تتموضع الثقافة العربية المعاصرة في مساحة بينية، أو بين ما يمكن أن نطلق عليه مراهقة الموروث، وكهولة الحداثة، فحين تختلط القيم والأفكار والسلوكيات في الوعي غير المستقر تبعاً لعدم وجود هوية منجزة، أو لكونها مرهونة لمتطلبات بعدية أو قبلية.
ولعل هذا المسلك انعكس على المقصدية في العمل الروائي وآلية التشكيل السردي، فالرواية العربية بعد أن فارقت الواقع بتكوينه البكر، وعناصره السردية المطمئنة نحو مرحلة التجريب، والدعوة لتجديد أنساق الكتابة الروائية عبر المزيد من تفكيك العناصر السردية من أجل التعبير عن عالم بات يطفو على السطح، بعد أن طغى عصر الشك، وعدم معقولية الواقع الذي ارتطم بأقسى أزمة يواجهها العرب في العصر الحديث، ونعني نكسة 1967، وشيئاً فشئياً برزت الرواية الجديدة غير المكتملة أو الناضجة في نسختها العربية، وبدخول القرن الواحد والعشرين اتجهت الرواية إلى تشكيلات أُخرى، حيث لم يعد الوعي بالتشكيل النصي، أو شكل الرواية شاغل الروائيين، بل التعبير عن أزمة العصر، لا بواقعه الذي تجزأ إلى مستويات فحسب، إنما أيضاً بضابيته، وعدم اتساقه، ولهذا بدت الكتابة الروائية أقرب إلى مسلك اكتشاف الذات بوصفها سقطاً خرج من رحم التجربة العربية المعاصرة، ولكن غير مكتمل الملامح، أو التكوين.
إن ما تنتجه الرواية العربية من تصورات وأفكار أقرب إلى محاولات للبحث عن سمات العقل العربي في مسعاه لتبني أشكال من الحداثة، وما بعدها، على الرغم من عدم امتلاك هذه التجربة للحاضنة الثقافية والتاريخية الملائمة لها، ولهذا جاء البحث عن تصورات الذات في سياق ارتدادات نحو ذاتية ماضوية منجزة، أو طارئة مُستعادة. ولعل مسلك الرواية العربية بوصفها إبداعياً، يعد دليلاً أو مثالاً في هذا السياق، ولا سيما الإقبال على التعاطي مع الرواية بوصفها نصاً متطوراً مقابل تراجع بعض الأجناس التي فقدت القدرة على عكس أزمة إنسان القرن الواحد والعشرين، باستثناء السينما التي يتهيأ لها الظرف تقنياً ونظرياً.
إن سيكولوجية الامتثال التي تمارسها الرواية العربية لم تأتِ من قبيل الصدفة، بل هي مخاض المجتمعات العربية في أزمة «المدينية» والهجرة واللجوء والاقتتال وافتقاد ذلك اليقين، لا بتمثله الوجودي الفلسفي فحسب، إنما بفعل البقاء للذات العربية «الفردية»، وبحثها عن الأمان والحرية والكرامة، فمع انفكاك مراكز الخطاب وتشرذمها على مستوى العالم، فإن الذات العربية طفقت تتآكل، وتتضخم وتنمو في آن، فهي خاضعة لصيرورة العولمة التي قوضت مفاهيم الدولة الشمولية، حيث افتقدت الأخيرة للتمركز الأيديولوجي، أو الفكري، وهكذا أصبح من يشاء قادراً على إقامة تشكيل، أو نظام أيديولوجي يعمل كشرنقة تقيه هذا التماثل، عوضاً عن فقدان معنى الخصوصية الحضارية، فالدولة قد تخلت، أو أجبرت على التخلي عن دورها في تكوين مرجعية حضارية، نظراً لكونها في الأصل نشأت بوصفها كياناً ملفقاً، نتج من مخلفات الاستعمار. ومن هنا، انبثقت تلك الاتجاهات والتيارات والأحزاب والتنظيمات المسلحة، وزمر رجال الأعمال والدعاة والمثقفون والأحزاب، من أجل ملء هذا الفراغ الحضاري والفكري. هذا المشهد تعبر عنه الرواية العربية بطابعها الديني، التي أضحت قبلة للأجيال الناشئة الباحثة عن نموذج مثالي، تواجه من خلاله انحطاط هذا العالم وعبثيته، فلا جرم أن تواجه هذه الروايات إقبالاً من قراء، لا يرون في العمل التخيلي سوى صورة لذواتهم المقهورة في ظل تلاشي نموذج القوي الذي عبر عنه نيتشه، خاصة مع غياب نموذج الزعيم السياسي، أو الدولة القوية، أو حتى الرومانسية الثورية، بيد أن هذه الأعمال الرواية لا تكاد تنطوي على رؤية تعبر عن توجه فلسفي إنساني، أو رؤية حضارية، بمقدار ما تمثل رفض اندحار الذات العربية بتكوينها البسيط، والهش مقابل الآخر. هذا الواقع أفضى إلى إشكاليات عميقة على مستوى البنية العميقة للرواية العربية المعاصرة التي، بدأت تستشعر هذه الأزمة. فالرواية لم تعد معنية بالمعنى الجمالي للعالم، بل بخلق صورة الذات، أو المجتمع من خلال البحث عن تلك المساحات الضيقة للأفكار (القابعة) في الصندوق، وهي في مجملها تخضع لضغط مكونات ثقافية موروثة، أو أنظمة مستبدة، بالتجاور مع عالم مشرع على الآخر بلا ضوابط. هذا الجو المأزوم ساعد على انبثاق نصوص تمتلك تميزها عبر إيجاد تصورات بديلة للحالة العربية، بعد أن حطمت الأيديولوجيات والأنظمة والسياسات الحكومية، والجهل الإنسان العربي، وأفقدته مذاق الحرية والكرامة.
الكتابة العربية على مستوى الرواية، تكاد تتحدد في بعض الاتجاهات التي تتقاسم معاناة الإنسان العربي في دول أقرب إلى منظومات فاشلة، أو أوطان غير مكتملة مهدمة، وأحلام بالحرية، تكاد تكون بعيدة المنال، ولا سيما في ظل وجود قطاعات محاصرة بقيم الانغلاق، وفقدان الأمان، فضلاً عن مجتمعات تعاني من مستويات قياسية من الفقر، في حين هنالك مجتمعات أخرى، تنعم بمستويات من الرفاهية تكاد تكون أسطورية، ولكن على اختلاف هذه المستويات التي تحد المجتمعات العربية، تبقى الرواية مهيأة للتعبير عن هذه المفارقات حيث تشتغل بقضايا الهوية، والدين، والثورة، والسلطة، والجنس، بالتجاور مع إقامة واقعيات سحرية، أو عجائبية، في حين هنالك مستوى يسعى إلى استحضار رواية نعتها الناقد العراقي عبد الله إبراهيم بالتخيل التاريخي، وهي تنهض على استدعاء شخصيات ماضوية منجزة تمارس تعويضاً عن فقدان معنى الاكتمال، أو التوهج الحضاري. كل ما سبق يؤكد منحى الرغبة في تجاوز دمامة الواقع، كما نراه في أعمال العديد من الروائيين العرب، ولاسيما الشبان منهم، فإطلالة على بعض الروايات ذات الانتشار، التي تتقاسم إشكاليات الإنسان العربي لا بوصفه فرداً فحسب، بل من منظور تكوينات، ومنظورات جمعية، تهدف إلى جلد الذات بمنظورها الجمعي السلطوي، فمثلاً رواية «عزازيل» ليوسف زيدان تتجاوز المفصل الديني، وما حفل به من تأويلات حول شخصية المسيح، إلى ما هو أعمق من ذلك، فهي تُعنى بمقدار ضآلة الإنسان، وهشاشته نتيجة النبذ القائم على الاختلاف العقيدي، وضعف الإنسان، وشكوكه بالمطلق. وفي رواية عبدة الخال «ترمي بشرر» نرى إدانة كاملة للذات الجمعية حيث تغول السلطة والثراء وجبروت النفس الإنسانية وقتامتها. كما نلاحظ في جانب آخر أزمة الهوية والدين لدى مجتمع يرفض أناه لكون جزءاً منها غير نقي كما في رواية «ساق البامبو» للكويتي سعود السنعوسي، ففي المجتمع رفض القيم المنجزة والمنتهية لمعنى الهوية في تحولاتها الطارئة، فأزمة الكويت بعد الاجتياح العراقي كشفت عن اختلالات هرمية وقاعدية في تكوين المجتمع، وهنا نجد روائياً شاباً، وقد بعث على السطح ثنائية الأنا لذاتها، والآخر، ولكن بمنطلق تقابلي معكوس، وهكذا تمضي الرواية العربية في تعرية أزمة المجتمع المديني، الذي لم يكن سوى مدينة بلا مدنية، بل كان أقرب إلى مستويات من الانغلاق والتحجر، وانعدام الثبات في مجتمعات تآكلت بفعل الداخل أو بفعل الخارج، كما في رواية «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد السعداوي الذي قدم نموذجاً لفائض من القهر والعنف الكلي.
إن ما يلاحظ في تلك الرواية تمركزها على الاختلالات اللامنطقية بتجريدية كاملة، ولكن عبر حبكات سردية فاعلة، ونسق سردي يتسم بتصاعد إيقاعات الحدث، مع كثير من التأمل، والاشتغال على عملية التمثيل، وهكذا كان لروائي مُجد كأمير تاج السر أن يصطنع واقعاً متعالياً سحرياً، يمتلك حساسية خاصة به، وتنظيراً، يرغب في مفارقة هذا الارتطام إلى عالم محاذٍ أو موازٍ، أو في سياق آخر نجد روائيين هرعوا لاستحضار شخصيات تاريخية كابن خلدون وابن سبعين، كما نقرأ في روايات بنسالم حميش وغيره، وفي اتجاه آخر نجد أزمة اليسار بوصفه مكوناً محوريا في الثقافة العربية، وقد أصابه العطب كما برز في رواية «القوس والفراشة» لمحمد الأشعري، حيث هيمنة لعوالم وأفكار تتجاوز الماضي الثوري مما يعد صدمة تجاه ما كان يعد فكرا تقدمياً. وفي مستوى آخر، نجد «شرفات» إبراهيم نصر الله، وقد أطلت لترصد واقعاً متحولاً بتقنيات أقرب إلى السخرية، والطابع الوثائقي، وهنا أحيل إلى رواية «شرفة الهذيان». وإذا ما نظرنا بمنجز ارتجاعي لرواية مهمة للكاتب بهاء طاهر حملت عنوان «واحة الغروب»، حيث تذهب هي الأخرى في تحليل أزمة الذات، ولكن في سياقها التاريخي، لتبرز معنى الأفول وتداعي النموذج.
الثقافة العربية تعاني من تلك الخطابات والأفكار التي تنشؤها المجتمعات والأنظمة أو منظومات الدين والمال والسلطة والعادات والتقليد، وهي كلها تشكل عوامل ضغط على الفرد الذي يبدو في تكوينه الحر أكثر تسامحاً وبساطة، ولكنه حين يحضر في سياق مجتمعه أو في سياق (منظومة) دينية أو سلطوية، فإنه يتحول إلى ضحية وجلاد في آن. المفارقة تكمن في أن هذا الجنون يتكون من مجموع تلك الذوات التي تتخلى عن منطقها العقلي السليم لتعمل بشكل جمعي متناغم، إذ أن كثيراً من السلوكيات لا نقوم بها حين نكون أفراداً، ولكننا نجرؤ على القيام بها إن وجدنا في سياق جمعي، فالديكتاتورية والانغلاق ومصادرة الحريات والمجتمعات المنغلقة والأوطان البائسة والاحتراب الديني والتكفيري، هي نتاج خطابات جمعية، ومؤسساتية، يبدو فيها الأفراد مسننات تعمل في ماكينة «المنظومة»، إننا نكاد نتحول إلى أجزاء من مصفوفات بلاوعي، وهذا يدعونا إلى تحليل أنظمة تشكل الخطابات والأيديولوجيات أو النوايا التي تغذي هذه العملية، فالخلل يمكن أن ينتج نتيجة مكونات تاريخية، أو سياسات تثقيفية خاطئة، فالعربي ينطلق دوماً من مقولة المثل الشعبي «إذا جن قومك، عقلك ما بينفعك»، ففي حالة الوعي الجمعي يكون كل شيء مقبولاً، ولهذا تتخذ الرواية العربية المعاصرة موقعاً جديداً تتجاوز فيه الواقع، لتغادر آلية الانعكاس إلى منظور التركيز على الذات وجنونها، بل واندثارها وسط خطابات مهيمنة ومؤسسات ومنظومات حضارية متآكلة أفضت إلى تهميش ومسخ الفرد العربي ودفعه للوراء.
٭ كاتب فلسطيني ـ الأردن
رامي أبو شهاب
القصص الديني يدخل في فضاء غير الفضاء الرسمي المتداول للرواية العربية. التداول هو الذي يضع النوع الأدبي في مداره الخاص كما قال الناقد حمزة عليوي. فالشعر الديني مثلا الذي ينتشر في الحسينيات و صنوه الذي لا يغادر بعض الصالونات المغلقة في دائرة الخليج العربي و امتداداتها ليس ضمن التداول. إنه مغترب عن الذات الفنية المعترف بها.
و لكن لو عدت للوراء ستجد أمثلة مهمة من القصص الديني منها كتابات سعيد جودة السحار و منها الملحمة الكبرى لأرناؤوط السوري التي تتألف من أكثر من 3 أجزاء في ألف صفحة.
اليوم نحن نحاول كسر دائرة الواقعية السحرية بالتفانة ميمونة لشكل تراثي غريب بوقعه على الأذن و عن السياق المعاصر. بمعنى إحياء التراث شكليا هو العنصر الجديد على ساحتنا.
الرواية العربية .نعم هي نتاج قبم متوراثة .خاصة في جانبها الايديولوجي.ولكن إذا سلمنا فرضا أن الكتابة الروائية هي البحث عن القيم المعطوبة عن القيم المتهالكة قصد إصلا حها.هل نجحت الرواية العربية فى إصلاح القيم المعطوبة داخل المجتمع .الثورات العربية لم ينظر لها متقفون أو روائيون.إنما هي نتاج حركية شباب في عالم إفتراضي .عصف بالكثبر من كراسي الحكم. مما مهد الطريق أمام الحركات الدينية للتتصدر المشهد السياسي .فهل كان يعي شباب العالم الافتراضي أنه سوف يعيد إنتاج الحركات الاسلامية سياسيا.الاخوان أوالنهضة اوغيرها.ربما خطأ .لكنه حدث.أين الخطأ .هل الوعي لامقصود.أم إنسحاب الروائيين من المشهد الثقافي .أم ان هناك من كان يتحين الفرص. لقطف ثمار التورة.