في الجزء السابق من المقال، أوردنا تلخيصا لحديث الدكتور محمد المرتضى مصطفى حول قناعته بفشل النخب السياسية الحاكمة في منع إنهيار الدولة السودانية، رغم وجود العديد من التقارير العلمية التي ظلت تحذر من ذلك، وخاصة تقرير 1970 من منظمة العمل الدولية، وتقرير البعثة الدولية للسودان عام 1972، والذي يعد، حسب الدكتور مصطفى، من أفضل وأشمل التقارير الدولية لمعالجة قضية ما، وكذلك الإتفاقية الموقعة بين السودان وجمهورية ألمانيا لتطوير التدريب المهني، والتي لم يستفد منها السودان بالكامل بينما «إستلفتها» جمهورية كوريا الجنوبية في أواخر ستينيات القرن الماضي، لتساهم بها في بناء دولة كوريا الصناعية الحديثة التي لا تقارن بواقع السودان المتدني! والدكتور محمد المرتضى ليس مجرد معلّق سياسي أو كاتب مقال، وإنما هو مفكر سوداني وخبير دولي بارز، وأحد الذين استعانت بهم الأمم المتحدة في إدارة عملية التحول السلمي في جنوب افريقيا من دولة الأبارتايد إلى الدولة الديمقراطية. والدكتور محمد شغل منصب وكيل وزارة العمل السودانية في عدة حكومات سابقة، كما تبوَّأَ منصب المدير الإقليمي لمنظمة العمل الدولية لشمال افريقيا والشرق الاوسط. وهو يعزي بوادر إنهيار الدولة السودانية إلى إنعدام الرؤية لدى القيادات السياسية السودانية، وعدم وضوح فكرة الدولة لديهم، وأنهم لا يقرأون ما يكتب عن بلدهم، إضافة إلى عدم الإستقرار السياسي، والفشل الذريع في إدارة الإقتصاد.
ونحن، إذ نتفق تماما مع ما ذهب إليه الدكتور محمد المرتضى حول الأسباب المؤدية لإنهيار الدولة السودانية، نستسمحه في إضافة نقطتين صغيرتين، لن تتناقضا مع جوهر ما قال، حتى وإن لم تتطابقا معه. فمع الفشل في إدارة الإقتصاد، نضيف الفشل في إدارة التنوع، وبالتالي الفشل في إدارة البلاد، كنتيجة حتمية لفشل كل النخب المتعاقبة على كراسي الحكم منذ فجر الإستقلال، في تقديم الإجابات الصحيحة للأسئلة المصيرية المتعلقة بتأسيس وبناء دولة ما بعد الاستقلال الوطنية، أو هو فشلها حتى في مجرد طرح تلك الأسئلة المصيرية، والتي نلخصها في نظام الحكم والنظام السياسي، علاقة الدين بالدولة، التنمية، والهوية، وفي ضرورة أن تأتي الإجابات معبرة عن رضى كل المكونات القومية في البلد.
والنقطة الثانية هي، أن الإنقاذ، وبعد ما يقرب من الثلاثين عاما من سيطرتها على مقاليد الحكم، أوصلت الأزمة السودانية إلى مداها الأقصى، قاذفة بالبلاد إلى هاوية مأزق مأساوي حقيقي. فالمجموعة الحاكمة لم تعد مجرد حزب حاكم، وانما جعلت من نفسها الدولة ذاتها، وحوّلت ما يفترض أن تكون دولة الوطن والمواطن إلى دولة الحزب أو الجماعة أو العصبة، حتى تجلى شكل جديد من الاستلاب والاغتراب ليس تجاه مؤسسات الدولة فحسب، وإنما تجاه الكيان السوداني ذاته، والذي شهد أكبر نزيف في تاريخ السودان الحديث للعقول والكفاءات وسواعد الشباب، بعد أن أصبح الخوف يخيم على كل بيت، وبعد أن أضحت إحتمالات ومؤشرات تفتت وإنهيار الدولة السودانية، واضحة ملموسة، وأقرب لأن تسود بعد أن تحققت جزئيا في إنفصال جنوب الوطن. وفي الحقيقة، عندما يكرر النظام أخطاءه بشكل دوري، وتكون مناوراته وتقلباته و»حركاته» محفوظة، وليس له سوى أن «يلعب غيرها»: حوار… اتفاقات… انتخابات… حكومة قاعدة عريضة…، بينما لا شيئ يمس الجوهر، أو حتى يسكًن الأزمة، فالحرب مستمرة، والأزمة تتفاقم، والضنك يتضاعف…، فذلك يعنى أنه نظام فاشل حتى النخاع.
وعندما تتحكم مجموعة ما في مصير البلاد والعباد، ويصل بها الأمر أن يناقض فعلها جملة وتفصيلا قولها الذي بدأت به، وتدعي لنفسها صفات وسمات في مرتبة أعلى من صفات وسمات الشعب، بل ويصل بها الأمر أن تزدري شعبها بسقط القول وفاحشه، ولا تهتم بأن افعالها جعلت أبناء هذه البلاد يتصارعون ويختلفون حول كل أوجه ادارة حياتهم، حد الحرابة والقتل المتبادل، ولا تأبه لما يتهدد البلاد من جوع ونكد وإنقسامات وإستدامة حرب أهلية ضروس وعقوبات دولية، ولا تستحي أن تكون حقل تجارب لسيناريوهات الدول الكبرى…، عندما يصل الأمر بهذه المجموعة ونظامها إلى هذا الحد، فليس أمامها سوى الرحيل.
صحيح أن من كانوا، وظلوا، في كراسي الحكم يتحملون الجزء الأكبر من مسؤولية الفشل وإحتمالات إنهيار الدولة السودانية. ولكن، من هم خارج مواقع الحكم، المعارضة، لا بد أن يعترفوا بأنهم أيضا يتحملون جزءا من مسؤولية هذا الفشل. فمهما كانت التبريرات، أو معقوليتها، فإنهم يتحملون ضعف مقاومتهم لهجمة سارقي السلطة، ثم تقاعسهم وسماحهم لهم بالتمكن والتمكين. وهم يتحملون وزر أن فعلهم المقاوم ظل دون طموحات إحداث فعل التغيير. ويتحملون مسؤولية الفشل، الملازم منذ فجر الإستقلال، في توحيد الرؤى لبناء الوطن…، وأخيرا يتحملون مسؤولية عدم إفساح المجال للأجيال الجديدة، التي لا تتحمل أي مسؤولية في ذاك الفشل ولا تريد أن تكرره، وترفض أن ننقله إليها، لذلك تتمرد، ولكن بإحترام وتقدير لأجيال الآباء والرواد.
لقد بلغت الأزمة الحلقوم، وما عاد الوطن يحتمل ذرف المزيد من الدمع على الدم المسفوح. ولسنا بحاجة لنكون أسرى للتوصيف والتحليل، فقد فعلناها من كل الاتجاهات، وأشبعنا الأزمة توصيفا وتحليلا…. ولسنا بحاجة لتدبيج ميثاق جديد وراء آخر، فلقد قتلنا القضية بحثا وعصفا ومواثيق… لنقتفي أثر كل هذه المواثيق وتلك التحليلات، لا سيما أن جميعها يتحسس موضع الألم ويساهم في وصفة العلاج، ولنتحرك صوب فعل عملي، تدابير محددة، برنامج ملموس، وقوده السلم وحقن الدماء والثقة في إمكانيات شعبنا، ولا سبيل لذلك إلا بالتوجه إلى الناس في مواقعهم، بخطاب جديد، ومواعين جديدة، ووسائل عمل جديدة، مستمدة من خلاصات تجاربنا، وفي نفس الوقت تحدث قطيعة مع الموروثات التي أنتجت الفشل، فهل ننطلق به نحو الهدف المنشود: إنقاذ الوطن من الإنقاذ…، ومنع إنهياره. وشكرا دكتور محمد المرتضى مصطفى.
٭ كاتب سوداني
د. الشفيع خضر سعيد