الشائع قولا، قومية الجيش والشرطة وأن لا علاقة لهما بالسياسة. أعتقد، هذه المقولة غير دقيقة ولا تعكس الواقع، خاصة في بلداننا، حيث في نفس الوقت الذي يحدثنا فيه معظم السياسيين عن ضرورة إبعاد القوات النظامية عن السياسة، تجدهم إما يغازلون هذه القوات، تقية، أو يبنون سرا تنظيماتهم الحزبية داخلها. وكل له فلسفته التبريرية، القائمة على قناعته الخاصة بأحقيته هو بالوطن أكثر من الآخر. والتاريخ السياسي، القديم والمعاصر، لأنظمة الحكم في أغلبية بلدان المنطقة يؤكد العلاقة الوثقى بين هذه الأنظمة وجيوش بلدانها.
الجيش السوداني بدأ مشواره عقب الاستقلال كبوتقة قومية تنصهر فيها كل المكونات الاثنية والقبلية للسودان. وكانت قيادة الجيش تطلب دوريا من زعماء القبائل تجنيد عدد من شباب القبيلة للجندية، مراعية لتوازن دقيق بأن يظل عدد المجندين متساويا بين القبائل المختلفة، وأن تقوم فلسفة التأهيل والتدريب في الجيش على فكرة انصهار الجميع في هذا الوعاء القومي. لكن، في أقل من عامين بعد الاستقلال أصبح الجيش طرفا فاعلا في العملية السياسية. الفريق إبراهيم عبود مارس السياسة وحكم السودان ست سنوات بإسم الجيش السوداني. وإبان ثورة أكتوبر 1964 انحاز الجيش لصالح استرداد الديمقراطية. المشير نميري إستولى على السلطة وحكم البلاد 16 عاما بإسم الجيش السوداني. وبقيادة المشير سوار الذهب، حسم الجيش صراع الشعب مع ديكتاتورية النميري وانحاز إلى الجماهير في انتفاضة أبريل 1985، وأدار الفترة الانتقالية لمدة عام. وبتخطيط وتنفيذ حزب الجبهة الإسلامية القومية استولى المشير البشير على السلطة بإسم الجيش في يونيو 1989، وهو الآن يحكم ويحسم كل الصراعات الداخلية وسط الحزب الحاكم، بإسم المؤسسة العسكرية. وهكذا، ظل الجيش السوداني يمارس السياسة 50 عاما من مجموع سنوات الاستقلال ال 61، منفعلا ومنغمسا، حتى اللحظة، في كل تفاصيل الفعل السياسي في البلد. النص حول قومية وحيدة الجيش لم يمنعه من التورط في انقلابات عسكرية ذات طابع حزبي، تقليدي أو يساري أو إسلامي. وتورط الجيش في الحروب الأهلية، الوجه آخر للصراع السياسي، والتي لا علاقة لها بعدو خارجي أجنبي، وتضع الجنود من أبناء المناطق المشتعلة في حالة تمزق داخلي لا تطاق، عندما يطلب منهم مقاتلة أبناء جلدتهم المتمردين لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية!. أيضا، تورط الجيش، بأمر من الساسة، في قمع الاضطرابات والتظاهرات والاحتجاجات الداخلية. لكن، كل هذا التورط لم يسلب الجيش السوداني وطنيته وديمومة صحو ضميره، فكانت انفعالاته المكللة بالفخر عندما حسم الأمر بإنحيازه للجماهير المنتفضة في أكتوبر 1964 وأبريل 1985.
والشرطة السودانية، طوال تاريخها وحتى مجيء نظام الانقاذ، ظلت، كمؤسسة، مستعصمة بقوميتها وحيادها عن الانتماء الحزبي، رغم احتفاظ كل فرد فيها بموقفه السياسي الخاص وحرصه على التصويت في الانتخابات لهذا الحزب أو ذاك. بل، وحتى في لحظات هياج الفرح العفوي بتسجيل الهدف في مباريات كرة القدم، ظلت الشرطة بعيدة كل البعد عن إظهار انتمائها للهلال أو المريخ وهي تحفظ الأمن في دار الرياضة!. وتاريخ الشرطة السودانية مرصع بجواهر إنحيازها للوطن والمواطن، ويظهر ذلك جليا في المنعطفات التاريخية الكبرى مثل المعارك ضد المستعمر من أجل الاستقلال، وثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985. هل سمعتم بإضراب شرطة السودان عن العمل؟! في عام 1948، رفع رجال البوليس مذكرة للحاكم العام الإنجليزي مطالبين بتحسين أوضاع قوات الشرطة السودانية. وظل الحاكم العام يماطل ويتلكأ في الرد على المطالب، بينما إستمر نضال رجال الشرطة وضغطهم لتحقيق مطالبهم المشروعة. وفي عام 1951م أعيد تشكيل اللجنة التي قدمت المذكرة، وشكلت أخرى سرية للمتابعة وللتصدي للقيادة إذا ما تم الاعتداء على اللجنة الأولى. ترأس العريف شرطة عثمان عبد الرحيم لجنة مركز بوليس الخرطوم، وترأس لجنة مركز بوليس الخرطوم بحري النفر محمد علي فضّال، أما لجنة مركز بوليس إم درمان فترأسها النفر عوض الكريم محمد الحسن. ومع تصاعد الحس السياسي والوطني بالسودان في تلك الفترة، نفذت هذه اللجان إضراب البوليس الشهير في مايو 1951، مصحوبا بمظاهرات رجال البوليس المنادية بالاستقلال وخروج المستعمر من البلاد. أيضا، رفضت الشرطة التصدي للمظاهرات السلمية التي قادها المواطنون ضد المستعمر. وفي معركتهم تلك، وجد رجال البوليس الدعم والمساندة من السياسيين ونقابات العمال، خاصة اتحاد العمّال بالخرطوم الذي فتح لهم داره لكي يعقدوا فيها اجتماعاتهم. ولاحقا تطورت مطالب رجال البوليس ليسمح لهم بتكوين جسم نقابي أو اتحاد للبوليس!.
بعد هذا التاريخ الناصع للشرطة السودانية في قضايا الانحياز للوطن والمواطن، وبعد أن ظل الناس يشهدون لها بالكفاءة المهنية العالية في أداء مهامها المتعلقة بحماية الأمن وبكشف ومنع الجريمة، وبعد أن ترسخت الحقوق المدنية في العالم، وأصبحت الشرطة علما يدرس كيفية حماية وخدمة الشعب، بعد كل هذا، تثار اليوم الملاحظات حول أن الشرطة أصبحت مجرد أداة منقادة تماما لخدمة سياسات الحزب الحاكم، وأنها تستخدم القوة المفرطة والعنف غير المبالي ضد المواطن الأعزل من أي سلاح سوى إيمانه بحقه في التعبير والتظاهر كما فعل رجال البوليس في الخمسينات، وإلى متى يستمر حصاد الرصاص الطائش لأرواح الشباب اليافع؟. هذه الملاحظات، وغيرها، تستوجب التوقف والمراجعة والتقييم. وأعتقد أن شرطة السودان تذخر بالكفاءات الوطنية القادرة فعلا على التصدي بشجاعة لهذا الواجب.
في نظري، السؤال حول قومية الجيش والشرطة والأمن، وعدم خضوعها لإرادة الحزب الحاكم، أيا كان هذا الحزب، تكمن إجابته في بناء دولة الوطن، لا دولة هذا الحزب أو ذاك، دولة القانون والمؤسسات والحكم الراشد، دولة التحول الديمقراطي الكامل، دولة ما بعد الاستقلال الوطنية التي تبنى، أو يعاد بناؤها، على أساس مشروع قومي مجمع عليه، يشارك في صياغته وتنفيذه الجميع، بما فيهم أفراد الجيش والشرطة!.
٭ كاتب سوداني
د. الشفيع خضر سعيد