النقد بمعناه المنهجي في السعودية لم يتأسس في الثمانينيات من القرن الماضي، إبان الجدل الذي عُرف بمعركة الحداثة، بل يعود تاريخه إلى عقود سابقة. وفي هذا المدار ينتقي حسين بافقيه رمزاً طلائعياً من رموزه ليقدمه في كتابه «العيش في الكتابة – دراسة في نقد عبدالله عبدالجبار».. الصادر حديثاً عن دار المؤلف. وهو اسم طالما ظل مجهولاً أو مهمّشاً بمعنى أدق، لأسباب موضوعية كثيرة يأتي على ذكرها في طيات الكتاب. عندما يستعرض منجزه كرائد من رواد ذلك الجيل، وواضع لنظرية نقدية، لدرجة أنه يعدّه واحداً من صُنّاع النقد العربي.
وبفائض من الإعجاب والحماس والمساءلة يتقصى سيرته في عالم الثقافة والأدب بكل تفاصيلها، باعتباره ناقداً واقعياً (يُعلي شأن القومية العربية) إلا أنه لا يتخلى عن عقله الحر، ورومانطيقيته. فهو باحث محقّق (وناقد دؤوب مواظب على الإطلاع والمعرفة، عالم بالتيارات النقدية والأدبية في العالم، ترفده لغة انكليزية متينة، ذللت له الوقوف على جديد النقد والفلسفة) بالإضافة إلى تميزه بصفات خُلُقية ونفسية عالية، كالمروءة والتواضع تؤهله لأن يكون صاحب عقل نقدي لا عقل خرافي، حيث أفنى عمره في تكوين ذلك العقل الذي يجمع ما بين الفكر والفضائل الإنسانية.
بموجب هذا التأسيس السردي يربط حسين بافقيه ممارساته النقدية بتحولات عصره السياسية والاجتماعية، ليكشف عن منازعه النضالية بمعانيها التنويرية والإصلاحية، حيث يوطّن وعيه في مدار الحالة الثقافية الحجازية على إيقاع انطواء الثورة العربية الكبرى وزوال حكم الشريف حسين، وبداية العهد السعودي، وكان عمره آنذاك سبع سنوات. وهو المولود في شعب علي في مكة عام 1918، حيث التحق بالمدرسة الفخرية الابتدائية، ثم مدرسة الفلاح المكية، ليكمل دراسته الجامعية في مصر، في مدرسة العلوم العليا.. لينهل من خطابها الثقافي التحرُّري الليبرالي آنذاك.
بعدها عاد معلماً في المعهد العلمي السعودي حتى صار مديراً للمعهد. وفي تلك الفترة كان يؤدي دوره التثقيفي إلى جانب وظيفته التربوية. مؤكداً على فكرة الإصلاح، بمعنى أنه بقدر ما كان المربي في المدرسة والمعهد، كان هو ذاته المصلح الاجتماعي. من خلال مقالاته ومناظراته، حيث كان يلهج بمفردة (الثقافة) في منزعه الإصلاحي.. بما هي (طريقة في الأخلاق ومنهج في القيم). كما يؤكد حسين بافقيه، الذي يصف سيرته بإنسان (وهب نفسه للثقافة) وهو الأمر الذي يفسر رفقته للكتاب منذ صغره.
في تلك اللحظة التحديثية صدع مع جماعة من الإصلاحيين بالدعوة إلى تعليم البنات في كل أقاليم البلاد. الأمر الذي استفز المؤسسة الدينية إزاء تلك البدعة، حيث كتب (وما أشبه تعليم البنات في الحجاز وفي سائر الأقاليم بعملية تهريب المخدرات). وعندما أذعنت الحكومة لمطالب الناس، تم إنشاء رئاسة لمدارس البنات تحت إشراف مفتي البلاد السعودية. وحينها استنكر عبدالله عبدالجبار بشجاعة وجرأة إنشاء رئاسة لمدارس البنات مرجعها هيئة دينية. كما أعلن احتجاجه على الغاء بعض المواد الدراسية عن البنات، وفصلهن عن البنين. وعلى إيقاع تلك المجابهة الحامية ردّ الرئيس العام لمدارس البنات على مقالات عبدالله عبدالجبار، وعدّه (من دعاة الدّس والوقيعة وبلبلة الأفكار).
أما في المجال الأدبي فلم تكن جرأته أقل، فعندما أعلى أدباء شأن الأدب في المملكة وأسكنوه منزلة رفيعة، أبدى بعض التحفظ على تلك المقولات ووصفه بالضعف والهزال. فالأدب الحجازي، حسب قوله (لا يقوى على تجاوز حدود البلاد والتحليق في أجواء بعيدة، بل إن بعض ألوانه يولد هزيلاً مهيض الجناح لا تكاد تسمعه أو تقرأه حتى تراه وهو يحتضر). وبعد ذلك التشخيص يبسط وصفة النهوض وعناصره بالنهل من المنبع العربي، والمنبع الغربي، ودراسة البيئة والحياة والإتجاه النفساني والنقد الأدبي.
وقد تجلت منهجيته في مطالعاته الأدبية الواسعة للقدماء والمعاصرين، من منطلق علم نفس الأدب، حيث كان رائد التحليل النفسي للأدب في المملكة، إذ طبق مفاهيم الشعور واللاشعور، ومركب النقص على منجز حسان بن ثابت والحطيئة. كما قارب منجز شاعر البلاط السعودي أحمد الغزاوي من ذات المنطلق. مؤكداً على مفهوم التعويض، الذي يلجأ إليه (ليستعيض بنقص موهبته في الشعر بوسائل غير شعرية. يصرف بها الناس عن نزول شعره فيكثر من علامات التعجب والأقواس). وكل تلك المقاربات كان يؤدي فروضها بأسلوبه النقدي المنهجي اللين.
وفي مرحلة لاحقة عاد إلى القاهرة لإكمال دراساته العالية في الماجستير والدكتوراه، ليتم تعيينه مديراً عاماً للبعثات السعودية، حيث عاد إلى مصر ناقداً وأديباً في مقر إدارة البعثات وتحول منزله إلى حلقة ثقافية لكل المهتمين بالأدب. وهكذا اكتسب صالونه الثقافي تلك الفرادة بنوعية المتنادين فيه. ولم يكن ذلك الصالون ولا صاحبه بمعزل عن التحولات والأحداث السياسية، فقد عاصر عبدالله عبدالجبار لحظة سطوع نجم عبدالناصر وافتتانه به وبثورته بكل ما فيه من تحولاته في القيم الأدبية والنقدية، وظهور النقد العقائدي بكل مشاربه وألوانه، خصوصاً ما عُرف حينها بالواقعية الاشتراكية.. إلا أن عبدالله عبدالجبار ظل وفياً لمنهجه الواقعي وما تبقى فيه من آثار الرومنطيقية.
وعلى الرغم من انتمائه إلى «رابطة الأدب الحديث» ومشاركته في ندواتها ومحاضراتها، وإشرافه على كتابها الشهري «البعث الجديد» إلا أنه ظل بعيداً عن الحزبية. فهذا التجمّع يذكي في نفسه مشاعره العربية. ويجعله في مهب ثقافات متنوعة وعصرية. كما عبر عن إحساسه وموقفه بمقالة جاء فيها «انضممت إلى الرابطة، وكنت سعيداً بلقاء هذه الكوكبة من أعلام الشعر والنقد الذين يفخر بهم الأدب العربي… وكانت الرابطة تسمو بالأدب الرفيع فوق المذاهب الفكرية والأدبية والأيديولوجيات المختلفة».
وعندما بلغ الثامنة والثلاثين دفع إلى المطبعة ثلاثة كتب: «تمثيلية العم سحتوت، ومسرحية الشياطين الخُرس، وقصة أُمّي». وبها أصبح أديباً يعالج قضايا الناس بالأدب، وتجلت في كتبه مواقفه الوطنية والآراء الاجتماعية التي يتبناها، إذ صار الأدب أحد أدوات المعركة ضمن رؤاه الواقعية، فقد تفجرت آنذاك قضية الكتابة للخاصة والكافة ما بين طه حسين ورئيف خوري. وجاءت مداخلة عبدالله عبدالجبار تحت عنوان «لا للخاصة ولا للكافة» ليؤكد على مذهبه في النقد والأدب، الذي يمازج فيه بين حريته كأديب وما يمليه عليه ضميره.
لم يكن في منجزه ما يشي بالأفكار اليسارية، بقدر ما كانت نزعته الإنسانية ظاهرة ومهيمنة. فقد كان (يسره أن تقرأ أدبه الطبقات الكادحة والطبقات المتوسطة والعمال والزراع وصغار الموظفين)، كما كتب ليوسع قاعدته القرائية بمعناها التفاعلي، لأنه حينئذ سيجد نفسه تنداح في نفوسهم، وأفكاره وعواطفه تتغلغل في أفكارهم وعواطفهم. فالباعث الأساسي الذي يدفع الأديب للإنتاج، حسب قوله، هو هذه المشاركة العاطفية، هو ذلك الإحساس المشترك. حيث أقام فيصلاً ما بين العقيدة السياسية والاجتماعية وبين الفن الأدبي، وكأن حرية الأديب عنده أقرب إلى الفلسفة الوجودية، حين تقترن الحرية بالضمير الحي للأديب.
ويبدو أن الحجاز لم تفارق وعيه، فقد أصدر ومحمد عبدالمنعم خفاجي كتاب «قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي»، وكأنه يستنهض وعيه بالذات الحجازية، حيث ابتنى دراسته على المنهج البيئي (الإقليمي) معلناً بكل وضوح إحساسه بالاختلاف «إن خصائص الأدب في بيئة نجد لا يمكن أن تكون هي خصائصه نفسها في الحجاز». وكان ذلك الانتباه على إيقاع الثورة في مصر، إذ امتدت المقاربة إلى العصر الحديث وبروز الروح القومية، فيما يبدو بحثاً في الإرث الإقليمي، وكأنه يحرك بصره بعين على التاريخ وأخرى على الجغرافيا وصولاً إلى إشكالات مفهوم الهوية، على قاعدة التأثر بالفكر القومي إذ لم تتبرأ تلك القراءة المثالية للتاريخ من نزعة سياسوية.
واعترافاً بمكانته العلمية والأدبية تم تعيينه محاضراً في (معهد الدراسات العربية العالمية) الذي أنشأه فيلسوف القومية العربية ساطع الحصري. وعُهد إليه تدريس الاتجاهات والتيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية، حيث تحولت تلك الدراسات إلى كتاب هو بمثابة مرجع. يقوم الكتاب بمنظور حسين بافقيه على ركيزتين: القومية فكراً، والواقعية مذهباً أدبياً ومنهجاً نقدياً، حيث بدا واضحاً أن عبدالله عبدالجبار شايع الناصرية وآمن بها. وهو الأمر الذي أدى إلى استدعائه إلى السعودية أو بمعنى أدق طرده من موقعه في القاهرة، حيث أذكت الثورة المصرية في الحجازيين إحساسهم بمكانهم وذاتهم وهويتهم. وكأنها المِلاط الاجتماعي الذي يحفظهم من التلاشي، لدرجة أنه كتب قصائد تمجيدية لعبدالناصر.
ويمكن القول إنه قرأ الواقع التاريخي الاجتماعي الثقافي في تلك اللحظة للمملكة على هدى تلك الأيديولوجية‘ حيث انتقل من حالة الفرد إلى الذات تماماً كما قرأ اللحظة السابقة على إيقاع تفجُّر الثورة العربية الكبرى التي كانت، حسب رأيه «حافزاً جديداً قوياً أشعل قلوب الأدباء بالروح الثورية والهتاف للعروبة، فبعد أن كان الأدب تقليدياً بارداً لا عاطفة فيه، أصبح من بعض الوجوه عاطفة حارّة». وهو الأمر الذي يلخص دعوته إلى أدب ثوري. حيث انقلب على الرومنطيقية التي تحولت إلى «مرض شعري لا يُرجى برؤه إلا بالخروج عليها. وهي تلك التي استحالت عاطفة مائعة ومرضاً لفظياً، وهي التي أضحت خطراً ينبغي توقيه، لأنها تشل الثورة والتحرّر وتصيب التجربة الشعرية بالترهّل والضمور».
ولا شك أن حسين بافقيه قد بذل جهداً كبيراً لتأريخ سيرة هذا الرمز الذي عاد بعد تطوافات طويلة ليلاقي ربه في السابع من مايو/أيار عام 2011. إذ لم يكتف بالعودة إلى أعماله الكاملة، بل كان يجالسه ويسمع منه ما لم يتم توثيقه في الكتب. وإثبات كل ذلك في مرفقات سواء كوثائق أو صور أو مقالات. وهو جهد يقدم صورة بانورامية راصدة لحياة وتحولات عبدالله عبدالجبار، ضمن حواضنه المكانية والزمانية، وفي ظل معارفه وأصدقائه ومجايليه، وكأنه يستفز الذاكرة بسيرة كائن انتمى بكل ما يمتلك من فكر ووجدان لحركة تاريخية اجتماعية.
* كاتب سعودي
محمد العباس*