أصلا، الجنيه السوداني لا يجيد السباحة، ومع ذلك تجبره الحكومة ليعوم في بحار التضخم، فيغرق ولا يجد ما، أو من، ينتشله! والنتيجة دائما، عجز محمد أحمد المسكين، الإسم الرمز لعامة السودانيين البسطاء والكادحين، عن توفير الأكل والشرب والدواء، وعن تغطية تكاليف تعليم الأبناء، إضافة إلى تفاقم حدة الصراعات الإجتماعية وتمظهرها في خرق ثوابت الوطن، التي ظل السودانيون يحافظون عليها طويلا، وفي الصراعات الجهوية والإثنية والقبلية، وصراعات الهامش والمركز. أما الطفيلية التي فرخها النظام، فلن يصيبها أي شر أو ضرر من غرق الجنيه، فهي، وعبر تمكنها الإقتصادي والسياسي، تسيطر على جهاز الدولة، وتتمتع بكل مميزاته، كما أنها تدربت جيدا على نهش لحم المواطن البسيط حتى تحافظ على تخمتها، بينما المستثمرون، سيتكالبون أو يفرون، حسب درجة إنتمائهم القيمي. إنه فشل النظام في إدارة السياسة والإقتصاد. فخزينة البلاد سخية جدا مع جيوب الخلصاء داخل وخارج جهاز الدولة، وآلة الحرب الجهنمية وأجهزة حماية النظام، تبتلع معظم، إن لم يكن كل، الموارد المتاحة، ويُتهم النظام بالسعي لحماية الفاسدين والمفسدين، وتمييع قضايا الفساد، وإخفاء معالمها، وفق شعار لا شيء يعلو فوق صوت المعركة!، رغم أن قصص الفساد طالت حتى أدوات المعارك الحربية! ونتيجة لهذا الوضع، يسود الغليان أوساط الجماهير، والتي إتجهت للاحتجاج المباشر، السلمي دائما، عبر الإضراب والتظاهر والعصيان المدني كما في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر الماضيين، والعنيف أحيانا، كما في حوادث حرق ديوان الضرائب وديوان الزكاة ومنازل قيادات الحزب الحاكم في بعض المناطق. فعلا، الوضع الاقتصادي في البلاد كارثي ويؤشر إلى انهيار كامل آت، وكأنه، أي الوضع الاقتصادي، قرر تولي مسألة التغيير بنفسه بعد أن سئم من «لكلكات» الساسة المعارضين.
في ذات مرة قالت الحكومة أن العلاج يبدأ برفع الدعم عن البترول، وهي تعلم أن ذلك يعني مضاعفة أسعاره وأسعار السلع الأخرى، فكلها ترتبط بالبترول والمحروقات. لكن خبراء الإقتصاد يؤكدون أن البترول أصلا لم يكن في يوم من الأيام مدعوما، وأنه ظل يشكل ريعا ثابتا ومحترما، صحيح ضعف نتيجة التوتر مع دولة جنوب السودان. وفي مرات أخرى عديدة، تعزو الحكومة فشل الإقتصاد إلى العقوبات الإقتصادية الأمريكية المفروضة عليها منذ 1997. صحيح، كما يقول الخبراء، تمثل العقوبات أحد الأسباب الهامة في تدهور ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﻴﺸﻴﺔ في السودان، ﺣﻴﺚ ﺳﺎﻫﻤﺖ، ﻭﺑﺼﻮﺭﺓ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ، في رفع
ﺗﻜﻠﻔﺔ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ ﻭإرتفاع الأسعار. ﻟﻜﻦ، وحسب الخبير الإقتصادي، د.التجاني الطيب، ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻄﺄ ﺟﻌﻞ ﺍلعقوبات الأمريكية ﺷﻤﺎﻋﺔ ﻳﻌﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﺸﻞ ﺳﻴﺎﺳﺎﺕ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﺎﻟﻴﺔ، ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺍﻷﺧﻄﺎء ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ، ﻷﻥ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺎﺕ والأخطاء ﺩﻭﺭﺍ ﺃﺳﺎﺳﻴﺎ ﻓﻲ ﺗﺄﺯﻡ ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﺣﺎﻟﻴﺎ. فأصلا الاقتصاد السوداني متأزم، وأزدادت حالته سوءا منذ الأزمة المالية العالمية. وينعكس ذلك ﻓﻲ ﻋﺪﻡ ﺍﻟﺘﻮﺍﺯﻥ ﺑﻴﻦ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ ﻭﺍﻻﺳﺘﻬﻼﻙ ﻓﻲ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩ ﺍﻟﻜﻠﻲ بسبب: 1- ﺍﻟﺘﻮﺳﻊ ﺍﻟﻤﺴﺘﻤﺮ ﻓﻲ ﺍﻹﻧﻔﺎﻕ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﻲ ﺍﻟﺘﺸﻐﻴﻠﻲ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺪﺍﻋﻢ ﻟﻠﻨﻤﻮ، وﺍﻟﺬﻱ ﺯﺍﺩ ﺑﺄﻛﺜﺮ ﻣﻦ ٪100 بعد ذهاب ﺍﻟﺠﻨﻮﺏ في 2011، ومعه ٪75 ﻣﻦ ﺇﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻨﻔﻂ، ﻭﺍﻟﺼﺮﻑ المتزايد ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﻤﻮﺍﺯﻧﺔ ﻋﻠﻰ الحرب الأهلية في البلاد. 2- تدهور الإنتاج المحلي نتيجة التراجع المستمر في أداء الزراعة، بشقيها النباتي والحيواني، والصناعة، ﻣﻤﺎ ﺯﺍﺩ ﻣﻦ حجم ﺍﻻﺳﺘﻴﺮﺍﺩ، ﺧﺎﺻﺔ ﺍﻟﻐﺬﺍء، ﻭﻗﻠص ﻣﻦ ﺣﺠﻢ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭﺍﺕ، وضاعف ﺍﻟﻄﻠﺐ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻷﺟﻨﺒﻲ، ﻣﻊ ﻣﻼﺣﻈﺔ ﺃﻥ ﻋﺎﺋﺪ ﺻﺎﺩﺭﺍﺕ ﺍﻟﺬﻫﺐ ﻻ ﻳﺘﻌﺪﻯ 1.2 ﻣﻠﻴﺎﺭ ﺩﻭﻻﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ. والنتيجة إرتفاع ﻋﺠﺰ ﺍﻟﻤﻴﺰﺍﻥ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﻱ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﻤﺌﺔ ﻣﻠﻴﻮﻥ ﺩﻭﻻﺭ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ 2011، ﺇﻟﻰ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﻣﻠﻴﺎﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ 2016.
ويشير د. التجاني الطيب إلى أن ﺍﻟﺮﻓﻊ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ ﻟﻠﻌﻘﻮﺑﺎﺕ الأمريكية، من الممكن أن يساهم في رفع إنتاج وإنتاجية القطاع الزراعي، حيث من المتوقع ﺍﻧﺴﻴﺎﺏ ﻭﺍﺭﺩﺍﺕ ﺍﻟﻤﺪﺧﻼﺕ ﺍﻟﺰﺭﺍﻋﻴﺔ، ﻣﻤﺎ ﺳﻴﻨﺘﺞ ﻋﻨﻪ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭﺍﺕ ﻭﻋﺎﺋﺪﻫﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻤﻼﺕ ﺍﻟﺼﻌﺒﺔ ﺑﻌﺪ ﺧﻔﺾ ﺗﻜﻠﻔﺔ ﺍﻹﻧﺘﺎﺝ، ﺷﺮﻳﻄﺔ ﺃﻥ ﺗﺘﺒﻨﻰ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﺔ ﺗﺪﺍﺑﻴﺮ ﻭﺳﻴﺎﺳﺎﺕ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺗﻌﺰﺯ ﺍﻟﺘﻨﺎﻓﺴﻴﺔ ﻭﺍﻹﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻤﺤﻠﻲ. ﻟﻜﻦ، وﺑﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻮﺍﺭﺩ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻳﺔ ﻹﻧﻌﺎﺵ ﺍﻟﻘﻄﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﺘﺠﺔ ﺗﺴﺘﻐﺮﻕ ﻭﻗﺘﺎ ﻟﺘﻮﻓﻴﺮﻫﺎ ﻭﺗﻨﻔﻴﺬﻫﺎ، ﻓﻤﻦ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺘﻮﻗﻊ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻣﻦ ﺭﻓﻊ ﺍﻟﻌﻘﻮﺑﺎﺕ ﻓﻲ ﺗﻮﺳﻴﻊ ﻗﺎﻋﺪﺗﻪ ﺍﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﻭﺯﻳﺎﺩﺓ ﺣﺠﻢ ﺻﺎﺩﺭﺍﺗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﻯ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮ. وبسبب التعطش للواردات الأمريكية، خاصة من جانب القطاع الخاص السوداني، فإن أمريكا هي المستفيد الأول من رفع العقوبات ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﺣﻠﺔ ﺍﻷﻭﻟﻴﺔ، ﻣﻤﺎ يعني ﺍﺗﺴﺎﻉ ﻋﺠﺰ ﺍﻟﻤﻴﺰﺍﻥ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﻱ، ﻭﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ إرتفاع ﺍﻟﻀﻐﻂ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﻮﺍﻕ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﺍﻷﺟﻨﺒﻲ، ﻭمن ثم ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻭﺗﻴﺮﺓ ﺗﺮﺍﺟﻊ ﺍﻟﺠﻨﻴﻪ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﺪﻭﻻﺭ.
وحتى لو رفعت العقوبات كليا، فإن الإقتصاد السوداني لن يسترد عافيته إلا إذا نفذت، وبصورة عاجلة وفورية، عدد من التدابير الهامة، في مقدمتها:1- وقف الحرب الأهلية وتحويل كل ميزانيتها للتنمية.
2- لجم الفساد وإستعادة أموال ومؤسسات الدولة المنهوبة.3- إلغاء كل القوانين المعوقة للإنتاج.4- تقليص الصرف الضخم على أجهزة الدولة، خاصة الأجهزة الأمنية والعسكرية.5- الإتفاق، عبر مؤتمر إقتصادي قومي، على ﺭﺅﻳﺔ قومية ﻭﺍﺿﺤﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﻟﻢ لصياغة ﺣﺰﻣﺔ ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻹجراءات ﻹﺻﻼﺡ ﻭﺗﺤﻘﻴﻖ ﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺎﺕ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺎﻟﻴﺔ ﻋﻠﻰ المدى القصير والمتوسط والطويل، وفق جدول ﺯﻣﻨﻲ ﻳﺮﺍﻋﻲ التدرج ﻓﻲ ﺗﻨﻔﻴﺬ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺎﺕ.
لكن، الشرط الأول لإنقاذ الاقتصاد السوداني، يكمن في السياسة وليس في السياسات الاقتصادية أو في رفع العقوبات الأمريكية. فالعلاج السياسي هو المدخل الوحيد، ويبدأ بتفكيك دولة الحزب الواحد وفصلها عن الحزب، وتحقيق التحول الديمقراطي، واسترجاع المال العام ومحاكمة كل الذين أفسدوا وأجرموا في حق الشعب والوطن، وإعادة بناء مؤسسات الدولة التي ترسِّخ الديمقراطية وتحميها وتعلي قيم المحاسبة والشفافية والحكم الراشد، وإطلاق حرية المجتمع المدني، والتوافق والإجماع على برنامج قومي لإعادة بناء الوطن بمشاركة كل أبنائه، غض النظر عن منطلقاتهم السياسية والثقافية والدينية، وغض النظر عن إنتماءاتهم العرقية والإثنية.
٭ كاتب سوداني
د. الشفيع خضر سعيد