السياسة الخارجية التركية من الإيديولوجيا إلى الواقعية

حجم الخط
0

في الوقت الذي كانت الحكومة التركية تحتفل فيه بالاختراقات الدبلوماسية على جبهتي إسرائيل وروسيا، ويفتح رئيس الوزراء بنالي يلدرم نافذة ودية على القاهرة، جاء الاعتداء الإرهابي على مطار أتاتورك الدولي في اسطنبول الذي أودى بحياة 41 شخصاً، حتى كتابة هذه السطور، إضافة إلى 239 جريحاً. نفذ الهجوم ثلاثة أشخاص، تشير التحقيقات الأولية إلى صلتهم بتنظيم الدولة الإسلامية، قاموا بتفجير عبوات كانوا يحملونها على أجسادهم، بعدما أطلقوا النار، بشكل عشوائي، على الموجودين في المطار، بواسطة بنادق رشاشة كانت بحوزتهم. ويعتقد أن القتلة الثلاثة لقوا حتفهم في التفجيرات.
هو اعتداء إرهابي جديد يقوم داعش بتنفيذه في أماكن بعيدة عن مناطق سيطرته في سوريا والعراق حيث أقام دولته الإسلامية قبل سنتين تماماً. ويمكن إدراجه في سياق متصل مع اعتداءات باريس وبروكسل وأنقرة وجبلة وطرطوس وبلدة القاع اللبنانية. وقد يشكل الاعتداء الجديد على مطار أتاتورك نقطة تحول كبيرة نحو انخراط تركي أكثر فعالية في الحرب الدولية على داعش.
هذا ما كان يصطدم قبل حين، أي منذ إسقاط طائرة السوخوي الروسية، بفيتو روسي متشدد (أو الأصح بحظر طيران روسي) منع المشاركة التركية في الحرب على داعش في إطار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
رسالة أردوغان إلى بوتين التي عبر فيها عن أسفه لمقتل الطيارين الروسيين، أرسلت إلى موسكو في 24 حزيران/يونيو الجاري، ولم يعلن عنها الكرملين إلا بعد ثلاثة أيام، بالتزامن مع وصول المفاوضات التركية – الإسرائيلية إلى اتفاق كامل على تطبيع العلاقات بين البلدين. وكأن الأمر يتعلق بـ»سلة واحدة» كما يقال. أنقرة التي نفت، في أول الأمر، استعدادها لتقديم تعويضات إلى موسكو لأن الأمر يختلف عن سياق الاعتذار الإسرائيلي من أنقرة، عادت وأبدت مرونة بشأن «تعويضات شخصية» يمكن أن تقدمها، إذا طالبت عائلتا الطيارين الروسيين بها.
والآن جاء الدور على فتح صفحة جديدة مع مصر. فقد رحبت الخارجية المصرية بالإشارات الودية التي أطلقها رئيس الوزراء التركي بهذا الخصوص. الأمر الذي يعني انقلاباً كاملاً على حقبة عدائية صريحة بين قيادتي البلدين، منذ الانقلاب العسكري على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي في مطلع تموز/يوليو 2013، أي قبل ثلاث سنوات بالتمام والكمال.
في حالتي إسرائيل ومصر، يبدو التغيير التركي انقلاباً كاملاً على الإيديولوجيا، لمصلحة مقاربة براغماتية تأخذ بنظر الاعتبار انقلاب الأوضاع رأساً على عقب خلال السنوات الثلاث الماضية. فأين رئيس الوزراء -آنذاك- رجب طيب أردوغان الذي قال للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريس، في منتدى دافوس، إن إسرائيل تجيد قتل الأطفال الفلسطينيين، ليحصد شعبيةً في الشارع العربي، شبهها البعض بشعبية جمال عبد الناصر، من رئيس الجمهورية أردوغان الذي تخلى، أخيراً، عن شرطه العنيد المتمثل برفع الحصار الإسرائيلي عن غزة، أو الذي وجه رسالة «الأسف» إلى قيصر روسيا المتفرعن فلاديمير بوتين؟
أما إزاء انقلاب عبد الفتاح السيسي، فقد سيَّر أردوغان جماهير حزبه في ساحات المدن التركية، طوال أشهر، تنديداً بالانقلاب على الرئيس الإخواني الذي أطيح به، وخاطب جمهوره الموالي رافعاً يده بشارة رابعة، في تضامن إخواني صريح سينعكس، في الأشهر والسنوات اللاحقة، في إجراءات وسجالات داخلية تركية أيضاً. أردوغان الذي نصح «إخوانه» المصريين، أثناء زيارته إلى القاهرة، بإدراج علمانية الدولة في الدستور المصري، سيخرج رئيس برلمانه الذي ينتمي إلى حزب العدالة والتنمية بدعوى غريبة، قبل أسابيع، لإلغاء كلمة العلمانية من الدستور التركي! ولن تمضي فترة طويلة على هذه الفضيحة، بمقاييس تركيا العلمانية اليعقوبية، حتى يبدأ الغزل مع مصر السيسي.
أحدث تقارير الاستخبارات القومية التركية تحدث عن زيارات عدة قام بها قياديون في حزب العمال الكردستاني إلى القاهرة، التقوا خلالها بقادة أجهزة الاستخبارات المصرية. وذكر التقرير عن استعداد مصري لتزويد العمال الكردستاني بالسلاح، وانفتاح الحكومة المصرية على فكرة افتتاح ممثلية سياسية للحزب الكردستاني في القاهرة. قد تكون هذه التقارير الاستخبارية مما عجل بإطلاق رئيس الوزراء التركي يلدرم إشاراته الإيجابية إلى الحكم المصري. وإن كانت السعودية تعمل، منذ حين، على صيغة للمصالحة بين أردوغان والسيسي، بعيداً عن الأضواء، من شأنها تطبيع العلاقات بين البلدين.
ويمكن القول إن الرائز الأساسي في هذه التحولات الانقلابية في السياسة الخارجية التركية إنما هو عودة الاحتراب بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني منذ الصيف الماضي، ولا يبدو في الأفق أن هذه الحرب يمكن أن تقف عند حد معين. وبالترابط مع هذه الحرب التي اندلعت بعد سنوات من «عملية السلام» بين الجانبين، أعلنت الحكومة التركية حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) مجموعةً إرهابية مستهدفة مثلها مثل حزب العمال الكردستاني. خيبة أردوغان الكبرى هي أن حليفتها الأطلسية ـ الولايات المتحدة – لم تكتفِ بإعلان اختلافها مع أنقرة بشأن الفرع السوري للكردستاني، بل أصبح مقاتلو هذا الحزب الحليف الموثوق لواشنطن في حربها على داعش، منذ معركة كوباني (أيلول/سبتمبر 2014 ـ كانون الثاني/يناير 2015)، تزوده بالسلاح وتتعاطى مع قيادته سياسياً، ويقوم مسؤولون أمريكيون كبار بزيارة كوباني للتنسيق مع الحزب الكردي في المعارك ضد مواقع داعش في الشمال السوري.
ماذا بعد إسرائيل وروسيا ومصر (وقبلها جميعاً الإمارات العربية المتحدة) في مسلسل الانقلاب على سياسة تدخلية فعالة في بلدان الربيع العربي، انتهجتها القيادة التركية طوال سنوات؟
يقال: النظام السوري. تتحدث التسريبات عن نقطة توافق واحدة من شأنها أن تشكل حافزاً مشتركاً للانتقال من حالة العداء الشديد إلى حالة جديدة لا يمكن الآن وصفها بدقة. هذه النقطة هي توجس الطرفين من الحالة الكردية في الشمال التي تنذر بإقامة كيان شبه مستقل يدعمه الأمريكيون ولا يعترض عليه الروس الذين سمحوا بافتتاح ممثلية لحزب الاتحاد الديمقراطي في موسكو قبل أشهر.
المفارقة في إعادة رسم السياسة الخارجية التركية مع دول الجوار هي في أن العنوان الذي وضعه لها رئيس الوزراء الجديد بن علي يلدرم «زيادة عدد الأصدقاء وتقليل عدد الأعداء» ليس سوى صيغة محورة قليلاً عما سمي بسياسة «تصفير المشكلات مع دول الجوار» لصاحبها رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو. ففي عهد هذا الأخير انقلبت علاقات تركيا مع كل الدول المجاورة إلى علاقات عداء. واليوم، لسخرية الأقدار، يأتي يلدرم الذي عيَّنه أردوغان بعد الإطاحة بداوود أوغلو، ليمضي في الطريق الذي رسمه «الخوجة» قبل اندلاع الربيع العربي.

السياسة الخارجية التركية من الإيديولوجيا إلى الواقعية

بكر صدقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية