الرواية ككتابة إثباتية

■ تنكتب الرواية في السعودية بمنطق صندوق الإقتراع. إذ يستجلب الروائي قضية من القضايا المختلف عليها إجتماعياً ليدلي فيها برأيه. بحيث ينزاح إلى فئة المستنيرين الذين يحاولون زحزحة متوالية من التقاليد والأعراف الساطية التي تمنع المجتمع من التعاطي مع المكتسبات المدينية. وهو أمر طبيعي على اعتبار أن الرواية موضوع خطابي بالدرجة الأولى وهي خطاب مدني بامتياز يتوهج موضوعياً كلما اقترب من قضايا العدل والمساواة إلى آخر حلقة في متوالية الحقوق.
وهذا الإندفاع المبالغ فيه باتجاه تسجيل المواقف، بقدر ما يهب الرواية جرعات عالية وصريحة من الليبرالية وعلمنة الحياة، يجعلها في المقابل رواية موضوعات. بمعنى أنها تتنازل عن الفني لإعلاء شأن المضامين. وهو الأمر الذي يفسر دورانها في كل المدارات. لدرجة أن تاريخها صار هو تاريخ موضوعاتها، وأسئلتها المعلقة، التي تأخذ شكل الإستفهامات المرتبطة بمنظومة من القيم اللامحسوسة.
لقد نجح الروائيون بالفعل من خلال الإتكاء على ركام وعر من الموضوعات في توطين الرواية في الحياة اليومية. واعتمادها كرافعة حداثية لتصعيد الخيارالديموقراطي. إلا أنهم لم يتمثّلوا أجوبتها الفنية كما ينبغي. وذلك بسبب انهمامهم بالسجالات الوقتية الطارئة، وترحيل كل ذلك الجدل إلى سياقات الفعل الروائي. على حساب ما ينحته الجمالي في النص والحياة على المدى البعيد.
من هذا المنطلق بالتحديد انبثقت الرواية الحديثة في السعودية. أي كانتفاضة تعبيرية تتجاوز الأدبي إلى الحياتي. بحيث تكون هي الصوت الذي يقطع لحظة الصمت الطويلة مقابل كل مفاعيل السلطة. ولتعلن عن وجودها كمروية مقاربة للنصاب الأدبي الذي ينهي مرحلة الشفاهية. بما تحمله من سمات وحس التأريخ. بمعنى أنها جاءت لتعاند المروية الرسمية. من خلال رواية إحتجاجية. قوامها رؤية مجتمعية عبر فردية. ومن ذات المنظور جاءت الطفرة الروائية، لتتحول إلى مصب للحداثة الإجتماعية.
وما تراكم من روايات حتى هذه اللحظة يشي بعراك صاخب بين مختلف القوى على أرض رجراجة عنوانها (المجتمع المدني). وهو الفضاء الثقافي الذي تتحرك فيه الرواية. حيث انبثق الفعل الروائي ليبدّد حالة الصمت ويفتح مساحة واسعة في المحل الإجتماعي الذي تم الإستحواذ عليه وإغلاقه. وذلك بإعلاء شأن الفرد. وتأسيس مدونة مناقضة للتاريخ الرسمي، الذي انكتب بموجب رؤية مؤسساتية صرفة. وهكذا صارت الراوية المحقونة بالمضامين هي الوسيلة المثالية للتعبير. وعلى هذا الأساس أيضاً تولّد ذلك التنادي الجمعي لإصدار سيل هائل من الروايات. التي تشير حتماً إلى نزعة واعية للإشتراك في تشكيل ظاهرة أدبية بمعناها الإبداعي. ولكنها- أي تلك الروايات- تكشف عند فحصها عن إمتلاء زائد عن الحد بالموضوعات. كما تُفصح عن إتكاء أغلب الروائيين على الوظيفة الإثباتية للكتابة، التي شكلت بدورها أحد أهم الدوافع للكتابة الروائية. وهو الأمر الذي يفسر أيضاً إندفاع طابور طويل من الكُتاب والشعراء وحتى المصنفين خارج السياق الأدبي للزحف باتجاه الرواية.
وفي ظل ذلك المناخ الإستبشاري بقدرة الرواية على تغيير المعادلة الإجتماعية برزت حالة قرائية عريضة، لا تقل أهمية في تعزيز مقومات الطفرة الروائية المعتمدة على وعورة الموضوعات وحساسيتها الدينية والإجتماعية والسياسية. وبالتالي تشكّلت حالة من التلقي التقويمي لدى شريحة واسعة من القراء، الذين أسسوا بالفعل لمجتمع يمكن أن نطلق عليه مجتمع روايات.
وخلال عقدين من الزمن. وهي فترة وجيزة قياساً إلى حقب الصمت المزمنة، توالت الروايات المنادية بالمساواة بين الرجل والمرأة. المطالبة بتحقيق العدالة الإجتماعية. اللاهجة بتعزيز قيم المواطنة. الهاتفة بشعارات الإعتراف بالآخر بكل أطيافة المناطقية والمذهبية والعرقية. حيث برزت على شكل موجات لتسن شرعة التمرد على أعراف القبيلة، إلى آخر عناوين المجتمع المدني، مع إصرار واضح على التقدم بلا هوادة في المناطق المحرمة، وتفكيك المقدس الإجتماعي، وعلمنة مظاهر الحياة.
كل تلك الإرتكابات الموضوعية تصدى لها روائيات وروائيون راهنوا على إشعال شمعة التنوير من طرفيها لتسريع عملية التحديث والمدْينة. حيث قدموا أنفسهم كمواطنين كونيين، أشبه ما يكونون بطبقة من النبلاء والمناضلين الحقوقيين، المنذورين لحركة إجتماعية تاريخية، يمكن بموجبها إحداث هزة في الوعي الجمعي. ووضع المجتمع برمته تحت على طاولة مساءلات الرواية النقدية.
وفي هذا المكمن بالتحديد تولدت الرؤية الطهورية للنص الروائي. حيث طغت على مجمل الروايات ظاهرة تمجيد الذات، وتمثيل دور البطولة، والتماس الصوري مع قيم التسامح والتسالم، والتبرؤ المجاني من مقومات الضعف البشري الأصيلة في الإنسان. وهو الأمر الذي أسهم في التمهيد لاختلال بنائي في موجة الرواية الحديثة في السعودية، حيث تفشّت في المشهد ذوات روائية مغالية في التباهي بأخلاقيتها ومعرفيتها، مع عجز واضح في إبداء القدرة على تفعيل الجمالي في الفعل الروائي.
وعند تمديد المنجز الروائي في السعودية على مسطرة السرد، يمكن ملاحظة حالات الإنتصار للموضوعي على حساب المنزع الذاتي، لأن الروائي هنا يريد إثبات شيء ما، والتموضع في خانة يمكن أن يكون فيها بمثابة الرائي لا المرئي. فالعناوين المتداولة بإفراط التي تشكل ركائز الخطاب الروائي تتكرر وكأن المشهد الثقافي إزاء رواية واحدة مكتوبة مرات متعددة وبأسماء مختلفة. مهمتها تسويغ العطالة الفنية. والنأي عن جوهر الفعل الروائي كخطاب هدمي بنائي.
ومن ذات المنطلق يمكن النظر إلى الشهادات الحقوقية والمناقبية المكدسة في الروايات. التي تبارى معظم الروائيين والروائيات في الإدلاء بها لتحيل الفعل الروائي إلى متوالية من العناوين واللافتات والشعارات، بل أن معظمها بدت بمثابة دروس وعظية خالية من الوخزات الفنية، واللمحات الجمالية، وتحولت في الغالب إلى إسهاب كلامي لا يعرف الروائي من أين يمسك به، أو كيف يضبط محطاته، حيث تم اختصار مفعول الرواية ووظيفتها إلى مجرد ورقة تصويت في صندوق المزايدات الإجتماعية.
وهكذا تواطأ الروائيون على الإشتراك في تظاهرة صوتية، والصراخ في ليل الظلامية دون تحديد الجهة المتوجب مقارعتها، أو الكشف عن الكيفية التي ينبغي بموجبها التجابه مع مفاعيل السلطة. فيما يفترض أن يكون الروائي على درجة من الكفاءة والحرفية لإغراء الناس بتأمل الكيفية التي يسرد بها حكاياته، ويقنع المتلقي بصدقية نصه، وهشاشة ذاته، وقدرته على إنتاج المعاني، وبأن ما يسرده لهو الدليل على حياة عاش متناقضاتها وفهمها، واستطاع بالتالي أن يحكي سيرة وعيه بها.
وربما أراد الروائيون بذلك الإندفاع والإيغال في الموضوعات تحقيق معادلة الالتزام في الكتابة. وهو مفهوم لا يعني الطرق الدائم والصاخب على سطوح الموضوعات، بل تأدية الوظيفة الكتابية بشكل جيد، بحيث لا يصبح النص منصة خطابية للصراخ الإجتماعي أو السياسي، أو الأيدلوجي. على اعتبار أن الرؤية أو الثيمة الإجتماعية حالة متفرعة عن كليانية وشمولية الكتابة الروائية، وليس العكس. ولكن، يبدو أن أغلب الروائيين والروائيات قد استوعبوا هذا المفهوم بشكل مقلوب. فجنحوا نحو العناوين الإحتجاجية والموضوعات الساخطة مكتفين بإغواءات الكتابة الإثباتية.

٭ كاتب سعودي

محمد العباس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية