الرياضة وسلطان السياسة

للرياضة سلطانها وأسرارها وخفاياها أيضا. كأس العالم فرصة للألوان والفرح. هذا هو الخطاب الذي يبعثه لنا تجمع البرازيل الكروي لهذه السنة.
ولكن هل بطولة العالم فرح فقط؟ أم شيء آخر أكثر تعقيدا؟ العلاقة بين السياسة والمال والرياضة لا تحتاج إلى تدليل. يكفي أن نعود إلى الوراء قليلا لندرك ذلك. الحرب العالمية الأولى أربكت الكأس والألعاب الأولمبية، ولم تكن الحرب العالمية الثانية أقل ضررا للرياضة. فقد استغل الدوتشي موسوليني استضافة كأس العالم سنة 1934م في إيطاليا ليجعل من نظامه الفاشي منارة إنسانية وقوة لدفع التاريخ إلى الأمام.
وفي أولبياد برلين في سنة 1938، استغل هتلر كل شيء للدعاية لنظامه. الرياضة واجهة عالمية لإيصال انشغالات نظام أو شعب بغض النظر عن القيمة المتخفية. بعد نكبة 1948 رفع الكثير من الرياضيين الفلسطينيين الراية الوطنية في دورة الإسكندرية، ليقولوا للعالم إن الشعب الفلسطيني حي ولم يمت. نذكر ايضا في هذا السياق، الهجوم الفلسطيني في السبعينيات، على البعثة الإسرائيلية في أولمبياد ميونخ. وربما كانت ردة الفعل الإفريقية ومقاطعتها لدورة موريال عام 76 بسبب تعامل كندا مع جنوب أفريقيا العنصرية، أهم حدث وقتها. المقاطعة الأميركية والأوروبية لأولمبياد موسكو في سنة 1980، وردة فعل روسيا وحلفائها بمقاطعة أولمبياد لوس أنجلوس. ويمكننا أن نعد الكثير من الأمثلة الكبيرة حول تماهي هذه العلاقة، لأن الرياضة واجهة إعلامية كبيرة مفتوحة، تشترك فيها مؤسسات الدعاية وأصحاب المال وحتى المواطن البسيط الذي يرتاد الملاعب من أجل الرياضة والاستمتاع فقط. الرياضة ليست فقط مساحة صحية، ولكنها أيضا فضاء لتداخل المصالح المختلفة في علاقات معقدة عبر حدودية محكومة بسلسلة من المصالح المرئي منها وغير المرئي. وعلي الرغم من نبل مسعى الرياضة جوهريا، تظل أيضا كغيرها من النشاطات البشرية، فضاء لتحرك المال الفاسد عبر القنوات الدعائية وشراء حقوق البث والحصرية وغيرها. لهذا لا نستغرب كثيرا الانحرافات المختلفة التي تصاحب عادة تنظيمها أو مجرياتها. كثيرا ما تسقط الفرق الصغيرة لأن الرهانات المالية عليها غير مربحة كاحتساب ضربات الجزاء الخيالية ضد هذه الفرق الصغيرة، أو حرمانها من أهداف حقيقية، إلى غير ذلك من الحيل التي تحفظ الرهانات المالية. في أي شيء تستفيد مثلا اللوبيهات الإعلامية والمالية من نهائي كأس العالم يجمع بين المكسيك ونيجيريا؟ يحتاجون إلى من يبيض ذهبا ومالا ولا يهم إذا كان ملوثا وفاسدا. الدول الفقيرة في إفريقيا والوطن العربي لا تمنح إلا خرائط للجوع والفقر. يسمعون بنفطها وذهبها وماسها، وخيراتها ولكنهم لا يسمعون أبدا بشعوبها. حتى الأنظمة التي يضعونها بانقلابات مدنية أو عسكرية أو مالية، يوم تكف أن تكون كما يشتهون يأكلون رأسها. للدول الثالثية أيضا رصيدها في الحسابات السياسية الرياضية.
لها استغلالها الفج للحدث الرياضي العالمي. المواطن النيجيري المشدود إلى مقابلة بلاده مع فرنسا مثلا، يفرحه الشعور بالانتماء إلى أرضه وعلمه. يسعد بالانتصارات الصغيرة وحتي الوهمية، لكنها لحظة فرح هاربة، إذ بمجرد انتهاء المقابلة، يبدأ هذا المواطن المجرد من حقه الأدنى وإنسانيته، التفكير في أكله وشربه وأمانه وحياته اليومية. الرياضة بوصفها فضاء دعائيا عالميا عابر حدودي تستعمل أيضا للتعمية عن حقيقة الأشياء المرة. فتعطي صورة غير الصورة الحقيقية عن الأوضاع القاسية. المشكلة طبعا ليست في الشعوب الفقيرة التي تعيش في عمق المآسي، التي تحتاج إلى قليل من الفرح يخرجها من بؤسها اليومي، في عالم قاهر تسيدته الحروب والانتكاسات المتكررة، ولكن في الأنظمة الدكتاتورية التي تجعل منها سلاحها ورهانها لتبييض صورة هي في الجوهر قاتمة، يتحكم في أنفاسها أمراء الحرب والمال والمخدرات والأسلحة. مع أن المال الذي يصرف على الرياضة في العالم الثالث يكاد لا يقابله أي مجال استثماري آخر، مع أنها المكان الأقل مردودية بمعنى النتائج، إذ ماذا حقق العرب مثلا حتى اليوم على المستوى الرياضي مما يدهش؟ باستثناء الكارت بوستال، أو الصورة الإعلامية المؤقتة التي تسوق عن بلد ما لإخفاء المشكلات الحقيقية.
البرامج الرياضية مثلا تحتل كل القنوات العربية والصفحات الإعلامية المخصصة لها بلا حدود، وربما لا يختلف العرب في هذا عن غيرهم عالميا، سوى في العجز عن تحقيق أي شيء ملموس مقابل المال المصروف، في وقت أن ميزانيات الثقافة العربية لا تتخطى صفر فاصلة، أو الواحد، في أحسن الأحوال، من مجمل الميزانية الوطنية. مع أن أهمية الثقافة كبيرة وثقيلة وغير تجارية وغير مربحة بالمعنى المباشر، لهذا فهي تحتاج إلى الكثير من الرعاية لكي يستمر الإنسان في العيش والتنور والبناء الداخلي. الفنون والآداب تحتاج إلى عشر ما يمنح للرياضة، لكي تحمي الفنان من الحاجة وموت الفقر والعزلة، وتبني إنسانا آخر محبا لوطنه وللعالم الذي يعيش فيه وللحياة وتخرجه من عقلية العدمية.

واسيني الأعرج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محفوظ ـ الجزائر:

    شكرا مقال مس أساسيات و خفايا التظاهرات الكبرى للمختلف الرياضات.

    1. يقول كمال التونسي ألمانيا:

      الرياضة في الدول المتقدمة صارت حلقة متينة من سلسلة إقتصاد الدول
      في الدول العربية بالأساس الرياضة هي مجرد مخدر يعطى للشعوب حتى تستكين و تنشغل عن قضاياها الحقيقية في سنوات الجمر التي عشناها تحت قبضة بن علي كانت صفحات الصحف مملوءة فقط بأخبار الرياضة ( الإنجازات كما يطلق عليها ذيول النظام) فيوم الجمعة و السبت لمناقشة مباراة نهاية الأسبوع ..يوم الأحد يتحلق الشعب حول التلفاز لمشاهدة ذاك الجلد المدوّر و يوم الإثنين والثلاثاء لتحليل المباريات و الفرص المهدورة ! و مرابيح الرهان الرياضي وهكذا يدخل العام و يخرج ونحن نناقش الكرة حتى إنتفخت الأوداج و صارت بحجم الكرة
      كانت الزيادة في الأسعار تمرر يوم المباريات و القرارات المصيرية أيضا يوم المباراة و إن رأى النظام أن الشعب قد بدأ يستفيق من مخدر المباراة برمجوا له مباراة أخرى في نفس الأسبوع ……!! وإنها كرة حتى النصر !!!!!!
      مأساة الأمة أنها تبتلع كل طعم !!!!

  2. يقول عبد الله محمد الجزائري:

    أعجبني المقال في شقه المتعلق بالتوظيف السياسي للرياضة ، ولكن الشق المتعلق بالبديل الثقافي المفترض يحتاج الى توضيح أكبر ، لان الميدان الثقافي عندنا يشوبه التوظيف السياسي وغير السياسي ، وهو الامر الذي لا يجعلنا ننتظر منه الكثير ، بل على العكس تماماً فضرره اكثر من نفعه .
    هل بضاعة مثقفينا تصلح للارتقاء بوعي شعوبنا ؟
    هل كل ما يرتبط بثقافتنا يصلح للتسويق ؟
    في ثقافتنا إيجابيات وسلبيات ، فوائد ومضار ، وينطبق هذا على الشعر والنثر والرواية والمسرح والسينما ونحو ذلك
    فهل يجدر ان تتم مكافأة وتشجيع كل من يعرض بضاعته باسم الفن ؟
    عندما يعرض أحدهم الملابس الداخلية لامرأة ويصفها بعنوان كتاب مقدمة ابن خلدون ، فهل هذا فنان ؟ وهل ما يقوم به يستحق التشجيع ؟
    الثقافة بحاجة الى دعم ، ما في ذلك شك ، ولكن لا بد من غربلة وتصفية لكل ما له صلة بها ؟ ولا يكون ذلك الا اذا اتخذنا من قيم المجتمع الأصيلة معيارا للانتقاء والمفاضلة بين الثقافة التي نحتاجها ، والثقافة التي تلبي حاجيات غيرنا على حسابنا .

  3. يقول عبد اللطيف العوفير - المملكة المغربية.:

    رهانات الأنظمة السياسية والمقاولات المالية على التظاهرات الرياضية العالمية أمر قائم كما وضح الكاتب…أرجو تدقيق بعض المعطيات والمعلومات التي وردت في المقال: دورة برلين للألعاب الأولمبية التي استغلها هتلر نظمت سنة 1936 ومقاطعة البلدان الأفريقية لأولمبياد 1976 في مونتريال كانت بسبب مشاركة نظام الأبارتياد العنصري لجنوب إفريقيا في هذه الألعاب.

إشترك في قائمتنا البريدية