حين يرد اسم فيدريكو غارسيا لوركا، تقفز إلى الذهن مباشرة تفاصيل مقتلته الشنيعة من قبل الكتائب الفاشية التابعة للديكتاتور الإسباني فرانكو، ذاك الذي وقف بكل ثقله ضد الحريات والتحوّلات الديمقراطية التي نادت بها الجمهورية، ليخوض معاركه الطاحنة ضد الفصائل الإنسانية، وقواها المقاومة لمشروعه الذي أدخل البلاد في أتون حرب أهلية، طحنت المجتمع الإسباني وحولته إلى كائنات جريحة، وطبقات ممزقة، ولكنها كانت قوية، تتحدى الطغاة بكل كبرياء وعظمة، مثلما وقف لوركا أمام قاتليه متحدِّياً ومنحازاً إلى القوى الإنسانية، ومشروع المقاومة الذي واصل العبور بالحرية إلى ضفاف العالم. وكان لوركا الشاعر واحداً من هؤلاء، لقد استفزَّتْ أشعاره الجلادين والقتلة، وحطتْ من المفهومة الفردية للديكتاتور، لتُعجِّل برحيله، بغية تأسيس مجتمع الأنوار والحريات الشخصية، وبذا قدم لوركا المثال في التحدي الشاعري والصمود الجمالي بوجه الفاشية الفرانكوية.
تحت أفق هذا المعطى المثالي، للفنان الإنسان والمثقف الواعي، والشاعر المُجدِّد والمُغيّر والمختلف، صنع لوركا ثورته الفنية والتعبيرية الشعرية. شعرية لوركا هي مثله عذبة، رقراقة، سلسلة، وأيضاً مُعبِّرة وقوية، ومندفعة في آن، فهو شاعر الأشكال المختلفة والطرائق الجديدة، والمكتشف الرؤيوي لزوايا لغوية غرائبية، هرمسية، ولكنها حميمة ومثيرة ونوعية، ذلك أنّ شعر لوركا يتمتَّع بالرهافة الواضحة وبالبعد الشفاف والدائم. حتى لو اختلفت المناحي والبنى والرؤى التركيبية، يبقى شعره، نهراً دافقاً، لا يتوقف، يتحلى بالعذوبة والأناقة والرقة الباطنية .
ولعل ما يدعم قولنا هذا، هو عمله النوعي والمبتكر والخلاق ضمن مسار ورؤية الشعر العالمي «شاعر في نيويورك» الذي كتبه لوركا ابّان رحلته إلى أمريكا، سعياً إلى اكتشاف تحوّلات العالم الجديد، والتقرُّب من الإنكليزية، ودراستها عملياً في جامعة أمريكية، أتاها وهو في أوج شهرته الشعرية والعالمية، لكي يتماهى مع لغة شكسبير، علها تفتح له أفقاً تنويرياً وفنياً، يؤازر مسيرته الشعرية ويدعمها جمالياً، لكي يواصل رحلة الشعر الطويلة مع الذات والعالم .
تُرجم لوركا إلى كل لغات العالم، ومن ضمنها العربية. سيل من ترجمات لوركا، يكاد لا ينقطع حتى في العربية، وقد تُرجم له إلى العربية الكثير، أبرزها أعماله الشعرية، وقد تمَّت ترجمتها على يد الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن سلسلة تهتم بالتراجم، وكذلك عمله البارز «شاعر في نيويورك» تُرجم على يد بعض الكتاب والمترجمين العرب، آخرها ترجمة الأديب حسين عبد الزهرة مجيد في عَمّان .
ينقسم ديوان «شاعر في نيويورك» إلى عشرة أجزاء، كل جزء يشكل حالة خصوصية، وجمالية، وتشكيلية. هيئة الديوان وبنيانه يقومان على وحدات فنية، لكل وحدة رؤاها وسياقها وصورها، لكن البناء العام للديوان محكوم بنظرة الشاعر إلى هذا العالم الجديد، الغارق في الماديات، في مكاتب البورصة وسوق المال العالمي الصاعد في ناطحات للسحاب. لقد بدا هذا العالم الذي وفد إليه لوركا غريباً، عالماً صاعداً في مجاهل لا حدود لها، تجاه فضاء مغرق في المادة، تحجبه هذه الرؤيا الميكانيكية الحديثة، والتي لا تستطيع أن تتحدث إلا من خلال أفقها المادي، فالمعنى يعيش خارج فضاء نيويورك، بينما يقبع في أسافلها عالم آخر، عالم مغاير ومختلف، انه العالم المُهمّش والمسحوق والمطحون بهذه الرؤية الآلية الجبارة .
على أن لوركا وعبر هذه الرحلة الدراسية التي لم تمتد غير أشهر قليلة، سيتخلى عن دراسته تلك، ليتفرَّغ إلى استكشاف القاع الأمريكي في نيويورك، عبر الغوص في حناياه وجوّانيّاته وأقبيته المعتمة، تلك الحافلة بالمشردين والصعاليك والمدمنين على الكحول والمخدرات، والمعوزين إلى الطعام والحياة البسيطة والآمنة. كل ذلك سيخبره لوركا برؤيته الدقيقة، وبمشاعره الأليفة، وبحدسه الدقيق والشفيف، راسماً وكاتباً وصانعاً تحفته الفنية والشعرية لهذه الأجواء، والفضاءات والآفاق الفقيرة، الكئيبة والرثة، والتي يحيا فيها الفقراء حياة القبو والظلمة والكهوف الحديثة، بجوار سوق المال والمنافسات والتجارة البارعة والمخادعة، والساكنة في ناطحات السحاب، كل هذا سيسجله في مدونته الشعرية، في هذا السجل الكبير، الموثّق والمُحْكم، نص «شاعر في نيويورك» .
تسبق كتاب «شاعر في نيويورك» دراسة بحثية ونقدية وكشفية، للكاتب ديريك هاريس، تتناول آليات هذا النص الطويل والمتداخل، والمُقسَّم إلى عشرة أقسام، وهي :1ـ قصائد العزلة في جامعة كولومبيا 2 ـ السود 3 ـ شوارع وأحلام 4 ـ قصائد طواحين بحيرة عدن 5 ـ في كوخ الفلاح 6 ـ مقدمة للموت 7 ـ العودة إلى المدينة 8 ـ نشيدان 9ـ طيران من نيويورك 10 ـ الشاعر يصل إلى هافانا .
وكذلك مقدمة الناقد والمُقدِّم هاريس تنقسم إلى سبعة أقسام وتأتي على التوالي :
لوركا والسريالية، البراءة المفقودة والمحفوظة، المدينة والريف، ولادة المسيح وآلامه، الصوت الصارخ في البريّة، التقفيلة، وخاتمة للدراسة .
يشير الباحث في دراسته اللوركوية، إلى أهم سمة ميّزتْ شعر لوركا ألا وهي التجريب والسريالية والتنويع الدرامي والفولكلوري، فهو يراه «شاعر الشدة الفردية التي تتركز على مجال ضيّق من الأفكار، وعمله ميدان صراع بين الحياة والموت، بين الحب والعقم، وهذا ما جعل منه شاعراً درامياً، في حين جعل منه الصراع غير المتكافئ بين المتحاربين، شاعراً مأساوياً».
يصل لوركا إلى نيويورك في 25 ـ 6 ـ 1929. درس في صف المبتدئين الأجانب أقل من أربعة شهور، ثم طُرد بعد ذلك، من ضمنها سفرته إلى «طواحين عدن» وكتابته للرسائل إلى أصدقائه من هناك، معرباً عن مدى غبطته لرؤية هذا المكان الهادئ والمختلف والمريح، بعدها ينشغل لوركا في نيويورك بإلقاء المحاضرات، وينهمك في الزيارات وتلبية الدعوات، ومن أبرزها دعوته إلى كوبا من أجل القاء سلسلة محاضرات أدبية وثقافية هناك، وسيلتقي بمجموعة من أصدقائه القدامى، معيداً حبل الوصل معهم، ومُجدِّداً مع آخرين صداقات جديدة .
قدّم لوركا في عمله اللافت هذا كل تِقنيَّاته وحبكاته وتشاكيله البنائية، والفنية والرؤيوية، مغتنماً ومقتنصاً وناهباً للمجاز والكنايات والصور التي يحفل بها هذا العمل المركب والمُتقن في صياغاته المبهرة والبديعة حينذاك، ناهلاً من النبع السريالي والعدمي والتجريدي ما يريد، ومن هنا بدتْ صعوبة هذا العمل، عمل غني بالرموز والموحيات والمتواري من الجمل المبهمة، تلك التي تحتاج إلى أكثر من إضاءة لمسالكها الملتوية، في طريق غامض يكتنفه اللا معلوم .
ومن شواهد هذا العمل ثمة مقاربات حسية أيضاً تظهر في هذا النص المتشابك، الطليعي والمتكئ على أساليب عديدة، بحيث يختلط الحسي بالذهني والواقعي باليوتيبي، كما نرى في هذا العنوان «منظر لجمهور متقيِّئ» والتي فيها يقول :
«جزيرة كوني، مهرجان يحضره مليون طفل، كلّ اسبوع في الصيف، يشربون، ويصرخون ويأكلون ويلعبون، ويتركون أوراق الصحف منثورة على البحر، ويملأون الشوارع بالعلب الفارغة وأعقاب السجائر، وأحذية بلا كعوب ويعود الناسُ من المهرجانِ يغنون، وتقوم مجموعات من مئة شخص تتكئ على الحواجز بالتقيؤ، ويبول آلافٌ في زوايا الشارع، على الزوارق المهجورة وتمثال غاريبالدي أو الجندي المجهول» .
نرى هنا أن الشاعر يعتمد على التجربة، على ما رآه، ثم ما ولدته أحاسيسه ومشاعره من رؤى شعرية، فيها إدانة واضحة للمشهد الصاخب والمُدنِّس لجماليات الطبيعة، وهم بذلك يحطون من قيم الحرية، بانتهاك ثوب الطبيعة الزاهي في جزيرة «كوني» التي زارها ورآها بعين المُجرِّب والشاعر والرائي الحكيم .
يمكن وصف شعرية لوركا بشعرية شلالية، منسابة، ولكنها تسقط بِدويٍّ، بخرير، أو بطريقة كريستال متكسر، إنه صوت كريستالي، ذو رنَّة، تهجع فيه الأغاني وتغفو على ضفتيه النغمات: «في الزرقة المفرقعة، زرقة دونما دودة واحدة أو أثر قدم راقصة، حيث بيض النعامة يبقى إلى الأبد، والأمطار الرائقة تتراقص، في الزرقة التي ليس لها تاريخ، زرقة ليلة دون خوف من النهار، زرقة حيث الريح العارية تكسر جِمالاً من غيومٍ فارغةٍ تسير في نومها، هناك تحلم الجذوع تحت العشب الجائع، هناك يمتصّ المرجان يأس الحبر، وساحة الرقص الفارغة، تبقى فوق الجذوة الأخيرة».
طبعاً في هذا العمل المتشابك والمتداخل والمضفور في امتداد شبكي، ينهل لوركا من إحالات عدة، من قوابس في التوراة، من أساطير يونانية، من المأساة المسيحية، في طريقة الصلب، ترد كنائس في العمل وأصوات وتراتيل دينية، وهي قصيدة مغرقة بالترميز والاستيهامات والعروج صوب الميثولوجيا، فثمة أبولو وهارلم، والزنوج والآلهات القديمة والحروب وانتكاسات الروح الأوروبية في التاريخ الدامي والمظلم لهرطقات الكهنة واللاهوت الكنسي:
«كلا لا تدع البابا يرقص! لا الملك ولا أصحاب الملايين ذوي الأسنان الزرق، ولا راقصي الكاتدرائية الجوف، ولا البنائين، ولا الزمرّد، ولا المجانين، ولا اللوطيين، هذا القناع فقط! ستفحُّ الكوبرات على الطريق العالية، سيهزّ القرّاص الأفنية والسطوح العالية، ستصبح البورصة هرماً من الطحلب». سيبقى لوركا، هرماً شعرياً كبيراً ليس لإسبانيا وحدها، بل للعالم أجمع.
فيدريكو غارسيا لوركا: «شاعر في نيويورك»
ترجمة حسين عبد الزهرة مجيد
دار أزمنة، عمَّان 2018
212 صفحة.
هاشم شفيق