يغامر الروائي القطري عبدالعزيز آل محمود في عمله الروائي الثاني بعنوان «الشراع المقدس» ويأخذ قارئه في رحلة مثيرة إلى عصر ما عرف بالاكتشافات الأوروبية المضرَّج بالدم والقتل، وهي مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأنها تستدعي استبصار التاريخ بعين الحاضر. وهي رحلة معقدة لأن الكاتب بحاجة لخلق عالم اصطدمت فيه المصالح الدولية مع المحلية. واختيار العنوان يوحي بالثمن الذي دفعته الدول والشعوب العربية جراء صراع القوى الطامحة في السيطرة على العالم باسم المسيح والصليب، حيث خرجت سفن البرتغاليين والإسبان في كل الإتجاهات تبحث عن الطرق البحرية للسيطرة على تجارة البهارات؛ وعمليا الشرق كله. ويملأ آل محمود روايته بالشخصيات الحقيقية التي لعبت دورا في الدراما التاريخية الكبرى التي بدأت من خروج العرب من الأندلس ورحيل كولومبوس بحثا عن طريق للهند ليكتشف العالم الجديد، فيما يرحل البرتغاليون حول إفريقيا ويكتشفوا رأس الرجاء الصالح.
لكن القصة تبدو أكثر تعقيدا مما تسرده كتب التاريخ، فعلى شواطئ البحار العربية والبحر المتوسط، وفي المحيطات حتى الهند مصدر التوابل والبهارات، دارت معارك حاسمة ودُمِّرت مدن وقتل الملايين من البشر في لعبة تداخل فيها الجشع للسيطرة على ثروات الشرق بالهوس الديني والسياسة. وداخل هذا العالم تصارعت دول كبرى وتآمرت على بعضها البعض وتعاونت فيما بينها وضد بعضها البعض.
وفي ظل المساحة التاريخية الواسعة؛ مكانا وزمانا وعمقا ينقل آل محمود قارئه بين البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي، ويبني عالما تداخلت فيه الأعلام وتحرك فيه الناس؛ باسم المسيح والسلطة وباسم الخليفة وباسم المجد الشخصي. في مدن مثل لشبونة (ليزبن) والقاهرة والاسكندرية وجدة وهرمز والعقير وموزمبيق وحواضر الهند وشرق أفريقيا تدور الدراما التاريخية الكبرى والصراع على الشرق.
نحن الآن في عام 1486 حين يمضي رجلان بسرعة في شوارع ليزبن الضيقة حيث البرد والفقر ومحاكم التفتيش، إلى مكان يجتمع فيه النبيل مانويل الذي أصبح لاحقا ملك البرتغال، ومعه موسى اليهودي، يهمسان بكلمة «الشراع المقدس″ أمام منزل كي يُفتح بابه ويغوصان في العتمة. نعرف لاحقا أن الرجلين هما بيرو دي كوفيلهام وفرانسوا دي بافيا من يهود البرتغال ويعرفان العربية بطلاقة. ويكلفان بمهمة تجسس في أرض الإسلام، حيث يحملان معهما خريطة رسمها راهب إيطالي اسمه ماروعام 1450 أو حوله وحدد فيها كل الموانئ والمدن التي تعبر منها السفن إلى الهند وقوافل التجارة. تكتسب المهمة التي كلف بها الرجلان أهمية كبيرة، لأن أوروبا باتت مهددة منذ سيطرة الأتراك العثمانيين على القسطنطينية وتوسعوا في قلب أوروبا. وحتى يتم كسر الحصار الذي فرضته السلطنة العثمانية على تجارة أوروبا لا بد من جمع المعلومات والبحث عن طرق أخرى غير البحر المتوسط الذي بات بحرا للقراصنة الغاضبين من الإسبان والبرتغاليين والمتحالفين مع العثمانيين. لكن رحلة الرجلين عبر شمال أفريقيا إلى مصر تعتمد على صلات موسى مع الأحبار اليهود والكنس التي أقاموها على جانبي المتوسط تمت في الأيام الأخيرة من الدولة المملوكية والتي يجسِّدها شخصان؛ حسين الكردي المقرب من قانصوه الغوري؛ آخر المماليك الذي سيهزمه السلطان سليم، وسليمان الذي سيتحول لاحقا إلى صف العثمانيين، فهما صديقان يعيشان في معسكرات المماليك في الإسكندرية، كلاهما يجسدان حياة المماليك الذين جُمعوا من كل مكان وتربوا على العقيدة الحربية. وتفرِّق الأيام والسياسة الصديقين، حيث يتولى سليمان الكردي البحرية ويقود أسطولا من أجل التصدي للبرتغاليين الذين باتوا يهددون مدينة جدة والبحر الأحمر، وتقود الأقدار حسين الكردي إلى عدن والهند، ينتصر ويُهزم، ونعرف أنه حكم جدة بالنار والحديد وأهان تجارها وفرض الضرائب عليهم، ومع ذلك أقام الأسوار والتحصينات التي أفادت المدينة لاحقا. بعيدا عن جدة وعلى الجانب الآخر من الجزيرة العربية كانت مملكة هرمز الجزيرة التي تحولت لمركز للبحارة والسفن وأصبحت دولة قوية فرضت حضورها على الساحل العماني والبحرين حتى الأحساء، وكانت تعاني من أزمة داخلية بعد وفاة حاكمها القوي توران شاه مخلفا أربعة أولاد. حيث انقلب أحد الأخوة (أويس) على شقيقه السلطان شيرغل وهو ما أغضب مستشاره ووزيره خواجا عطار الذي هرَّبه من السجن ونقله متخفيا إلى سلطنة الجبور حيث طلب مساعدة حاكم العقير مقرن بن زامل الجبري لاستعادة ملك شيرغل مقابل منح الجبور البحرين وإلغاء الضريبة المفروضة عليهم. ومن هنا يلعب غرير بن رحال؛ المستشار الشاب الوسيم الدور الهام في تحضير الجهود الحربية لإعادة تنصيب شيرغل والإطاحة بأويس الذي يُنفى إلى الهند ويخلو الجو لشيرغل وإبن رحال ويعود خواجا عطار لسابق عهده. لكن التطورات المحلية كانت تجري في ظل تغير في الميزان العسكري، حيث بدأ البرتغاليون حملتهم العسكرية عام 1506 من غرب أفريقيا وتركوا وراءهم الدمار والموت في كل مكان حلو فيه. لم تبدأ رحلة البرتغاليين بقيادة القبطان البوكيرك المعروف بقسوته ودناءة نفسه إلا بعد تولي النبيل مانويل الحكم في البرتغال والترتيبات بينه وبين الملك الإسباني حول اقتسام العالم في حينه. وفي هذه الفترة أكمل كوفيلهام رحلته في تتبع أثر خريطة الراهب مارو حيث افترق مع صديقه بافيا في ميناء عدن عندما توجه الأخير نحو أفريقيا. أما كوفيلهام فقد واصل طريقه باتجاه الشرق ومر على خواجا عطار وعُمان. ليعود بعد عام للإسكندرية حيث اتفق مع صديقه على اللقاء معه في بيت حبر الإسكندرية. ويكتشف كوفيلهام أن صديقه بافيا لم يعد، وأن النبيل مانويل حنث بالوعود التي قطعها لهما بحماية عائلتيهما من محاكم التفتيش ومكافأتهما إن أكملا المهمة. في الإسكندرية يقرر كوفيلهام العودة إلى أفريقيا بحثا عن صديقه، ويصل تقريره إلى البرتغاليين الذين يحملونه مع «الشراع المقدس». وكما يعلق الحبر اليهودي «إنكم مهدتم الطريق لغزو عسكري كبير بكل هذه المعلومات، فشراعهم لن يكون مقدسا بعد هذا التقرير بل شراعا ملطخا بالدم».
ستتوالى الهزائم والحروب على مدن ساحل الجزيرة العربية. سيحاول البرتغاليون احتلال عدن والوصول إلى جدة ولكنهم لن ينجحوا، ومع ذلك نجحوا في تدمير مملكة هرمز ومسقط، واستطاعوا هزيمة أسطول أمير البحر المملوكي في الهند.
كيف استطاع آل محمود نقل أجواء الدراما التاريخية؟ بعيدا عن مهمة التجسس التي قام بها كوفيلهام وبافيا وخلافات المماليك وتنصيبهم الغوري حاكما على مصر التي عانت من خلافاتهم. فقد جعل الكاتب من شخصية حسين الكردي مضادة لسليمان ( العثماني) الذي يُعتقل في عملية بجزيرة رودس قبل أن يفتديه العثمانيون ويصبح جنديا من جنودهم. ويرسم مواجهة بين الصديقين في جدة بعد هزيمة المماليك.
وفي مركز كل ذلك أقام آل محمود قصة حب بين فتاة جميلة اسمها حليمة وهي الابنة الوحيدة لخواجا عطار، حيث يقع في حبها إبن رحال ويتزوجها وينتقل معها إلى البحرين، وهناك تجري وقائع مأساة أخرى سببها الأمير ناصر ابن عم السلطان مقرن بن زامل الجبري الذي يكلفه بمهام الإمارة في غيابه حيث يتخذ من البحرين مقرا له. والأمير ناصر هو المعادل في الخساسة والوضاعة للبوكيرك البرتغالي. وعندما يسمع بوصول الفتاة الجميلة حليمة يحاول حيازتها من زوجها ابن رحال الذي يرسله في مهمة بحرية إلى الهند. وأثناء غيابه يحاول الحصول على حليمة، حيث يستخدم خادمه جوهر الذي يوقع بخادمتها فرح. وعبر حكاية خنجر أرسله سلطان هندي للخليفة وخاتم اشتراه السلطان مقرن من تاجر هندي يحبك آل محمود قصة عن الخيانة والانتقام. ويتحالف خواجا عطار مع البرتغاليين لاحتلال البحرين انتقاما مما فعله الأمير ناصر بصهره ابن رحال وابنته التي تشردت في الآفاق. ومثل كل قصة تصل حليمة إلى مكة المكرمة وجدة مع رجل مغربي كان في خدمة السلطان مقرن ويعرفها على سليمان العثماني الذي تولى حكم جدة بعد مقتل حسين الكردي ويتزوجها وتنتقل معه للعيش في حاضرة الدولة العثمانية. أما والدها فيأسره البوكيرك ويرسله إلى لشبونة مكبلا كأسير للملك ويحرمه من رؤية ابنته وأملاكه في هرمز.
إن اتكاء آل محمود على التاريخ والشخصيات التاريخية الحقيقية في معظمها يعيد خلق صورة المنطقة، وهو وإن بدا تبسيطيا أحيانا عبر صور وأحكام جاهزة، ومحاولته تقديم مقارنات عن التعصب والتسامح بين الإسلام والمسيحية، إلا أنه نجح في مماهاة الحقيقة التاريخية بالزمن الروائي وحركة الأشخاص، وخلق مغامرات مثيرة، مثل رحلة حسين الكردي مع ابن رحال بعد هزيمتهما على يد البرتغاليين من الهند إلى هرمز ومنها إلى البحرين، ومغامرة حليمة في الحجاز. وكما بدأت الرواية بمؤامرة وإصرار على تغيير العالم، فقد انتهت بنوع من الندم على ما حدث، فالجاسوسان اللذان همسا «الشراع المقدس» وقاما بجولة في عالم دولة المماليك انتهيا في جبال الحبشة بعيدا عن البرتغال التي حاولت وفي وقت متأخر البحث عنهما وتكريمهما، لكن أحدهما كوفيلهام كان قد استوطن في المنطقة وتزوج ولم تعد لديه رغبة بالعودة أو حتى في هدية من ملك البرتغال. ولا نعرف إن كان ما فعله كوفيلهام محاولة للتطهر عما أرتكب أم أنه اكتشف طريقا آخر.
يفصح سرد آل محمود الشاعري عن قدرة على استبصار الواقع التاريخي. ولعل أكثر لحظات الرواية إثارة هي الفصول التي دارت في البحرين وكانت حليمة وجوهر والأمير ناصر أبطالها، ومن ثم عودة ابن رحال ومقتله على يد الأمير ناصر.
إن رواية آل محمود هي رواية المصائر والأقدار، وهي رواية تؤكد على الكيفية التي قادت المعرفة بها والهوس الديني عالم السياسة إلى انتزاع مدن وقتل بشر ونهب ثروات.
عبد العزيز آل محمود: «الشراع المقدس»
بلومزبري، مؤسسة قطر، 2014
510 ص.
إبراهيم درويش