تنهض العلاقة بين الرواية وتشكّل الإمبراطوريات على بيان القيمة الإمبريالية الكامنة في الخطاب المتخيل، ولا سيما أثر السرديات أو المرويات الكبرى في تشكيل خطاب ما بعد الكولونيالية، من خلال أدوار محددة، وهي تشمل النصوص الأدبية؛ الرواية والشعر، والخطابات، والدراسات اللغوية، والتاريخية، والاجتماعية، وأدب الرحلات.
يذكر كتاب «مفاهيم أساسية ـ دراسات ما بعد الكولونيالية» كلمة الإمبريالية، ويعرفها على أنها العملية، أو الآلية التي تتشكل بها الإمبراطوريات، حيث تسيطر فيها أمة على ما جاورها من الأمم، في حين أن مفهوم الإمبريالية
خطابياً- تشكل اتكاء على نظرية إدوارد سعيد القائمة على هيمنة المركز على دول الأطراف، وهذا ما يعني نوعاً من التداخل والتشابك بين مصطلحي الاستعمار والإمبريالية، حيث ميّز إدوارد سعيد بين الإمبريالية والاستعمار، فأحال الأولى إلى الممارسة والنظرية، ووجهات النظر التي يملكها مركز حواضري مسيطر يحكم بقعة من الأرض قصية. أما الاستعمار فهو عقابيل الإمبريالية، وهو عبارة عن زرع مستوطنات في بقاع الأرض البعيدة، فالفعل الكولونيالي الكلاسيكي، على الرغم من انحساره إلا أن الإمبريالية ما زالت حاضرة من خلال الأسلوب، أو الممارسة التي تنتهجها الدول للإبقاء على الهيمنة، وتثبيت الإمبراطورية، كما هي ممارسات بعض الدول الكبرى في زمننا المعاصر، فهنالك ممارسات ثقافية واقتصادية وسياسية، تتيح صون موقعها المتميز، كمركز حواضري في الدول التي اصطلح عليها بالأطراف أو الهامش.
لقد أشار إدوارد سعيد إلى أن القصص والروايات، تستخدم لتأكيد الهوية، ولهذا فإن الأمم، كما يقول سعيد، هي عبارة عن سرديات ومرويات كبرى، ولعل مصطلح المرويات الكبرى يعود في البداية لجان فرانسوا ليوتار، حيث ارتبط هذا المصطلح بمفهوم ما بعد الحداثة، التي قامت على مبدأ رفض فكرة احتكار الحقيقة، وثباتها كما تقويض الثوابت، فهي ممارسة تهدف إلى المحافظة على الرؤية والأنماط القارة والثابتة، إذ تمارس مفهومها لكل من التاريخ، والمعرفة، والحقيقة، وكل ما يرتبط بالإنسان، فهي عبارة عن فضاء محكم يؤطر ما سبق، وما سيأتي، فهي تمتاز بسلطة التمثيل لكل ما هو قائم، حيث تمنع انبثاق ما من شأنه أن يقوض هذا البناء الفكري المنجز. وكما يبدو فإن إدوارد سعيد، قد اتكأ على هذه الاستراتيجية، ليبحث في مرويات كبرى محكمة، أنشأها المستعمر لكل من الآخر، وثقافته وتاريخه ومستقبله، وهي تشمل مرويات قد تطال الخطاب الديني والتاريخي والحضاري لكل أمة من الأمم. إن ما يميز هذه السرديات اشتغالها على عدد من الاستراتيجيات، التي تتيح لها أن تكون مؤثرة وفاعلة، منها ما تخلقه من فكرة تقود إلى تأليه الغربي، وإنجازه الحضاري والكوني، وهي صورة تقوم على إنتاج صور مكتملة للإنتاج الغربي، بكافة مظاهره وأشكاله، بالرسم، والرواية، والثقافة الشعبية، والإعلام، وتهدف أيضاً إلى خلق حالة مثالية من التمايز والقدرة الخارقة، والمكتملة للشخصية الإمبريالية، كما في كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» و»قلب الظلام» و»لورد جيم» و «نوسترمو»، فالأمم كما يرى إدوارد سعيد عبارة عن سرديات ومرويات، تمارس القوة لمنع وجود سرد أو مرويات مناقضة، ومن هنا، يعمل سعيد على تقويض مقولات المرويات الكبرى عبر أنماط من التحليل، لاسيما في كتابه الثقافة والإمبريالية، فهو يتخذ عدداً من الأعمال الأدبية والفنية والتاريخية عملت كمرويات كبرى صاغت الآخر، إن ما يعنينا هنا، التركيز على أثر السرد، لاسيما في الرواية، التي رأى سعيد أنها من أكثر الفنون التي ساعدت في نشأة الإمبراطوريات، ولهذا لا بد أن نطرح تساؤلاً حول التعالق بين الثقافة والإمبريالية؟ فهل ثمة وشائج بين الخطاب الأدبي الممثل بالمرويات الكبرى، ودفع ميكانزيم الإمبراطورية؟
يرى جيرار جانيت أن السرد عبارة عن فعل يقوم بترجمة المعرفة المتعلقة بموضوع الخطاب، ولهذا فإن إنتاج الخطاب يقوم على قوة السرد التي تعكس اختلاف وجهات النظر الكونية، التي بدورها تعمل على تشكيل الهوية، وانطلاقاً مما سبق، فإن تداخل خطاب ما بعد الاستعمار يتمحور حول من يقوم بفعل السرد، أو من يسيطر عليه كما تذكر موسوعة الدراسات ما بعد الكولونيالية. ثمة إذن نوعان من الخطاب السردي، خطاب المستعمر، والخطاب المضاد له، أي من وقع عليه الاستعمار، ولهذا يبدو أن محللي خطاب ما بعد الكولونيالية، قد أولوا هذا الموضوع أهمية قصوى، كون السرد قد ارتبط بمن يملك القوة، ومن استطاع أن يجعله أداة للتمثيل المؤثر والفاعل. فالشعراء والكتاب والرحالة والمستكشفون قد رسموا صورة للشعوب والأراضي التي واجهوها، لاسيما في المرحلة الإمبريالية، ونتيجة لذلك لعب السّرد دورا مركزيا تحديداً الأنماط، أو الموضوعات حيث التمثيل العرقي والعنصري والجنسي والهوية واللغة.
بعد أن يبين إدوارد سعيد أثر المرويات الكبرى ودورها في بناء الآخر متكئا على أهمية الرواية خاصة، كونها تمثل مشروعا جماليا، ارتبط بالإمبراطوريات الكبرى، وتحديداً بريطانيا وفرنسا، ولذا يتحدد مشروعه زمنيا بالقرنين التاسع عشر والعشـــرين، يشرح إدوارد ســـعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية» قائـــلا: «تناولت بشكل خاص أشكالا ثقافية كالرواية، أعتقد أنها كانت عظيمة الأهمية في صياغة وجهات النظر، والإشارات والتجارب الإمبريالية. وأنا لا أعني أن الرواية وحدها كانت مهمة، بل إنني أعتبرها المشروع الجمالي الذي تمثل علاقته بالمجتمعات المتوسعة في بريطانيا وفرنسا ظاهرة شيقة بصورة خاصة للدراسة».
إن المطلع على خطاب ما بعد الاستعمار يطالع عدداً من الدراسات التي تنهج هذا النهج، في قراءة الرواية، وعلاقتها بالمشروع الإمبريالي، فهنالك دراسات وقراءات تبحث في الرواية الخاصة بمناطق كانت خاضعة للهيمنة الكولونيالية، فنرى دراسات تختص بكندا والولايات المتحدة وأستراليا والدول الأفريقية، وهي تبحثها من منطلقين: الأول مقولة المسيطر، والثاني نقيضه المسيطر عليه، ولهذا، فإن إدوارد سعيد، يعمل على مناقشة عدد من الروايات متمثلا الخطاب الكولونيالي، ولا يكتفي بذلك، بل يعمل على ربط هذه الرواية بمركزها الحواضري والمستعمرات، ومنها على سبيل المثال «روضة مانسفيلد» لجين أوستن، بينما في رواية أخرى يبحث في التمثيل العنيف للآخر، حيث يصل إلى قلب الآخر كما في «رواية قلب الظلام» لجوزيف كونراد.
لقد أثار إدوارد سعيد الانتباه إلى روايات كانت تقرأ بمعزل عن التحليل الكولونيالي الكامن في تلك النصوص، فتتوارى العلاقة الإمبريالية تحت ركام قضايا أخرى، ولهذا، فقد شرع الناقد بالبحث عن هذا النسق، الذي ربما كان مندرجاً في حالة اللاوعي لدى الكتاب الأوروبيين. تشير آنيا لومبا إلى ذلك بإسهاب في معرض تحليلها للعلاقة بين الكولونيالية والأدب، إذ تتخذ من مسرحيتي «العاصفة» و«عطيل» لشكسبير نموذجا، إن تمثيل الإنسان الأسود بهيئة الخاضع والمضطهد، وإلصاق الفعل السلبي بشخصيته، بات نسقاً مألوفاً في النص الأدبي الكولونيالي، حتى في الفيلم والقصيدة، فهذا النسق لا يكاد يلفت الانتباه، إذ يتسرب خطاباً قاراً وثابتاً. إن ميزة هذا التحليل تتحدد بقدرته على تفعيل ما كان مسكوتاً عنه، وأصبح في ما بعد يعمل على إيجاد عدد من العلائق التي كانت غائبة ومستترة في النص السردي، فهناك بعد خيالي مبكر، كما في رواية «توم جونز» و«توقعات عظيمة». ولعل نموذج الروائي البريطاني تشارلز ديكنز مثال بارع يلتقطه إدوارد سعيد للتدليل على الوشائج المستترة بين الأدب والاستعمار، إذ يرى أن شخصيات هذا الروائي تنتمي في معظمها إلى رجال الأعمال والأقارب الجموحين، واللامنتمين والمخيفين، فمعظمهم على علاقة طبيعية وآمنة مع الإمبراطورية البريطانية، كما يمكن أن نضيف عاملاً آخر للتداخل بين السرد، ولكن مع الموضوع الجنسي، فالذّكر القابع في منطقة الآخر، مخنث، والمرأة شهوانية، ومعظم الذكور يمارسون اللواط، وهذا تبعا للمنطق والتقسيم الجغرافي، لاسيما لدى الأقاليم التي تشهد تعدد الزوجات، أو الزواج المبكر، كما يذكر الناقد التركي أرفن شك الذي يضيف أفكاراً حول التمثيلات السردية الكولونيالية القائمة على تمثيلات الآخر. وهكذا نجد أن هذا الحضور الطيفي، كما يسميه إدوارد سعيد، قد تطور ليصبح مركزياً ومهماً كما في أعمال كونراد، وكبلنغ، وجيد، ولوتي وغــــيرهم، بيد أن هذا يقودنا إلى ملاحظة تقوم على تكامل عناصر الخطاب الكولونيالي، فالتمثيل وهو آلية المستعمر المفضلة تتجه نحو الموضوع الجنسي، أو العرقي لبيان حالة الاخـــتلاف والتمـــايز، ولكن في سبيل تحقيق ذلك، تستعير من السرد أسلوبه، وتجعل الرواية خاصة والنص الأدبي عامة في خدمة المشروع الإمبريالي.
إن ما يصلح للتحليل في الروايات السابقة، يقوم على عدد من المنظورات التي تغلف مفهوم الأوربي عن الآخر، وقد أشرنا إلى ذلك عبر قضية التمثيل الجغرافي والعرقي والجنسي، إن كل ما سبق من تمثيل للمستعمر، محاط بمقولة الأصلاني، فالمكان المستعمر الجديد المأهول بالسكان الأصلانيين، يتعرض، أو يتعرضون في النص السردي إلى بناء منحرف وخاضع وتابع للقوى المهيمنة للرجل الأبيض، ودوره الحضاري ومنتجه الثقافي، فالنزعة التي تقوم على ترقية وتمدين المتوحشين البدائيين الضالين، هي نسق قار في المنظور الأوروبي. إن مقولة حملة التنوير والمخلصين، هي مفردات تمتلك من القوة ما يؤهلها لأن تضرب جذوراً في عمق الأصلاني، والإيمان بأن دور الأوروبي أن يكون مخلصاً وملاذاً. هنالك إذن ناتج – لغوي نفسي- انبثق من قوة المرويات الكبرى، مفاده أن الرّهان على الأوروبي والغربي كفيل بإيصال الآخر إلى بر الأمان، إنه امتلاك شديد لوعي المستعمَر، إذ يجب أن يكون فاعلاً وناشطاً، في حين أن وعي المستعمَر يجب أن يكون خانعاً.
٭ كاتب فلسطيني أردني
شكرا لكم على هذا العطاء المميز