هناك مدن عربية وغربية، تحمل في دمها وتكوينها دائما صفات معينة، تُعرف بها، أو ترتبط في ذهنية الناس بها، ولا أدري هل ارتباط مدينة الشارقة بالكتاب إحساس عام لدى معظم من يعرفها، أم لديّ وحدي؟ لكنني وبكل تزمت أرى أن الشارقة فعلا إحدى أهم عواصم الثقافة الدائمة، فيها يتنفس الكتاب بحرية، ويجد من يتعرف إليه ويتقرب منه ويرتبط به روحيا. ولذلك دائما ما تجد ازدحاما رائعا على اقتناء سلعة الكتاب، في وقت انعقاد المعرض السنوي، الذي بلغ هذا العام ثلاثا وثلاثين من العمر، ويزداد كل عام شبابا وتألقا.
الكتاب هنا بالفعل، سلعة متداولة بعمق، سلعة متعددة أماكن الصنع، ومتوفرة بشتى المواصفات ولكل الأعمار والأذواق، وأيضا سلعة كلاسيكية بحتة، وسلعة تكنولوجية متطورة، داخل أقراص مدمجة.
وإن كانت معظم معارض الكتب في العالم العربي، تتبع تلك المواصفات الخاصة نفسها بتسويق الكتاب، الآن، من ناحية توفير أماكن العرض المريحة، وعقد فعاليات مصاحبة للمعارض، تتم فيها مناقشة الكتب وكل ما يتعلق بصناعة الكتاب، إلا أن لهفة الشراء التي شاهدتها، وقدوم أصدقاء الكتب من خارج الإمارات من أجل التنزه المعرفي في الشارقة، يمنح تلك المدينة امتياز أن ترتبط بالكتاب، وتصبح من مدنه الوفية. في إحدى السنوات، أطلقت في المعرض مبادرة، ترجمة الأدب العربي للغات أخرى، بدعم من الشارقة، وعقدت لقاءات بين ناشرين عرب، وناشرين أجانب من أجل أن تعبر عدد من الكتب الأدبية وغير الأدبية المهمة، إلى الآخر، كما تعبر كتب الآخر إلينا. كانت تلك مبادرة سخية بلا شك، أن تتولى مؤسسة عربية رسمية تمويل ترجمة الكتب، لكن لا أعتقد أن الأمر كان ناجحا تماما، رغم عبور عدد من الكتب التي رشحت، إلى لغات أخرى، من ضمن تلك المبادرة، ذلك ببساطة أن الأمر كان بين الناشرين للكتاب العربي، وناشرين أجانب محتملين لترجمة الكتاب، ولن يكون بيع الحقوق أمرا عاديا، لأن الناشر العربي لن يترك مؤلفا يعبر بلا قيود. إذن مبادرات كتلك تحتاج فعلا لثقافة خاصة، لحس وطني كبير، للإيمان بضرورة أن تعرف آدابنا خارجيا، مثلما عرفت آداب الخارج عندنا، من دون التفكير في مصالح تجارية خارقة، ووضع شروط للذين جاءوا لشراء الحقوق، لن تتفق وحس المغامرة الذي غامروه بتوجههم نحو كاتب وكتاب عربيين.
في سنة أخرى، حدثت مبادرة تكوين مكتبات للأسر، أو بالأصح، نواة لمكتبات في البيوت، قد تتسع في ما بعد، تشجيعا لفعل القراءة، وربط الأجيال الجديدة التي ولدت في زمن لم تترك فيه التكنولوجيا الحديثة مزاجا لأحد حتى يقرأ، وأنا شديد التأكد من أن تلك الكتب التي سهلت المؤسسة الرسمية مهمة اقتنائها، وأوصلتها حتى البيوت، لم تكن عبئا في بيت أحد، ولم تكن مجرد ديكور موضوع للفرجة فقط. مؤكد هناك من نبش تلك السلعة، ومن قرأ منها ومن استفاد أيضا، ومن طور من تلك النواة لتصبح صرحا قرائيا كبيرا.
لعل كثيرين، يعبرون بممرات معارض الكتب في سعيهم للفرجة أو الاقتناء، لا ينتبهون كثيرا لتلك الفعاليات المتنوعة التي تصاحب المعارض. هناك في الغالب قهر لتلك الفعاليات، بوضعها في أماكن طرفية بعيدة عن طرق الزوار، في عدم الإعلان عنها بوقت كاف، وبطريقة موسعة، وبأحبار عريضة، حتى يطالعها معظم الناس.. إضافة إلى القاعات التي تعقد فيها، وهي في الغالب، قاعات صغيرة خانقة للضيف ولمن أتى ليحضر فعاليته، في الوقت نفسه. وأذكر أنني كنت ضيفا في معرض عربي، وتاهت مشاركتي لوقت طويل في التنقل من مكان لمكان، بسبب عدم دراية أحد أصلا بالمكان، وعدم وجود جمهور لحضورها، إلى أن وضعت تحت الأنظار في وسط المعرض، ومن ثم جذبت عددا كبيرا من الزوار لحضورها.
هذا العام كانت فعاليات الشارقة متنوعة جدا، ليس موضوع آداب أو أشعار تلقى وحسب، ولكن حتى الفن والسياسة والجمال، تمت مناقشته في ندوات، وجاء كتاب غربيون كبار ربما لأول مرة، في الوطن العربي، ليلتقوا بجمهور يعرفهم جيدا ولا يعرفونه، وأظن وجود عادل إمام كفنان كبير، كان داعما جيدا لنشاط المعرض، ووجود دان براون كنجم كتابي من نجوم الغرب وصل صيته إلينا منذ شيفرة دافنشي، كان داعما أيضا، إلا أن وجود كتاب آخرين معروفين بشدة في الغرب، ولا نعرفهم هنا بسبب نقص الترجمة لهم، وعدم إعطاء تعريف كبير يشبههم، قلص من معرفة الجمهور بكاتب مثل السيرلانكي البريطاني، روميش غوديسكرا، وهو أحد معلمي الكتابة المعروفين، وكان من آوائل الذين حلوا في القائمة القصيرة، لجائزة مان بوكر العالمية، منذ عشرين عاما. أيضا الجزائري الذي يكتب بالفرنسية ياسمينة خضرا، كان موجودا لكن قليلين من كانوا يعرفون عالمه، بسبب عدم وجود ذلك العالم متاحا باللغة العربية، ولا أعرف إن كانت ترجمت له أعمال باستثناء «سنونوات كابول»، التي كتبها عن أفغانستان في زمن حكم الطالبان، بتعجل كما بدا لي، ولم تكن في رأيي، هي الرواية المناسبة للدخول إلى عالمه.
إذن لا بد من دراسة تلك الفعاليات جيدا، وأعني هنا وضع جميع احتمالاتها، والدعاية لها بشكل أكبر، خاصة إن استضافت مبدعين يحملون بريقا بعيدا، ولا يعرفهم جمهورنا. لا بد من زيادة وقت المداخلات حتى لا يخرج المشارك وفي حلقه بقايا من تداخل مهم لم يحدث. فقط ورغم كل شيء، فإن الشارقة ستظل إحدى مدن الكتاب المخلصة ومناراته المضيئة.
٭ كاتب سوداني
أمير تاج السر