يحدثنا علم الوراثة عن نوعين من الصبغات الوراثية، «الجينات»: الجين السائد، وهو الذي يطغى أثره على النوع الآخر الذي يسمى الجين المتنحي، وهذا الأخير يختفي، أو يضعف، تأثيره عندما يجتمع النوعان في خلايا الكائن الحي. ومن باب المجاز، ولمجرد التشبيه، يمكننا إستخدام هذه المعلومة لنتحدث عن صبغتين سائدتين في خلايا الكائن المسمى نظام الانقاذ، والذي لا يزال ممسكا بدفة الحكم في السودان لثلاثة عقود. والصبغتان هما: جين ثقافة العنف والحرب، وجين إبتلاءات الفساد والافساد.
ومن الواضح أن هاتين الصبغتين، يربط بينهما رابط تفاعلي قوي، فتزدهر كل منهما في معية الصبغة الأخرى، وفي نفس الوقت يستغلهما الكائن نفسه، أي الإنقاذ، أيما إستغلال، متوهما فيهما سر البقاء والديمومة، في حين يقول الواقع أنهما سبب التآكل والانهيار.
ومن الواضح أن هاتين الصبغتين، يربط بينهما رابط تفاعلي قوي، فتزدهر كل منهما في معية الصبغة الأخرى، وفي نفس الوقت يستغلهما الكائن نفسه، أي الإنقاذ، أيما إستغلال، متوهما فيهما سر البقاء والديمومة، في حين يقول الواقع أنهما سبب التآكل والانهيار.
والمجتمع البشري، ظل يسير إلى الأمام وفق خط تطور متصاعد، ومتعرج في نفس الوقت، متخطيا ومتجاوزا الكثير من المطبات والانتكاسات التي يعج بها الطريق. وإذا كانت السمة السائدة في خط التطور هذا هو التقدم وإستحالة العودة إلى الوراء، في تطابق مع ما تتسم به عجلة الزمن، إلا أن الكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع يتحدثون عن اللحظات العكسية، أو الرجعية (من الرجوع)، في مسار تطور المجتمع. فإذا كان إنصهار القبيلة والاثنية في الدولة القومية يعكس المسار الطبيعي لتطور المجتمعات البشرية، فإن بروز العصبية القبلية، والإعلاء من شأن الإنتماء القبلي، كدافع رئيسي وقوي للحراك في المجتمع، يشكل لحظة رجعية أو عكسية في هذا المسار. لكن، هنالك إستثناء هاما، يتجلى في سياق مختلف تماما، حين برزت الهوية القومية إبان ثورات التحرر الوطني كنزعة تقدمية ضد المستعمر ومخلفاته، فانتصرت القوميات في معارك تحرير أوطانها، وأنهت عهد الفتوحات العسكرية والتوسع الإستعماري.
بهذا الفهم، فإن تفشي القبلية مؤخرا في السودان تحت ظل حكم الانقاذ، يعبر عن تلك اللحظة العكسية/الرجعية في مسار تطور مجتمعنا، ولا يمكن أن تمثل إمتدادا طبيعيا لهذا المسار.
فالمجتمع السوداني عرف مبكرا، قبل الاستقلال الوطني، تكوينات المجتمع المدني والسياسي من حركة وطنية وأحزاب ونقابات ومنظمات جماهيرية متنوعة، بإعتبارها أوسع من مواعين القبيلة والعرق. وحتى تلك التي تشكلت على أساس القبيلة والعرق، فإنها أقدمت على هذه الخطوة كرد فعل، إحتجاجا وتظلما من إهمال وتجاهل، بل وفشل، الحركة السياسية في تحقيق مشروع دولة ما بعد الإستقلال الوطنية.
حدثنا التاريخ عن المعاناة والفظائع وصنوف العذاب التي عاشتها البشرية بسبب إقدام الحكام على تعبئة الناس على أساس إثني وطائفي وجهوي، لخوض الصراعات والحروب الطاحنة لإخضاع الآخرين وإستغلالهم، بهدف التفوق والسيطرة على السلطة والموارد. أنظر إلى ما يجري في السودان الآن تحت حكم الإنقاذ وبسبب مباشر لسياساته، حيث تفشت عمليات المحاصصة ومنح وظائف ووزارات وإنشاء ولايات، إرضاء لهذه القبيلة وتلك الإثنية، وحيث شُكلت ميليشيات من مجموعات قبلية بعينها دعما للحكومة ضد معارضيها. والنتيجة المباشرة كانت تأجج الصراعات القبلية الدموية بين قبائل وقوميات كانت متعايشة سلميا حتى في أسوأ الظروف، وكانت الحكمة دائما حاضرة وسائدة إن دب الخلاف بينها. صحيح لم يكن الأمر يخلو من نزاع هنا وهناك، لكن الجنوح نحو الصلح والتصالح والوفاق، كان دائما هو سيد الموقف. إن تأثير النزاعات القبلية والصراعات العرقية قطعا سيكون كبيرا ومدمرا، لا على كيان السودان وحسب، بل وعلى السلم في كل المنطقة.
وللأسف، فإن القلة التي تحتكر المال والسلطة والدين، وتحكم بإسم حزب المؤتمر الوطني، تستغل، بكل وضوح بالنسبة لنا، وبكل ضيق أفق بالنسبة لها، حقيقة التعدد والتنوع القبلي في السودان لتقوية قبضة أي من أجنحتها على السلطة في البلاد. وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، عندما يتبع، منهجيا، مع الزعامات القبلية أسلوب الإرضاءات السياسية لدرجة تشطير الولايات والكيانات الإدارية الواحدة تشطيرا أميبيا، إنما يؤجج نيران الصراع القبلي، في بلد ظل يكد ويجتهد للتخلص من العصبية القبلية والإثنية، وتعثر فيه مشروع بناء دولته القومية، دولة ما بعد الإستقلال. ونيران هذا الحريق تزداد إشتعالا بممارسات هذه القلة الحاكمة، والتي استهدفت ضرب الأحزاب السياسية، والسعي لإحتكار السياسة، وحرمان الشعب من دور الأحزاب في نشر الوعي بالحقوق وترقية الاحتجاجات المطلبية وأشكال المعارضة السلمية ورفع الحس الوطني، مما دفع الكثيرين إلى مفارقة المقاومة السلمية المدنية وشق طريق المقاومة المسلحة.
وللأسف، فإن الصراع السياسي في البلاد ينزلق بسهولة وبعجلة تسارعية نحو فخ وهاوية الصراع العرقي السافر، ليصبح شعار القبيلة هو المحرك الأساسي بالنسبة لكل الأطراف. إن الانحطاط بمستوى الصراع السياسي في البلاد إلى صراع قبائل وصراع نفوذ ومصالح ضيقة، لهو كارثة حقيقية.
صحيح أن البلاد شهدت العديد من مؤتمرات الصلح بين القبائل، كما شهدت العديد من الاتفاقات الموقعة بين المؤتمر الوطني والقوى المعارضة له، في نيفاشا، أبوجا، الشرق، القاهرة، جبال النوبة….، لكن يبدو أن كل هذه المؤتمرات والاتفاقات فشلت في نزع فتيل الاقتتال، وفي تحقيق السلام والاستقرار وصون وحدة البلاد. فبعد أن إنشطرت البلاد بإنفصال الجنوب، إستمرت الحرب على أشدها في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، والتطاحن القبلي ينزف دما مدرارا، حتى داخل القبيلة الواحدة بين البطون والأفخاذ، والتوتر الشديد هو سيد الموقف في المناطق التي لم تندلع الحرب فيها بعد. وحتى داخل المؤتمر الوطني نفسه، يتداول الناس أحاديث صراعاته وخلافاته التي ترتدي، في جانب من جوانبها، طابعا قبليا وعرقيا.
وفي الحقيقة، عندما تجلس قيادة الحزب الحاكم في «الصقيعة»، منخورة العظام، ملطخة بأوحال الفساد ونهب المال العام، ويدار الصراع داخلها بأساليب لا علاقة لها بالسياسة ولا بمصلحة المواطن، بينما البلاد تحترق بنيران الحرب والجوع والمرض، فليس أمام هذه القيادة غير أن ترحل وفورا.٭ كاتب سوداني
السودان: صورة قاتمة!
د. الشفيع خضر سعيد