا به في الطريق الزراعية عائدين إلى سيهات حتى باغتهم وسط الظلام رجال ملثمون، مدججون بالسلاح، فطلبوا منهم تسليمه إليهم، وحين رفضوا أطلقوا عليهم الرصاص من بنادقهم، فبادلوهم الرصاص بالرصاص، وأثناء تبادلهم الرصاص أصابت ابن غانم رصاصة كانت السبب في وفاته».
إن تجهيل الفاعل هنا، والتلميح إلى آل خليفة لا يُقصد به في نهاية المطاف تبرئة أهالي سيهات من مقتل إبن غانم، إنما إشاعة حالة من السلم الاجتماعي على ما يبدو، أو هكذا يمكن قراءة الفكرة التي أراد أبو السعود توطينها في روايتها لأسباب اجتماعية، فقد اتكأ على مجموعة عناصر لتعضيد فكرته، منها تأنيث فكرة السلم الاجتماعي، بوجود حكيمة الأخت الكبرى لعلي بن عبدالرحيم، التي وصفها بالحكمة لدورها الكبير في ثني أخيها عن التعرُّض لابن غانم، وبتصعيده لدور ولسان أم صالح، التي تتحدث في الشأن السياسي كمطّلعة ومُصلحة وهي مجرد وسيط نسوي للزواج.
كذلك يمكن ملاحظة دور «شيخة» العارفة بكل ألاعيب الساسة، التي تعمل كحاضن نفسي لتعطيل فتيل الحروب والمنازعات، حتى لحظة القبض على ابن غانم حاول التهوين منها وسردها كحالة استسلام بدون أي مقاومة لا منه ولا من حراسه «إن أهالي سيهات لم يتصادموا مع أحد، ولم يقاومهم أحد»، على الرغم من وجود وثائق تدحض ما حاوله في النص، إذا ما احتكمنا إلى قراءة الرواية من خارجها.
أن ما أدّاه علي أبو السعود من معالجة ذاتية للمروية التاريخية يمكن فهمه وموضعته ضمن النوايا الإصلاحية، ولكن لا يمكن تبريره أو استيعابه على مستوى الحقيقة التاريخية من شخصية وطنية طليعية، ولا في مستوجبات واشتراطات النصاب الأدبي، فاللحظة التي جعلها مادة لروايته على درجة من التعقيد والوعورة، حيث كانت المنطقة محل أطماع وصراعات ما بين الأتراك والدولة السعودية الثانية وآل خليفة وبني خالد وغيرها من القوى المتنافسة للاستئثار بالإقليم البحري، حيث حمّل شخصية حسين أبو حيان وزر كل الوشايات والخرابات التي حلت بالمكان وناسه، كما تصفه أم صالح بـ»العقربة الطبانة»، لدرجة أنه أرجع سبب حملة فيصل بن تركي على سيهات وتدميرها إلى لجوء بعض «العماير» إليها، وهو الأمر الذي يهدد بإزاحة بقية المرويات والوثائق لصالح روايته الأدبية، التي يمكن أن تتحول بالنسبة للجيل الجديد إلى وثيقة يُعتد بها، وهنا مكمن الخطورة.
وبتمديد الرواية على حافة الوثائق التاريخية يمكن القول إن كل الزعامات لم تكن متيقنة من رجحان كفة الصراع للدولة السعودية، كما تصرح الرواية، ولا موالية تماماً لجهة، كما يذكر ذلك في أكثر من مفصل، فخبر وصول فيصل بن تركي إلى القطيف «فأل خير عسى أن يؤدي إلى الاستقرار والهدوء، فقد سئم الناس من الفتن والقلاقل»، وكأنه بهذا الانحياز الفاقع داخل الرواية، يعيد تشييد تلك اللحظة بمنطق وواقع اللحظة التي يعيشها، أي أنه يكتب عن اللحظة ولا يكتب من داخلها كصيرورة احتمالية، وذلك من خلال بطل مسالم هو سليمان، الذي يتماهى مع الروائي علي أبو السعود في معرفيته وسلميته وتصالحه مع نفسه ومع نظرته الأفقية الرومانسية للنزاعات، كما يتضح ذلك من قوله «أنا لا أعداء لي، ولا دخل لي في هذه الصراعات، لقد أغناني الله عنهما، فما لي والدخول فيها؟». حتى خزان العادات الاجتماعية، والمفردات الشعبية، التي استدعاها كطقوس وتقاليد، انتابها بعض الارتباك، حيث تزدحم الرواية بعبارات وكلمات وتعبيرات تنتمي إلى أفق زمني متقدم كمفردة المرحاض، والأريكة، والدمى وغيرها من الكلمات المزروعة بافتعال في متن النص وفي ثنايا الحوار على شفاه الشخصيات، وكأن الرواية قد خضعت أثناء الكتابة لشيء من التفصيح أو التأنيق اللفظي، ربما لأنه أراد من خلال تلك الكتابة الإثباتية تغليب الأدبي، ولذلك جاءت الحوارات غير متسقة فهي أحياناً فصيحة ومزدحمة بالاستشهادات الشعرية والآيات القرآنية، وأحياناً أخرى بلهجة عامية شعبية، الأمر الذي أربك مستوى الصوت للشخصيات، حيث كانت الغلبة للزمن السردي باعتباره زمناً دلالياً، على حساب الزمن الحقيقي الذي يشكل مرجعية واقعية.
ويبدو أن أبو السعود أراد بشيء من القصدية ممارسة حالة من التهوام السردي لاستعراض ما يعرف بالزمن الإنساني وترديد مآثر المكان كحمّام أبو لوزة، والبدراني، والخضر، والرفيعة والدرويشية، وهي فضاءات ذات دلالات تراوح ما بين الترفيهي والاسترواحي والتعبُّدي، كما استحضر ممارسات ذات مغزى اجتماعي ديني كالتذريع، والطبن، وكشف الكتاب، بالإضافة إلى إيراده لمتوالية من الأدوات الاستعمالية كالمدّة والگدو والربعة واللاس، وهو أداء سردي جعل من الراوية حافظة للموروث المادي واللامادي للمكان، حيث يمكن هنا استبطان الوعي الروائي الذي أكد على أهمية استحضار واستنطاق تلك الطبيعة الميتة.
إنها سيرة وجيه قطيفي تتجسد فيه ومجايليه المطامح الدفنية للأرستقراطيين في القطيف ممن يُعرفون اجتماعياً بأهل «السور» في لحظة تاريخية مربكة، ومن ذلك المنطلق جاء السرد، أي من زاوية الامتيازات الشخصية والمكائد والتبريرات والخيانات والوشايات وتبديل الولاءات، وكأن الرواية قد كُتبت ضمن رؤية تريد تأكيد تحالفات الماضي، وإعادة صياغة الحلف من منظور أدبي له رونقه، ومهما حاول علي أبو السعود تقديم سليمان كزاهد في المكانة السياسية الاجتماعية، وابتعاده عن الصراعات، واكتفائه بحبيبته «شيخة» بما يحمله اسمها من دلالات الجاه والسلطة، يكشف النص التحتي للرواية عن تأصُّل الحس الأرستقراطي في بطله، بكل تداعياته الإقطاعية والسلطوية، فهذا هو سؤال رواية «شيخة» المركزي، وتلك هي ما أفصحت عنه مضمرات خطابها.
ناقد سعودي
محمد العباس