منذ الاستقلال ظهرت في السودان عدة دعوات أكاديمية لإعادة كتابة التاريخ، بعد أن اكتشفت الأجيال الجديدة من المهتمين، أن وثائقهم التي يعتمدون عليها ويعدونها مراجع أساسية هي تلك التي كتبت إما على يد المستعمر نفسه على شكل مذكرات وخواطر أو على يد أكاديميين ومؤرخين تابعين له، مما يشكك بحيادها وموضوعيتها.
الخيار الجديد كان يدعو للاقتراب من التاريخ الشفهي الذي انتقل بعفوية عبر الأجيال والاعتماد عليه كتوثيق بديل. لكن إشكال هذا التاريخ الشفهي لا يقل بدوره عن إشكال المصادر الاستعمارية، فهو مليء بالتناقضات والروايات المتضاربة حول سيرٍ وأسماءٍ تظهر مرة بشكل يضفي عليها قداسة كبيرة وأدواراً بطولية في حين تظهر في سرديات أخرى بشكل مغاير.
الأمر لا يتعلق هنا بالأسماء الثانوية وبالشخصيات التي لم تؤثر بشكل كبير على تكوين السودان الحديث، ولكن أثره يمتد حتى لأسماء بارزة كشخصية الإمام المهدي وفترة حكمه وحكم خليفته أو كسلطان دارفور الأخير والأشهر علي دينار.
من الصعوبات التي تواجه المتطرقين لتلك الحقب التاريخية، بالإضافة إلى مشكلة المراجع الأساسية، مشكلة الاستقطاب السياسي الذي يشوّش بشكل كبير على العمل البحثي. فشخصية الإمام المهدي، رغم أنه قد بقي عدد قليل من الذين ما يزالون يؤمنون بالمهدية كرسالة من الله، تبقى الشخصية التي ينظر إليها باحترام من غالب السودانيين تقديراً لدوره في محاربة الاستعمار وتوحيد البلاد، وما يزال الحزب الذي أسسه أنصار المهدي وأبناؤه يتمتع بشعبية كبيرة، وينتشر في معظم أنحاء السودان. أما السلطان علي دينار فيرتبط بدارفور التي تشهد منذ سنوات استقطاباً سياسياً حاداً وبحثاً عن هوية يرى بعض أهلها أنها تكمن في دولة منفصلة. في هذه الأجواء حيث النفس الطائفي والافتخار بالهوية المحلية وتاريخ الأجداد، يطلب من المؤرخ أن يؤدي عمله الذي لا يحتاج لشيء مثل احتياجه للمصداقية والحياد. ولا نشكو اليوم من قلة من يكتب في التاريخ، بل نشكو من أن هم أغلب المنقبين لم يعد العلم والانتفاع، بل البحث عن مصادر للفخر، تعزز مسيرة التفاضل القبلي والسياسي، ويا حبذا لو ارتبط ذلك بوقائع تسيء إلى منافسين آخرين.
بهذا السياق يمكننا أن نتفهم الانتقاد العنيف الذي صاحب رواية «شوق الدرويش» للكاتب السوداني حمور زيادة، التي ظهرت قبل عامين بعد فوزها بجائزة نجيب محفوظ الأدبية. اعتبرت الرواية إساءة لفترة الحكم المهدي حيث سلطت الضوء على جرائم تلك الدولة وممارساتها الظالمة ضد شعبها، مرتكزة على طروحات متوفرة في التاريخ الشفهي، رغم تناقضها مع «التاريخ الرسمي» الذي يحافظ على بهاء المهدية ونقائها.
خفتت العاصفة التي صاحبت الرواية بالتدريج وتم التقليل من شأن ما ورد فيها، باعتبار أنه مجرد خيال وأنه لا يرقى للمناقشة الموضوعية، وقد استطاع الكاتب حماية نفسه حين تمسك بصفته روائيا نافياً أن يكون مؤرخاً أو باحثاً.
بالمقابل، فإن رواية «آخر السلاطين» للكاتب منصور الصويم التي كان موضوعها السلطان علي دينار لم تجد الزخم ذاتها ولم تزعج أحداً، لسبب بسيط وهو أنها قد سلكت منهج السلامة في الرواية التاريخية وهو منهج يركّز على الجوانب الطيبة للشخصية الرئيسة. بهذا المنهج تجاوز الصويم الذي ينحدر من إقليم دارفور الكثير من «الثقوب» باعتماده على التراث الشعبي الذي يحافظ على صورة السلطان الأسطورية الخلابة.
هنا مأزق آخر، إذ ينبغي على المتطرق لموضوع السلطان والإمام ألا ينسى أنهما، ورغم انتمائهما للحقبة ذاتها والمرجعيات الدينية نفسها تقريباً، إلا أنهما كانا يحملان رؤيتين سياسيتين مختلفتين، حيث كان المهدي ثورياً ليس فقط على الأتراك العثمانيين، بل على الجميع، ولم يكن ليعترف بأي سلطة غير سلطته التي كان يرى أنها الممثل الشرعي والوحيد للدولة الإسلامية. أما علي دينار فطموحه لم يتجاوز الرغبة في الاحتفاظ بسلطته الإقليمية على دارفور ولم تكن لديه على ما يبدو أي نوايا توسعية وهو ما جعله لا يجد حرجاً في الاحتفاظ بولائه للخلافة العثمانية طالما أنها كانت تمنحه حكماً ذاتياً. أما العلاقة مع «المهديين» فقد كانت مختلفة، حيث كانوا يريدون أخذ بلاده والتحكم في أرضه وهو ما فرض التنازع بين الجبهتين. لحسن حظ السلطان فإن أيام المهدية لم تستمر لوقت طويل 1885 -1899 وسرعان ما حسمت معركة كرري الشهيرة الأمر بهزيمة أنصار المهدي وسيطرة الإنكليز على عاصمتهم أم درمان.
السودانيون يتحدثون عن هذه المعركة بفخر، رغم أن نتيجتها النهائية كانت إنهاء الدعوة والدولة المهدية، وذلك للصمود الذي أظهره «الدراويش» الذين لم يرهبهم السلاح المتطور لأعدائهم ولم يفكروا في الاستسلام، رغم أن المؤشرات المادية كانت تدل على تفوق خصمهم.
المعركة ترتبط في الأذهان بخليفة المهدي عبد الله التعايشي، أما علي دينار فأغلب الظن أنه لم يشترك فيها، بل عاد إلى دياره مسترجعاً حكمه، وحينما غلب الإنكليز وخضعت لهم البلاد أظهر من جديد الولاء لهم شرط أن تترك له دارفور سلطة مستقلة.
هكذا كانت رؤى كل من السلطان والإمام متناقضة، فبينما نظر الأول للعالم بعدسة مقعرة لا تكاد ترى سوى دياره وإمارته، كان الإمام المهدي ومن بعده خليفته ينظرون إليه بعدسة محدبة تستصغر كل ما سوى الدعوة المهدية وتتصور إمكانية خلق خلافة إسلامية كبرى يدين لها العالم من مسلمين وغير مسلمين.
على مستوى الإقليم كان هناك الكثير من الضحايا لكلا الزعيمين، فالمهدي لم يكن ليعترف بسنوسية ليبيا على سبيل المثال رغم ثوريتها وقوة تأثيرها والأثر الذي كان يمكن أن يولده توحد ما بين الثورتين على مبادئ عامة. المهدي كان يعتبر أن الإيمان به ومبايعته شرط لكل اتفاق وهو ما كان يجعل مهمة خلق تحالفات خارجية صعبة.
لكن العلاقة مع سلطان دارفور لم تكن أسهل ولا أيسر، فالسلطان يخشى المنافسة ويخشى أن يفكر السنوسيون بالتمدد على حسابه، لذلك فقد تعامل معهم بحذر وصل أحياناً لدرجة منعهم من المرور عبر أراضيه. على الحال ذاته كانت العلاقة مع سلطنة وداي الإسلامية (تشاد الحالية) فهي لم تكن لتعترف بها لا من الدولة المهدية ولا من فرنسا التي بدأت تتوغل في الأراضي الأفريقية بشكل سريع.
وفي خضم صراع أولئك مع الفرنسيين كان ما يقلق سلطان الفور هو أن يفكر الفرنسيون بضم بلاده المجاورة واجتياحها بعد وداي، ولذلك فقد قوّى علاقاته مع الإنكليز ودعاهم لخلق تفاهمات مع الفرنسيين تؤدي لإثبات أن أرضه خاضعة مسبقاً للنفوذ البريطاني.
لقد دفعت المهدية ثمن نظرتها غير الواقعية للعالم باهظاً، وكذلك دفع السلطان علي دينار لاحقاً ثمن ثقته بالإنكليز الذين لم يكتفوا بالسيادة الإسمية على أرضه واستفادوا من تململ القبائل من غير الفور فغذوا الخلافات بشكل أضعف السلطان ومن ثم سهّل ابتلاع دارفور وضمها للسودان الذي سبقها بالوقوع تحت الاحتلال.
نعود الآن إلى السؤال الأهم وهو: إلى أي حد يمكن الاعتماد على الروايات الشفهية، خاصة أن شهادات الرجال، حتى المعاصرين منهم، تبدو في بعض الأحيان مختلفة ومتناقضة مع بعضها؟ هذا هو العمق الحقيقي للأزمة، فإذا كنا لا نستطيع الاتفاق حتى على تاريخ حديث ما يزال بعض أبنائه ورموزه حاضرين بيننا، فكيف يمكننا الاتفاق على القصص الأبعد في الزمان والمكان؟
التاريخ ليس قصة تروى للترويح والتسلية، بل علم يدرس للاعتبار والاستفادة من مواضع القوة ومن لحظات الضعف حتى تتم استعادة الأمجاد بوعي، وحتى لا تتكرر أخطاء الماضي، أما الاستمرار في سياسة «تطهير التاريخ» وخلق رواية رسمية منتقاة لأحداثه لا يظهر فيها إلا وجهه الجميل فهذا مما لا يفيد. على سبيل المثال فإننا لو كنا قد استحضرنا الكيفية التي استطاع بها المستعمرون في بداية القرن العشرين تفريق كلمة أهل دارفور وخلق الشحناء بين قبائلها عبر سياسة «التسليح الانتقائي»، لما كنا لنسمح لأهلنا في دارفور بأن يلدغوا من الجرح ذاته مرة أخرى في القرن الواحد والعشرين! ومن ناحية أخرى نجد أن الكيانات المسلمة ما زالت تكرر خطأها الكبير، ففي الوقت الذي يتوحد فيه أعداؤها ضدها تتجه هي لمزيد من الانقسام حيث لا يفكر كل كيان إلا بنفسه ومصلحته.
أما ثوب التاريخ السوداني فما تزال تغطيه الثقوب والفراغات التي تحتاج لأن تملأ بعلم ووعي وهما النقيض الأبرز للعاطفة والشخصنة التي لا تقود إلى مكان.
لقد أثبتت سياسة «تطهير التاريخ» تلك فشلها، فهي لم تنجح في إسكات صوت مرارات الماضي بقدر ما أعطت فرصة للتوسع في المرويات المغرضة التي توظّف من أجل خلق المزيد من الفرقة بين شركاء الوطن عبر المبالغة في وصف بعض الأحداث التاريخية كقصص اعتداء القبائل على غيرها وما صاحبها من انتهاكات وقصص الحكم في فترة المهدية وغيرها من الحكايات التي يعاد توظيفها واختلاق تفاصيل جديدة لها لأسباب سياسية حيناً وعنصرية حيناً آخر. كل ذلك في ظل عدم وجود مرجعية تاريخية موثّقة وقادرة على تغطية تلك الثقوب.
تبقى الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ دعوة قديمة ومتجددة، ورغم وجود بعض المساهمات إلا أنه يبدو أن الطريق من أجل اكتشاف الماضي لا يزال غير معبد، ولا زلنا في غالبنا نعتمد على كتابات الأجيال الأولى من المؤرخين كمصادر أساسية. هنالك، للموضوعية، بعض المجتهدين الذين يبحثون عن وثائق بريطانية أو عثمانية لم ينقلها أحد لكنهم قلة، حيث يعتمد معظم الكتاب على المصادر العربية أو المترجمة وبشكل أقل على المرويات التراثية لسهولة قراءتها والنقل عنها.
على أي حال يبدو أن هذه الثقوب ستكون موجودة هنالك لوقت طويل وإذا لم نتحرك لردمها فإن علينا أن لا نلوم من يقوم بذلك لغرض في نفسه أو فسحة في خياله.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
مع اطلاعي البسيط علي تاريخ السودان المعاصر،لكن المهديه كانت تمثل حركه اجتماعيه ،دينه و سياسيه مهمه وهي من صنعت النواه لدوله السودان الحديثه.المهدي زرع التمرد علي التوغل الاجنبي بالسودان والأضرار بمصالح المدنين بالسودان.فقدر يخلق تحالفات قبليه استطاع فبها الهيمنية علي اراضي واسعه علي ارض وادي النيل.وقدر يهدد مصالح الانجليز و الاتراك واامصربن الأثيوبين و يزر ع نواه حكومه دينه وديموقراطيه شعبيه ،شكلت مركز قوه بالقاره الافريقيه وحوض وادي النيل.ويبقى التاريخ هو سلسله من الاحداث المتكرره،المتحركه واكبر محرك للحاضر والمستقبل