القاهرة ـ «القدس العربي»: تأتي هذه الأيام لتحمل ذكرى الأحداث الأسوأ في تاريخ مصر والعرب عموماً، هزيمة الخامس من يونيو/حزيران عام 1967. ورغم تغيّر الأحوال، والحث على صداقات بالإكراه مع معسكر الأعداء، واختلاق محاولات تناسي ما مضى، إلا أن الأغلبية من الشعب المصري ترفض هذه المصالحات أو الصداقات، خاصة وأن الآخر/ العدو، لم يزل يواصل ويؤكد سياساته ضد الجميع. ورغم أن الأجيال الجديدة توارثت بدورها كُره الصهيونية وسياساتها، إلا أن تفاصيل هزيمة يونيو والمناخ العام الذي صحب هذه الهزيمة يمكن اكتشافه من أفلام تلك الفترة، التي حاولت البحث والتنقيب عن الأسباب ــ رغم التفاوت الفني والتقني ــ والتي اعتبرتها العديد من الأعمال السينمائية أسباباً داخلية تخص السلطة المصرية والدولة البوليسية التي عمل على تأسيسها عبد الناصر ورفاقه من العسكريين، منذ انقلاب حزيران/يوليو 1952 أو محاولة حشد الجماهير المصرية والعربية لمواجهة ما حدث رغم قسوته، بخلاف أصوات أخرى من جيل سينمائي حديث ــ وقتها ــ أظهرت مدى قسوة الواقع وأن هذه الهزيمة كانت حتمية لا محالة، وأن جيل حرب ما أطلق عليه بالاستنزاف هو جيل ضائع ومنسي بالضرورة.
سينما تزييف الوعي
لا يمكن الحديث عن سينما ما بعد الهزيمة، إلا بالتعرّض إلى سينما ما بعد انقلاب تموز/يوليو 1952. حيث اتسمت العلاقة بين السلطة السياسية والسينما في تلك الفترة بالتبعية الشديدة، حتى في الأفلام التي تتظاهر بتقديم نظرة انتقادية للواقع، وهي أفلام أنجزها مخرجون كبار حاولوا التظاهر بوجهة نظر انتقادية، لكن أعمالهم كشفت عن مدى تزييفهم للواقع، ومنهم يوسف شاهين، وصلاح أبو سيف، وبركات، وكمال الشيخ. فكلهم أذعن وسار في فلك السلطة، مُردداً شعاراتها، مُحققاً رغباتها، ومُعبّراً عن سياساتها. ذلك بخلاف الفنانين الضباط أو الضباط الفنانين، أمثال عز الدين ذو الفقار ويوسف السباعي، وملحمتهما الكاريكاتيرية التي أصبحت تثير السخرية الآن «رد قلبي» 1957. ومن هذه الأفلام على سبيل المثال لا الحصر «صراع في الوادي» ليوسف شاهين 1953 و»الفتوة» لصلاح أبو سيف 1957 و»أرض السلام» لكمال الشيخ 1957 و»الحرام» لبركات 1965 و»القاهرة 30» لصلاح أبو سيف 1966. فصلاح أبو سيف في «القاهرة 30» يُعيد تقديم الرواية التي كتبها نجيب محفوظ عام 1945 بإعادة صياغة العديد من أحداثها، وعلى رأسها وضع الحل على يد البطل الاشتراكي، الذي يعلق في حجرته إطاراً خالياً للزعيم الجديد، الذي سوف يأتي، بجوار صور زعماء الحركة الوطنية. وبالتالي تتحول الانتقادية في الرواية إلى جانب كبير من الدعاية للنظام الجديد. ويقوم يوسف شاهين بدوره فيقدم أفلاماً تنتقم من الماضي والعهد البائد «صراع في الوادي» 1957 ويؤسس وينادي بزعامة الفرد، وأنه هو الأمل والخلاص الوحيد من خلال فيلم «الناصر صلاح الدين» 1963 من خلال إسقاط تاريخي لا يخلو من مُغالطات فادحة، عن شخص صلاح الدين، الذي يكاد يُقارب الآلهة ــ وهو ما يُخالف تاريخه الحقيقي ــ تماماً كما كان يريد تصوير زعيمه الوهمي. وبذلك نجد أن سينما تلك الفترة كانت تنتقد الماضي فقط، وتعلّي من شأن العهد الجديد، فانصبت الأعمال على الصراع الطبقي وفساد العهد الملكي، رغم أن المشكلات الأساسية كانت لم تزل ولا تزال قائمة حتى الآن. ومنذ عام 1955 بدأ ظهور ضابط الجيش ممثلاً الضباط الأحرار، كنموذج جديد للبطل السينمائي كفيلم «الله معنا» لأحمد بدرخان، صعد هذا النموذج وتنوعت أشكاله، ليُعبّر عن الفئة الجديدة، التي أصبحت بيدها الأمور. حتى أن إسماعيل ياسين قد شارك هو وفطين عبد الوهاب بمجموعة من الأفلام تدّعم الصورة الجماهيرية للجيش. هذه الصورة التي يتم اللعب عليها الآن في وعي المشاهدين، من خلال تمجيد ضباط الجيش والشرطة، وقد تم اختصار الدولة في هذين الفصيلين فقط، وهو ما يبشر بهزيمة جديدة، والاستعداد للنواح من جديد.
سينما ما بعد الصدمة
حاولت السينما بعد حزيران/يونيو البحث عن أسباب ما حدث، وإن كانت الأفكار التبريرية والتشوّش هي التي تقود الجميع، هؤلاء الذين آمنوا بغيب وأصبحوا يتسولون منطقاً يعصمهم! ولنأخذ فيلم «العصفور» 1972 ليوسف شاهين، فمن خلال حكاية كاتب صحافي (يوسف/صلاح قابيل) يقوم بالتحقيق في السرقات التي تتم في القطاع العام، فالفساد قد أصاب الجميع، خاصة القطاع العام، أحد أهم إنجازات دولة يوليو، وما بين الست بهية (محسنة توفيق) والدلالة المباشرة بدورها، بأنها مُسمى لمصر، والتي بالطبع لابد وأن تحب يوسف، المناضل على طريقته، والباحث عن الحقيقة، تبدو الشخصيات والمحاولات المستمرة لإدانتها، من الشيخ (علي الشريف) إلى الجندي على جبهة القتال (سيف عبد الرحمن) فالجميع ارتضى أن يتقبل الوهم ويعيشه ويتنفسه، الجميع آمن وصدّق، ولم يفعل أكثر من ذلك، فكان لزاما عليه تحمّل النتائج. هنا شاهين يحاول أن يستوعب ما حدث، محاولاً إدانة حالة التخاذل التي أصابت الجميع. ليبدو «العصفور» وهو في قمة انكساره أمام الجميع، هنا لا يغني ولا يتباهى، فقط صوت جريح خافت يخرج على استحياء في مواجهة الشعب المخدوع، وهو ما تمت تسميته بـ (خطاب التنحي) لاحظ أن الفيلم إنتاج 1972 ــ إلا أن الست بهية ومعها جموع الشعب العامل تخرج صارخة في البريّة «هنحارب» جموع الشعب تم استئجار أكثرهم من قِبل أجهزة أمن تلك الفترة ليصبح فيلم العصفور عبارة عن حالة مزمنة من العويل، فلا بداية مفهومة ولا نهاية سوى الصراخ في وجه الجماهير، كمحاولة لحشدها مرّة أخرى، خاصة وقد رحل العصفور إلى الأبد هذه المرّة. لم تكن تجربة شاهين الوحيدة، لكن هناك تجارب أكثر جرأة ووعياً بإدانة نظام يوليو ومسؤوليته عما حدث، أهمها «ميرامار» 1969 لكمال الشيخ «شيء من الخوف» 1969 و»ثرثرة فوق النيل» 1971 لحسين كمال، و»المذنبون» 1975 لسعيد مرزوق.
المنسيون وذكرى الهزيمة
بخلاف العديد من الأفلام التي تناولت الهزيمة، سواء بشكل مباشر سطحي، أو حتى رمزياً وأكثر فنية، يأتي فيلم «أغنية على الممر» 1972 سيناريو مصطفى محرم، عن مسرحية بالاسم نفسه من تأليف علي سالم، والفيلم من إخراج علي عبد الخالق، في أولى تجاربه الإخراجية. الفيلم أداء محمود مرسي، وصلاح قابيل، ومحمود ياسين، وأحمد مرعي، وصلاح السعدني. وبدون صخب أو عويل أو حتى تنظير وعبث أيديولوجي يأتي الجيل الجديد من السينمائيين وقتها، والمتمثل في (جماعة السينما الجديدة) ليعلنها صراحة أن هناك جيلا من الجنود/الشعب سيتحمل النتيجة وحده، ولأنها هزيمة ولابد من نسيانها وتجاوزها، فذلك الجيل نفسه لابد من نسيانه أو تناسيه، كذكرى سيئة، وقد حدث. فقد وجد خمسة جنود مصريين أنفسهم يحرسون ممراً استراتيجياً في جبال سيناء، منعزلين عن باقي الجيش المصري الذي انسحب أو تم تدميره، فلا جهاز لاسلكي يعمل، ولا طائرات مصرية تظهر في الأفق. ورغم سقوطهم الواحد تلو الآخر، ورغم يقينهم باستحالة تجاوز أزمتهم، إلا أنهم يواصلون نضالهم رغم الحصار المزمن والقضاء عليهم. وإن كانت الرؤية قاتمة إلى حدٍ كبير، إلا أنها لم تكن تصدّر وهماً أو تغيّب وعياً. والمفارقة أن الفيلم فشل عند عرضه سينمائياً، خاصة وقد كان يعرض بالتزامن معه الفيلم الجماهيري الشهير «خلي بالك من زوزو» تأليف شاعر يوليو الثوري صلاح جاهين، وإخراج مخرج الروائع حسن الإمام.
11ADA
محمد عبد الرحيم