لم نستطع استئجار البيت في أطراف إحدى ضواحي أورفا التركية، رغم انخفاض أجره الشهري، بالمقارنة مع المواقع الأخرى، لأن خدمات شبكة الانترنت الرخيصة (أ- د- اس-ل) لا تصل اليه؛ لم تشفع للشقة اطلالــتها ولا موقـــعها، لقد أجمـــع أفراد العائلة وبصوت واحد: لا نستطيع العيش بلا انترنت.
هذا هو حال السوريين، أينما كانوا، سواء أكانوا محاصرين داخل البلاد، أو داخل أحيائهم وبيوتهم، أو نازحين إلى مدن أخرى داخل البلاد، أو لاجئين مثلنا في دول الجوار، الجميع يحتاج الانترنت، وبالنسبة للجميع أيضاً، الانترنت هو حاجة ماسة، قد يأتي ترتيبها بعد لقمة الخبز.
احتل الانترنت حيزاً واسعاً من حياة السوريين، وشغل اهتماماتهم، وصار باعة خدمة النت في الأماكن المحررة، أكثر من باعة البسطات، ومن الباعة الجوالين الذين يحتلون مختلف الأحياء والشوارع، وحتى في القرى النائية في شتى أنحاء البلاد، المتعطشة لخبر جديد عن عزيز غائب، أو ابن معتقل، أو فتاة غيبها الخوف من الاختطاف، أو الاختطاف نفسه، على أيدي الذئاب التي استحلى الجميع سلوكها في انتقاماتهم المتبادلة.
تشتت العائلات السورية، فجزء منها في مناطق سيطرة النظام، وجزء في المناطق المحررة، وأجزاء في الأردن، أو لبنان أو العراق، أو تركيا، وأجزاء أخرى أسعد حظاً، وصلوا الى أوروبا، أو إلى بعض دول الخليج، التي أحكمت إغلاق أبوابها بوجه السوريين إلى درجة القطيعة القاسية.
لقد كان للانترنت دور كبير في اشعال الثورة السورية، وفي تحشيد السوريين وسرعة الاستجابة والتواصل والتضامن بينهم، الذين كانوا ينتظرون منذ عقود طويلة هذه اللحظة التاريخية الفاصلة.
واستخدم السوريون الانترنت، بكفاءة عالية، تجاوزت قدرات النظام في السيطرة والاختراق والمراقبة التي أضحت تثير السخرية، حتى لدى صغار المستخدمين لشبكات التواصل الاجتماعي؛ واليوم يستخدم السوريون الانترنت، لترويج مواقفهم التي يستطيعون التعبير عنها، حسب ظروف وجودهم وانواع حصارهم، كما يستخدمون الانترنت، للتواصل بين الكتل المعارضة والكتل المؤيدة، كأن يتنكر المؤيدون بأسماء مستعارة، وخلف صور خادعة، للتجسس على مناقشات المعارضين واتهاماتهم، والأخبار المتداولة بينهم، واستكشاف نواياهم واصطياد النوادر المطمئنة للمؤيدين والشبيحة، الذين صاروا في حال شديد القلق، وأصبحت الثقة مزعزعة كثيراً بينهم، وبات النصر ينأى عنهم، يوماً بعد يوم في هذه الحرب التي لا تنتهي.
ويفعل المعارضون ذات الأفعال، وبأساليب مختلفة، ليجرجروا صوراً للشبيحة في حالة يأس، أو ليكشفوا أسماءهم الحقيقية، أو ليؤكدوا وفاة أحد عناصرهم أو أحد قادتهم، عبر الدخول الى منتديات النقاش وتبادل الأفكار، وأسماء الضحايا وظروف مقتلهم، وصور جنازاتهم التي تعتبر من وسائل الاثبات، التي تدحض تنكّر إعلام النظام لخسائره الكبيرة.
أصبحت صفحات الانترنت، هي البديل عن قاعات الفرح التي كانت تجمع السوريين في مناسباتهم السعيدة، وهي البديل عن قاعات، وصالات العزاء، التي تعج بعبارات المواساة في الوفاة، وفي الاختطاف، وفي الاعتقال، إذ تجد أسماء الأصحاب والأحباب، متتالية فوق بعضها بعضا، تردد عبارات الحزن، والدعوة للاتكال على الله، والتجمل بالصبر الذي أصبح ثقيلا على كواهل السوريين. وتغص شبكات الانترنت، بعد كل قصف على حارة، أو على شارع في أنحاء سورية، بسيل من جمل التطمين، وألوف الحمد لله على السلامة، إذا كان سكان المنزل أو الشارع، قد خرجوا سالمين من قذيفة المدفع أو قذيفة الهاون أو من تحت البرميل المتفجر أو الصاروخ أو من قصف الطيران المنقض على المكان.
السوريون المكتئبون، الذين غادروا بيوتهم وأحبتهم، ليس لديهم غير الانترنت؛ والمرضى والجرحى ضحايا القصف، ليس لديهم تسلية، إلا الانترنت يتواصلون عبره مع الآخرين، الذين تفرقت بهم السبل؛ والمراهقون والشباب تحولوا الى تماثيل جامدة أمام شاشات الاجهزة المختلفة، في البيوت والأحياء المحاصرة، وفي المخيمات أو في مواقع النزوح، ولا تند عنهم إلا ضحكات متباعدة، مفاجئة وغريبة، وغالباً ما ينتهي وضعهم الغامض والشبحي، بالاختفاء، لدى احدى الجماعات المسلحة، أو في أحد طرق الفرار خارج البلاد، أو في سفن الانتحار الجماعي، عبر البحر الأسود المتوسط، للبحث عن ملاذ آمن، من الموت المقيم في البلاد.
لقد جعل الانترنت جزءاً كبيراً من السوريين، في حالة وجود افتراضي، وليس وجوداً واقعياً، خاصة بعد تجاهل مختلف القوى الدولية لإرادة السوريين، وبعد إزدراء الجهات المتطرفة لوطنية السوريين، واعتبارها مجرد عقبة بوجه قيام دولة الإسلام المزعومة، التي تتعمد وأد الناس في صفحات التاريخ، في ادعاء لإعادتهم الى القرن الهجري الأول.
أخيرا.. وعندما أومضت الأضواء الصفراء للراوتر، والتقط أفراد عائلتي الصغيرة شارة (الواي فاي)… صفقنا جميعاً وهتفنا فرحين مستبشرين بهذه الامواج الالكترونية الحبيبة، التي ستصلنا بأهلنا، الذين ما يزالون في الوطن، وبأصدقائنا وأقاربنا، الذين تفرقوا في مختلف البلدان والقارات… كانت لحظة فرح حقيقية، بددت غضبي من رفضهـــم البيت السابق الذي أعجبني كثيراً.
بينت لي هذه اللحظة العائلية السعيدة، أن الشعب السوري، سيبقى أكثر تمسكاً بالانترنت، حتى بعد انتهاء هذه الحرب، ليس فقط للحفاظ على تماسكه الأسري والوطني كما يفعل اليوم، وإنما أيضاً، بسبب حبه للعلم وللتكنولوجيا الحديثة، ولحاجته الماسة اليها، من أجل بناء سورية جديدة وراســـــخة، تنافس الدول الأخرى في تكنولوجيا الانترنت وتطبيقاته، ولثقته بقدراته واستعداداته المبدعة… فليس من الصدفة أن يكون ستيف جوبز مبدع «آبل ماكنتوش» من أصول سورية، وليس من الصدفة أيضاً، تعاملهم مع أرقى البرمجيات، رغم ظروفهم القاهرة، وقدرتهم على تجاوز صعوباتها ببراعة، واستخدامهم هذه التكنولوجيا للملمة شتاتهم، ومداواة جراحهم، التي لا بد لها من الشفاء… الشفاء العاجل، إن شاء الله.
٭ كاتب سوري
إبراهيم العلوش