قال ملك الهند للإسكندر وقد دخل بلاده: ما علامة دوام الملك؟ قال: الجدّ في كلّ الأمور. قال: فما علامة زواله؟ قال: الهزل فيه.
لقد انتهت الحرب الباردة وأصبحت الرأسمالية وأيديولوجيا الليبرالية الجديدة سمة العصر، ولكن العالم بعد نهاية الحرب الباردة صار عالما يتنازعه تعدّد الحضارات وهو ما يأسف عليه منظّرو اليمين الأمريكي إلى درجة أنّ صموئيل هنتنغتون يبرّر مثل هذا التحوّل «بأنّ الغرب كفّ عن الهيمنة على العالم منذ نهاية الحقبة الامبريالية الاستعمارية وفشل في جعل حضارته العظيمة نموذجا حضاريا كونيا».
ويدرك الغرب بشقّيه الأوروبي والأمريكي أنّ تدخّلهم السّافر في المنطقة يمنع إقامة الحكم الديمقراطي الذي لا يخدم مصالحهم، ولذلك فهم يعملون على أن تبقى الدول العربية تحت سلطة طغاة فاسدين، وعليه فإنّ هدف السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية تحديدا ولأوروبا المنضوية تحت إمرتها يجب أن يكون، حسب برنارد لويس، ضمان أن يكونوا طغاة أصدقاء وليس معادين.
إنّه حينئذ الفهم المساعد على أنّ مضار مشروع الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية قد أثّرت تأثيرا بليغا في بنية الفكر العربي والاسلامي وجعلته نسيجا مهزوما يستسلم لحاضره السلبي، ولا يدرك عظمة حضارته، أو يعمل جاهدا صوب بناء الاستئناف الحضاري المرجوّ فكريا وعلميا، في الوقت الذي تتزايد فيه أشكال الصراع حول المصالح الجيوسياسية وتتداخل شرقا وغربا، والكلّ يعمل على خلق لوبيات ضاغطة في مراكز القرار الاقتصادي والسياسي خدمة لمآربه وتفعيلا لأجنداته ضمن معطى براغماتي ساهم في تعميق حالة التبعية للغرب، باحتواء مباشر للدول العربية والاسلامية مع تفاقم ظاهرة العولمة وأيديولوجيا الليبرالية الجديدة التي عمّقت بدورها التفاوت بين دول الشمال والجنوب، وأنتجت أزمات اقتصادية متلاحقة لتستمرّ إثر ذلك جماعات الرفض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الجماعات المنظمة والفوضوية والأقليات العرقية والطائفية، وتستمرّ الثقافات المضادّة في عصر العولمة في تظاهرات اتسعت حركة احتجاجها لتشمل دولا أوروبية بين فترة وأخرى، رافضة البون الشاسع بين الأغنياء والفقراء وتحكُّم البرجوازية وأصحاب الأموال في مصير المجتمعات والشعوب.
ويحدث كل ذلك والمنظمات الاممية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة وهياكلها التابعة لم تتخلّص بعد من استغلال الدول المارقة لها، فهي إلى عهد قريب أجازت العدوان الدولي غير الشرعي ووقع استخدامها منذ قيامها للسيطرة على دول العالم ومقدّراتها ما عدا الولايات المتحدة وبريطانيا وشركاء التحالف اضافة إلى اسرائيل طبعا، وهي بذلك تنحرف عن مسارها وتتخلّى عن وظيفتها الرئيسية التي أنشئت من أجلها وهي تجنّب قيام حرب عالمية أخرى وكبح جماح الدول المولعة بالحروب.
ولكن مثل هذه الهيئات الدولية أصبحت تشكّل اليوم خطرا حقيقيا على الدول الصغيرة مهما حاولت أن تخفي ذلك من خلال بعض الأعمال الخيرية، فالأمم المتحدة تعدّ السلاح الرسمي للولايات المتحدة وبريطانيا، وهما يستخدمانها لتشريع المغامرات غير القانونية ولتغطية المعاملة الشيطانية للمعتقلين و«أبو غريب وغوانتنامو» وثيقتان تاريخيتان مخجلتان في هذا الشأن، إضافة إلى استخدام هذه المنظمة الأممية في احتلال الدول ذات السيادة والتعدّي السافر على أراضيها وتحطيم مؤسساتها وتخريب بنيتها التحتية وإن كانت عضوا في مثل هذه المنظمات، ولا يهمّ إن عادت العراق أو ليبيا أو سوريا أو غيرها من الدول التي طالها العدوان بأشـــكاله المباشرة أو المـــوكــولة آلاف الــسـنين إلى الـــوراء، فالأهمّ حمـــاية الدول الاستراتيجية الصديقة وفي مقدّمتها اسرائيل الكيان الوظيفي في الشرق الأوسط.
وينشأ عن ذلك كلّه أنّه حان الوقت للتعامل مع هذا الواقع المقرف وتحسيس مثل هذه المنظمات الدولية ضرورة أن تعيد تعريف نفسها وتضبط أهدافها لأنّها أصبحت في وضع لا تحسد عليه، اختلّت قوانينها وسُلبت إرادتها، وتقلّصت أرصدتها الأخلاقية والإنسانية وفقدت مصداقيتها. فالأمم المتحدة تعدّ «أقلّ تنظيما من ناد إنكليزي لكرة القدم» باستعارة تعبير طريف لآرشي أوغسطين.
فلا مهرب والحال كذلك من امتلاك رؤية استراتيجية تكون نتاج عقلية جديدة غير مستعدّة أن تخضع للعهر السياسي والاقتصادي وسيلة للبقاء أو المنفعة المادّية، كما هو شأن الديكتاتورية العربية التي عزّزت القطرية على حساب أي مشاريع وحدوية أو تكاملية، وإذا واصلت الحكومات القائمة الآن المسار نفسه فسوف يستمرّ تذلّلها وعبوديتها للزّعماء الدّائمين للأمم المتحدة ولن تكرّر سوى المأساة لأوطانها وشعوبها التي تستحقّ حياة أفضل.
٭ كاتب تونسي
لطفي العبيدي