سننطلق من تلك الحكمة التي تقول بأن الثرثرة إهانة للعقل الذي حرم من التأمل ومتعة الاستماع لنداء الوجود، وللكلمات التي لا لغة لها لأن الخطابات الجدلية قد دمرته، ولم يعد مطمئناً للحقيقة، وبما إن بحثه عن الإنسان الإنساني اعترضته عواصف الخرافة والأسطورة، فإنه فقد الأمل في أن يصبح سيداً على الطبيعة، لأن المستقبل الذي يريده يوجد في التراث، ومن المستحيل على العقل أن يأمل في اختراق غموض المستقبل بدون الشغف بالحقيقة، والعقل العربي محروم من الحقيقة، وهذه إهانة للفكر العلمي.
ولذلك نقترح استثمار تلك الحكمة الرائعة للمدرسة الفيثاغورية، التي تقول يجب على الطالب الذي يلتحق بمدرستنا أن يلتزم الصمت على امتداد أربع سنوات، يمارس خلالها فن التأمل والانتباه من أجل أن يتعلم حكمة الاستماع، حتى لا يكون ثرثاراً، لأن الثرثرة مرض خطير يقتل الحوار، ومن الحكمة أن نجرب هذه الوصفة العلاجية على العالم العربي، حيث نجعله يخضع للصمت، والابتعاد عن الثرثرة للمدة نفسها، وإلا سيظل عبارة عن إناء فارغ، يدعي امتلاكه للحقيقة المطلقة، وهو لم يحقق ذاته بعد في النهضة الفكرية والثورات العلمية.
فهل يستطيع هذا الفضاء الممزق الكينونة أن يصمت كل هذا الزمان؟ وهل يدرك بأن الثرثرة قد مزقت كينونته؟ بل أكثر من هذا، هل بإمكان قلق الصمت أن يبدع فكراً علمياً يقود إلى نهضة عربية؟ وما الذي يجعل ثورة العقل العربي ممكنة؟ هل لأنه يتشوق إلى براديغم الثورات العالمية؟ أم لأن انتظاره قد طال؟
والحال أنه إذا كان الفكر العربي لا يتأمل ما ينتجه من أفكار بواسطة العقل، بل بالوجدان والحماس المشتعل، ولذلك يمكن اعتباره فكراً بدون عقل، فارغ انطولوجيا من أسئلة الحاضر، ولذلك لم يتساءل عن عنف هذا الحاضر الذي يعيش فيه فهل فقد عمقه الأنطولوجي، أم أنه مجرد أوهام بلا هدف ولا حقيقة؟ وهل يستطيع أن يستمر في مسار الوعي التاريخي من أجل تحرير الفكر من إرادة العدمية؟ وكيف يمكن تفسير هذه العلاقة الحميمية بين الفكر والعدمية؟
لا أستطيع أن أرغم هذه الأسئلة على نشر ظلها على هذه المرحلة المضطربة، التي حولت العقل العربي إلى خفاش يخشى ضوء النهار، ولذلك لا يستطيع أن يستقبل ضوء التنوير، هكذا سيجد نفسه مضطراً إلى خوض ثورة التنوير والسعي إلى نشر الحرية والمساواة، بل إلى القيام ببناء براد يضم الثورات العربية.
فالأمل لا يموت، والإرادة لا تنهار، فمن خلالها يمكن تشييد مستقبل هذه الأمة، التي ضحت من أجل الظلم وتنتظر العدالة، لأن كل من بدأ عظيماً، ينبغي أن ينتهي عظيماً، وهذه الأمة جعلت من العقل الفلسفي منطلق نهضتها في لحظة من تاريخها، فكيف تستطيع أن تنقلب عليه؟ وبعبارة أخرى، هل يمكن للأمة أن تنطلق من العقل وتنتهي إلى اللاعقل؟ ولماذا كل هذا الانهيار الفكري؟ وهل يساهم الظلام الثيولوجي في بناء روح الأمة؟
لا أستطيع أن أرغم الميتافيزيقا على الحفر في أعماقها من أجل أن تعود إلى أصلها الفلسفي، لأنها اصطدمت بالتيار الثيولوجي المتشدد، وعادت إلى حكمة الصمت التي نالت من حماس إبن رشد وأرغمته على التشاؤم، لكن الذي أصبح سؤال الأسئلة في عصرنا هذا، لماذا انتقلت ميتافيزيقا الروح من حقل التأمل الفلسفية إلى مجال الخطاب السياسي والأخلاقي؟ هل تتجه نحو هذا الحدث الزائل؟ هل تخلصت من سلطة الأبدية؟ ألا يكون هذا الانهيار للعقل العربي هو الذي أحدث تقياً في كينونة الروح؟ وما قيمة هذه الروح التي فقدت وجودها في الوجود؟ وما قيمة الإنسان بدون وجود وبدون عقل؟ بل ما هي الميتافيزيقا التي تتحكم في طبيعة الإنسان بما هو؟ والحال أن الحاجة إلى المعرفة لم تعد ضرورية فقط، من أجل مواجهة قلق العصر، بل يمكن النظر إليها كتلك الثمرة التي تنتج بذرة العقل: «فالثمرة تنتج البذرة، يكتب هيغل، لأنها تريد أن تنتج نفسها، أن تعود إلى ذاتها، حينما تنطبق النهاية على البداية، تبدأ المعرفة التي تدرك الروح ذاتها، وليست حركة الروح إلا الحدس الأبدي لذاتها»، ذلك أن المفهوم الأنطولوجي للحياة يستمد قوته من مفاهيم أخرى: كالماهية والحرية والذات لأن «الحياة في ذاتها ولذتها هي تلك الكلية المطلقة، فهي أيضاً عين الوجود، وماهيتها جوهر ذاتي».
من أجل حياة الروح، ينبغي الاحتفال بالمعرفة كما في يوم عيد، لأن ما يدوم هو الروح، وبواسطتها يولد العقل العلمي الذي سيبدد أوهام العقل الأسطوري.
فداخل هذا الصراع تنبثق ثورة العقل العربي، التي تسعد إلى نهضة فكرية تجيب عن سؤال فشل نهضة السلفية، التي كانت تراهن على التقدم من خلال العودة إلى التراث، والإقامة الشاعرية فيه، إنها إقامة خارج الوجود والزمان، لأنه «منذ ما يقارب من ثمانية عقود والعرب لا يكفون يتساءلون من نحن ومن الآخر».
ولذلك يجب على كتاب ثورة العقل أن يتساءل: عن معنى هذا الحاضر، وبعبارة أخرى: هل سنختلف اختلافا مطلقاً عن ماضينا؟ ومن سيقوم بفحص هذا السؤال؟ هل بإمكان الفيلسوف أن يقوم بهذه المهمة؟
كانت هذه الرحلة الاستكشافية في أرشيف العقل العربي جميلة وعذبة، ولكنها غامضة ومضطربة، إلى أبعد مدى، لأن تشخيص أعطاب هذا العقل لم تكن سهلة، مادام أنه يحتمي وراء جدران الفكر الأخلاقي والثيولوجي، ولذلك أرغمنا الأسئلة الفلسفية على الحفر الأركيولوجي في تلك الضواحي الأبدية، ذلك أن الفلسفة «تقوم بتشخيص الحاضر وهل يختلف عن الماضي، وهذه هي مهمة الفيلسوف».
ولعل هذا الطبيب هو ما ينقص العالم العربي، ولذلك لا يمكن القيام بثورة العقل العربي في غياب الفكر الفلسفي وبدون السماح لطبيب الحضارة بالقيام بمهمة، فالعقل موجود، ولكن يحتاج إلى المحرك الأول أي العقل الفعال.
كاتب مغربي
عزيز الحدادي