شارلز سيميك، الشاعر الأمريكي من أصل صربي، هو أحد أهمّ الأصوات العميقة في الشعر الأمريكي المعاصر. ولد في بلغراد عام 1938، وعاش أهوال الحرب العالمية الثانية هناك، واضطرته معادلات تقاسم أوروبا الشرقية إلى الهجرة مع أسرته، نحو فرنسا أولاً ثم الولايات المتحدة، حيث درس ومارس العديد من المهن المتنافرة (خازن كتب، بائع قمصان، محاسب، ودهّان). انتمى بعدئذ، ونهائياً، إلى المجتمع الأمريكي واللغة الإنكليزية، وأخذ يكتب الشعر بهذه اللغة؛ دون أن ينفكّ عن لغته الأمّ، الصربو ـ كرواتية، فيترجم الكثير من أشعار فاسكو بوبا وإيفان لاليش وآخرين.
ذلك بعض السبب في أننا قلّما نعثر على التاريخ في الشعر الأمريكي المعاصر، مثلما نعثر عليه في نتاج سيميك الشعري. إنه، أيضاً، بعض السبب في أن ذلك التاريخ قلّما يغادر دائرة التساؤل الفينومينولوجي التي تبدو ـ وحدها تقريباً ـ القادرة على إعادة تعريف تجارب الماضي عن طريق استكشاف مدى ما تختزنه من غريب عجيب عبثي. وبهذا المعنى تصبح واضحة تلك العبارة الصاعقة التي أطلقها سيميك ذات يوم: «أظن أنني شاعر واقعي وشاعر سوريالي، مشدود إلى القطبين في آن».
إنه أيضاً مشدود إلى مارتن هايدغر، ليس لأسباب فلسفية أخرى غير تلك المتصلة بما عُرف به الفيلسوف الألماني من انحياز إلى «الأشياء في ذاتها»؛ الأمر الذي يفسّر تلك الطائفة الفريدة من القصائد التي كرّسها سيميك للأشياء: الحجر، الحذاء، المكنسة، الملعقة، السكّين، والشوكة، هذه الأخيرة التي يصفها كما يلي: «لا بدّ أنّ هذا الشيء الغريب قد تسلّل/ من الجحيم مباشرة/ إنها تشبه قدم طائر/ يطوّق عنق آكل لحوم البشر/ وإذْ تمسكها بِيَدكَ/ وإذْ تغرزها في قطعة من اللحم/ فإنّ في مقدورك أن تتخيّل ما تبقى من الطائر/ رأسه الذي مثل قبضتك/ ضخم، أصلع، أعمى، بلا منقار»!
والناقد الأمريكي كيفن هارت يعتبر هذه القصيدة تمريناً في «نزع الألفة» عن الجماد، وتحويل أشياء الحياة اليومية إلى موضوعات صانعة للغرابة، في مستوى الانطباع الأوّل على الأقل. وبالفعل، نحن أوّلاً أمام الشوكة في صورة شوكة الشيطان دون سواها، ثم يتبدّل السياق سريعاً لكي تصبح الشوكة قدم طائر، وبعدها ينخرط القارئ ذاته في سياق جديد يجعله آكل لحوم بشر، ليس بسبب العبارة ذاتها أساساً، بل بوحي من ممارسة يومية آدمية هي غرز الشوكة في قطعة اللحم. وأخيراً، يتبدّل سياق القصيدة بأسره حين تختلط المقارنة بين الشوكة والطائر والآدميّ، عن طريق اختلاط الاستعارات بين الرأس والقبضة الضخمة الصلعاء العمياء بلا منقار.
والحال أن سيميك بين هؤلاء الذين يؤمنون بوجود العناصر السابقة على اللغة، بعكس الإجماع الشائع الذي يلحّ على وجود نوع من التكافؤ بين اللغة والفكر، هو الذي يكفل إمكانية الصياغة اللفظية للأشياء التي لا يستطيع الإنسان صياغتها فكرياً. إنه واثق، كما يقول، من وجود مرحلة تسبق طاقات الصياغة اللفظية، مؤلّفة من أشياء يتمّ الوعي بها عن طريق سيرورة من التجارب الحسّية والشعورية المعقدة، والتي لا توفّرها اللغة (إذا وفّرتها) إلا بواسطة ضغط تعبيري داخلي خفيّ.
وفي نصّ شهير يكتب سيميك: «إنني أطلق اسم الصمت على كلّ ما يسبق اللغة: العالم، وإحساس المرء بوجوده في نفسه. ولطالما فكّرت بأنّ الكلام أشبه بالصفير في الظلام. العالم، في قناعتي المتواضعة، لا يقتضي مني أن أقول أي شيء. حين أكون متنبهاً وصامتاً، فإنني أبدو أقرب إلى طبيعة الأشياء. وإنّ عدداً من قصائدي المبكّرة هي محاولات لتحويل هذا المأزق إلي أسطورة خَلْق». لماذا يكتب الشاعر إذاً؟ أليست كتابته بمثابة كسر لذلك الصمت؟ أو ربما لأنّ الشاعر يقول ويكتب بوصفه مترجم الصمت وليس كاسره.
«الصمت الامّ» هو التعبير الذي يستقرّ عليه سيميك حين يتوغّل عميقاً في وصف الحياة قبل مجيء اللغة، حين تسمح شروط المكان بالإصغاء إلى صوت الجماد. وذات يوم لم يتردد الشاعر في الإعلان عن أنّ بعض أجزاء نفسه قد تحوّلت إلى سكّين أو شوكة أو فأس، فكيف في وسعه بعدئذ أن يختال بما تملكه اللغة من معنى حين يكون في حضرة… الأحجار والأشجار والعظام؟
مشروع شعري ظلّ عارماً مضطرماً، وامتدّ على أكثر من 36 مجموعة ومختارات شعرية، بين أشهرها «ما قاله العشب»، «في مكان ما بيننا، يدوّن الحجر ملاحظاته»، «تفكيك الصمت»، «العودة إلي مكان مضاء بكوب حليب»، «كوزمولوجيا شارون»، «رقصات في قاعة كلاسيكية»، «معتوه»، و»خُربشت في العتمة» مؤخراً؛ لكنه ظلّ مشروعاَ متجانس التطوّر، قلّما تقلّب أو شهد انقطاعات حادّة.
ومناسبة هذه الوقفة عند سميك هي صدور كتابه الجديد «حياة الصور»، وهو عمل غير شعري، عماده سلسلة مقالات تأملية في شؤون الشعر وعلاقاته بالسياسة والفلسفة والتصوير الفوتوغرافي، يستلهم طفولة الشاعر مثل تفتّح وعيه هنا وهناك، في خضمّ ما عاشه من تجارب». والجديد، الثمين حقاً، في هذه الاسترجاعات أنها تسجّل ذهنـــية مهاجر، يطلّ اليوم على أمريكا دونالد ترامب، ويسعى إلى قراءة مشاهد اللجوء المعاصرة المعقدة، من عين طائر/ شاعر… يترجم الصمت!
صبحي حديدي
تحياتي أستاذ صبحي حديدي
أنتم تأتون دئماً بأشياء جديدة تعوزنا. هي موجودة بيننا وفي ثنايا الوجود ؛غير أن الكثيرين من المبدعين يتخبطون خبط عشواء إزاء أشياء توحي بالكثير وتشكل عالماً ميتافيزيقياً يرهبون الدخول إليه، أو يتجنبونه ؛ لأنهم سيتيهون فيه، أو لأنهم لايملكون الغوص فيه: لن يستطيعوا
التأمل *وفي أنفسكم أفلا تعقلون* .