عندما يتعلق الأمر بالكتابة العلمية لا أحد يسائل الذات الكاتبة عن جنسها. أو يحدق في فروقات الخطاب الصادر عنها. إلا أن الأمر يختلف في حال الكتابة الإبداعية. حيث يكون النص الذي تنتجه المرأة العربية محل اهتمام وتلصُّص وتأويل ذكوري. بالنظر إلى حميمية النص الإبداعي وإحالاته الصريحة والضمنية إلى ذات أنثوية ما زالت تحاول استظهار شخصيتها وكينونتها في مجتمع بطرياركي شديد الصرامة.
هذا المجتمع الساطي ما زال يفرض سلطته ورؤاه التشكيكية والتضئيلية للمرأة حتى في أوساط المتعلمين والمثقفين. فيما يفترض أن يكون الإبداع حقلاً لإلغاء الفروقات والتصنيفات والكتابة اللامجنّسة سواء على المستوى الفني أو الموضوعي. ولذلك تبدو أي روائية عربية مؤطرة في قفص إتهام، ليس من وجهة نظر الرجال فقط، بل أيضاً من قبل النساء لأسباب على درجة من التعقيد.
تتعرض الروائية العربية لتلك النظرة المشوشة لأنها تكتب ضمن مصطلح غامض ومرتبك عنوانه الكتابة النسائية. أو هذا ما يُراد لها أن تنحبس فيه. بكل ما في هذا الحقل من إيجابيات ومبررات تعبيرية مؤكدة على الحساسية الأنثوية. وما يحفّ به من سلبيات وعوالق مفهومية قد تتحول إلى صيغ إتهامية. حيث يثير هذا المصطلح حساسية الروائية العربية، ويجعلها في حالة دفاع دائم قبالة الوعي النقدي عن منجزها للخروج من حدود ذلك الأفق.
وهو الأمر الذي يتطلب فحص التجربة النصّية للروائيات العربيات. وقراءة التحولات الموضوعية والفنية منذ أول رواية نسائية عربية وهي رواية زينب فواز «حسن العواقب» التي صدرت عام 1899م. وسبقت رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل بما يقارب العقد ونصف من الزمن. مروراً بسلالة الروائيات اللاتي أسسن بالفعل لملامح الفعل الروائي النسائي. ووصولاً إلى آخر المحاولات الروائية للجيل الجديد.
الخطاب النقدي السلفي لا يتعامل مع المنجز الروائي النسائي إلا بصيغة نون النسوة. أي تعبئة المنجز في سلة واحدة، بدون مراعاة للفروق والتباينات في مجمل التجربة. فيما تحاول الروائية العربية بشكل شبه عام نفي صفة الكتابة النسائية عن منجزها وكأنها تحاول القول بأنها ليست كاتبة من الدرجة الثانية. ولتأكيد ذلك تخوض في كل ما يقاربه الرجال من موضوعات عن الحرب والدين والأيديولوجيا والتاريخ. لتبتعد قدر الإمكان عما يحيل إلى أنوثتها ونسويتها.
بذلك الإنحياز الكتابي تراود الروائية العربية نفسها باستعارة تجارب الرجل الثقافية والنفسية والإجتماعية والسياسية والأخلاقية. والإستعانة بمرجعيات مختلفة من المقروء والمعاش والمحلوم به لتأكيد حقها في الحضور المتكافىء مع الرجل عبر الرواية. بمعنى أن الخطاب الروائي النسائي قد تحول ضمن هذه اللحظة التاريخية إلى خطاب حقوقي. كما تفصح المنتجات الراوئية المكتوبة بوعي نسوي. كما صارت الرواية بالنسبة للمرأة أداة لاختراق المألوف والسائد والمكرس من التقاليد والأعراف.
يمكن التأريخ للوعي التحرّري النسوي بمعناه الحقوقي في منتصف القرن التاسع عشر. وهو الأمر الذي انعكس على الخطاب الروائي. بمعنى أن السرد النسائي ينبغي أن يخضع بالضرورة للشرط الأنثوي. لدرجة أن بثينة شعبان تستحضر في كتابها « 100 عام من الرواية النسائية العربية» قائمة بروايات ألفتها نساء عربيات قبل ظهور أي رواية من تأليف رجال عرب. كرواية «حسن العواقب أو غادة الزهراء» لزينب فواز. ورواية «قلب الرجل» للبيبة هاشم. ورواية «حسناء سالونيك» للبيبة ميخائيل صويا. حيث كان من الطبيعي أن تبدو روايات التأسيس متخفّفة من الذاتية. غارقة في الموضوعاتية. منذورة لمخاطبة الرجل. وزحزحة المفهوم الإجتماعي المكرّس حول المرأة ودورها. مع وجود بذرات أو إشارات خفية للتمرد مطمورة تحت ضبابية سردية.
بعد تلك المرحلة التي فُرشت فيها الأرض بكل عوامل التغيير الثقافي والسياسي والإجتماعي، تسلمت الراية روائيات ينتمين إلى ما عُرف بالمرأة الجديدة في خمسينيات القرن الماضي. فجاءت رواية ليلى بعلبكي «أنا أحيا» بما يحمله عنوانها من أنوية تعادل الهوية النسوية وتحيل إلى المزاج الشخصي. ورواية «أيام معه» لكوليت الخوري. التي قدمت نموذج المرأة الحرّة في خياراتها وسلوكها. حيث يؤرخ بهاتين الروايتين لمنعطفات كبرى في الخط البياني التصاعدي للرواية النسائية العربية. لتأتي في مرحلة الستينيات روائيات أكثر التصاقاً بالمشهد السياسي والإجتماعي والثقافي العام. وهكذا ظهرت رواية «الباب المفتوح» للطيفة الزيات. وبدأت ارتدادات ذلك الحضور الروائي تفرض سطوتها على معظم أقطار العالم العربي. حيث انفتح الفضاء الروائي في التسعينيات من القرن الماضي على انفجار روائي هائل. ولم تعد هنالك أية حواجز بين المرأة والرواية.
إن ما لمسته المرأة العربية في الرواية يفوق كل ما وجدته في كل وسائل التعبير عن كينونتها وذاتها وحضورها في كل الخطابات والأجناس الأدبية. حيث تشكل الرواية بعداً جديداً في السياق الثقافي العربي الحديث. بما يختزنه هذا اللون الإبداعي من طاقة كبرى للتحرّر من صرامة الأشكال التعبيرية المعتادة. وبما يفتحه من فضاءات واسعة لعرض الحياة بكل اتساعها وتعقيداتها، وطرح الذات بكل هواجسها وخيباتها وحماقاتها وتطلعاتها. بمعنى أن الرواية صارت هي لسان المرأة العربية وممرها إلى العالم.
إذاً، كانت الرواية العربية النسائية تتطور بتطور حركة التحرّر الإجتماعي. كما فرض عامل تحرير الكتابة إمكانية تغيير النظرة إلى المرأة. واستظهارها من عوالمها الداخلية المغلقة إلى وساعات العالم الخارجي وتعقيداته. إذ يمكن التمثيل بروائيات أعدن موضعة صوت المرأة المغيب إلى سياق التأريخ الأدبي كسحر خليفة وسلوى بكر ولطفية الدليمي ونجوى بركات ورضوى عاشور وليلى عسيران وفوزية رشيد وهاديا سعيد ورجاء عالم وإنعام كجه جي وحميدة نعنع وليانة بدر وأخريات.
ويمكن ملاحظة تطور الرواية النسائية العربية على إيقاع تطور الدوافع الذاتية والظروف الموضوعية. حيث اتخذت كل تلك التناميات أشكالاً ماثلة بوضوح في حضور الروائية العربية الكثيف بكل مظاهره. إلا أنها ما زالت تكتب وهي تتخيل أن أذن الرجل ملتصقة بجدار نصها الروائي. فهي مسكونة بفكرة أن سوء الفهم القائم بينهما يمكن للرواية أن تذيب بعض عوالقه. أو أنها يمكن أن تزحزحه من تموضعاته الذكورية التي يتأملها من خلالها. فيما يبدو أنها – أي الروائية العربية – قد جابت كل المدارات الثقافية والتاريخية والسياسية والإجتماعية لتؤكد أحقيتها.
على هذا الأساس ظهرت موجات من الكتابة الروائية النسائية في العقد الأخير تفوق ما أنتجته المرأة في كل تاريخها. كما حدث في السعودية والخليج مثلاً. حيث تم نسف تلك المنظومة الصلبة من المحرمات القبائلية والعشائرية المضغوطة داخل نظام إجتماعي صارم. لدرجة أن الدراسات تركزت حول هذه الهبّة. وصار النقد الروائي يحاول افتكاك صورة الرجل في الروايات النسائية أو يتقصى طبيعة الصوت الذي تتكلم به المرأة في رواياتها. وإلى الحد الذي صارت فيه الروائية العربية تنافس الروائي العربي على الجوائز الأدبية المرصودة للرواية.
يصعب الحديث عن المدّ الروائي النسائي العربي بمعزل عن نمو الخطابات الفكرية بمختلف اتجاهاتها. التي تتوازى كلها في مصب الحداثة الإجتماعية. إذ لا يمكن الحديث عن إنجاز روائي نسائي في منتصف القرن التاسع عشر بدون استدعاء عائشة التيمورية كمظلة فكرية لذلك الحراك. حيث تبدو الرواية النسائية العربية من هذا المنظور وكأنها انعكاس لمجمل الصراعات الدائرة على كافة المستويات.
كذلك لم تعد الشخصية النسائية ذاتها تتشكل في امتداد الظل الكثيف للرجل فقط. بل هي اليوم عرضة لمتغيرات ومهبات معولمة لا تربك الذات وحسب، بل تجري حالة من الإبدال الثقافي العميق في مركبات الهوية. كما تُحدث إنقلابات كبرى في السياقات التي كُتبت بموجبها الروايات النسائية العربية. فنسق البحر والنفط الذي كتبت به ليلى العثمان رواياتها لم يعد حاضراً بما يكفي لتواصل عبره الروائيات الكويتيات الجدد. والأنساق الفكرية التي حاولت نوال السعداوي تهشيمها تم تجاوزها على أرض الواقع على وقع مرجعيات مكونّنة. وبالتالي لم تعد مادة روائية جاذبة.
غادة السمّان ذاتها، التي كانت في يوم ما من الأيام مجرة تأثير كبرى للروايات العاطفية تراجعت أهميتها بالنسبة للجيل الجديد من الروائيات. حيث لم تعد النظرة السمّانية إلى ثيمة الحُبّ مقنعة للروائية التي تشكل وعيها في عالم أكثر انفتاحاً ومعرفة بالرجل. بمعنى أن الطروحات المركزية التي عُرفت بموجبها بعض الروائيات قد تحطمت على وقع انهيار المرجعيات السوسيولوجية للرواية العربية. إذ لم يعد المخيم مرجعية للرواية الفلسطينية. ولا الحرب الأهلية اللبنانية قيمة مفروضة على الرواية اللبنانية. ولا النكسة ملاذاً تعبيرياً للرواية المصرية وهكذا.
كل ذلك حتّم على الروائية العربية تغيير طريقة التعامل مع جرحها التاريخي. واستئناف الكتابة من منصة التجربة الخاصة. التي تؤكد خصوصية الكتابة في إطار إبداعي أقل حساسية. أي الإنعتاق مما يعتبره النقاد سيّر ذاتية مموهة ومذابة داخل نصوص تزعم الموضوعية. والكف عن تدبير نصوص سردية هي بمثابة الإمتداد العضوي والنفسي والمزاجي للأنا.
كتابة الرواية ليست فرصة للتعبير عن الذات وحسب، بل هي منصة لتشييد الذات أيضاً. ومنذ أن قررت المرأة العربية أن تكون روائية وهي أمام مجموعة من التحديات الموضوعية والفنية. أهمها هو الشرط الإبداعي. فكل موجة روائية نسائية، بل كل رواية مكتوبة بقلم امرأة تعيد الأسئلة ذاتها حول ما يمكن أن يضيفه هذا الهامش إلى المركز المتمثل في كتابة الرجل. ولذلك يبدو المنجز الروائي النسائي العربي ممدّداً دائماً على مسطرة الأداء الكيفي. حيث تستشعر أن التحالف ضدها ما زال قائماً. وأنها أقل تجربة من الرجل. فيما يقرأ الرجل ذلك الكم من الروايات كجرج عميق للذات الأنثوية تحاول بكل الطرق الكشف عنه. وأنها لم تتجاوز الشروط الموضوعية للكتابة. بمعنى أنها قارئة لذاتها بشكل مرتبك. وكأنها بحاجة لتشخيص داخل مختبر الرواية التي تنتجها.
لهذا السبب بالتحديد تحاول الروائية العربية الإنسلاخ من أي شبهة تتعلق بمصطلح الأدب النسائي. ربما لأنه يشي بريبة فيما يتعلق بمكوّنه الفني الأدبي. على الرغم من كون هذا المفهوم وثيق الصلة في صيغته الإصطلاحية بشروط تحرّر المرأة. ويفترض أن يمد الرواية العربية بجماليات وثيمات جديدة. وهو ارتباك مرده حساسية التلقي. وكأن الجرعة الأنثوية أو النسوية في النص الروائي تفسده وتقلّل من قيمته الأدبية. ربما لأن المعيار الذكوري الذي أسس لتلك النظرة ما زال فاعلاً ومتحكماً في شروط إنتاج النص الروائي النسائي. وذلك نتيجة تراكمات تاريخية واجتماعية وثقافية هي المسؤولة اليوم ليس عن إرباك ذاكرة الروائية وحسب، بل قمع نفسها لنفسها. إذ ما زالت أعراض كتابة الذات بالمعنى الإنكفائي ساطية حتى على نصوص الجيل الجديد من الروائيات. أي كتابة العوالم الداخلية. أو ما يعرف بالكتابة داخل الكيان أو النسيج الأنثوي. والعزوف عن عرض الوعي الأنثوي الذاتي بالعالم الخارجي.
كل ذلك يؤكد أن أزمة الروائية العربية تكمن في جانب كبير منها في طبيعة القارىء الضمني الذي تكتب له. أي في وعيها بمستويات التلقي. حيث تضغط نصها داخل شرط إبداعي يحاول اختراق الفضاء الثقافي ولكنه لا يحول نصها إلى مرجعية. بمعنى أنها تكتب نصًّا تشخيصياً لواقعها وهواجسها. إلا أنها لا تحيل ما تكتبه إلى سلطة تغري المتلقي بتغيير وجهة نظره إزاءها. وهو الأمر الذي يعطي للخطاب النقدي مساحة واسعة لمساءلة الرواية النسائية عن موقعها من اللغة الإبداعية وتقييدها داخل حدود ذلك المصطلح ليضع المرأة على الدوام في محل استفهام عن علاقتها بالجنس الروائي. وعما يحدث اليوم من التقاء واسع وكثيف ما بين المرأة العربية والرواية. أي عن علاقة الجيل الجديد بالرواية التي صارت تُكتب بدون وصايا نموذجية. وبدون مرجعيات مشدودة لمصطلح الكتابة النسائية.
كاتب سعودي
محمد العباس