عندما أعلن عن تنظيم ثورة أطلق عليها في ما بعد «ثورة الغلابة» في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 انتشر الخبر وعلى غير المتصور عن طريق القنوات القريبة من السلطة والمتحدثة باسمها والمدافعة عنها. وتركز الحديث في التأكيد على أنها ثورة، وأنها تحدث في وقت تواجه فيه شعبية الرئيس الكثير من التحديات. وصاحب ساعات من البث عن المخاوف من ثورة الغلابة، التي لم يعرف على وجه الدقة الجهة المسؤولة عنها، أخبار تهدف إلى تضخيم الحدث والتخويف من انعكاساته، عبر الحديث عن تقارير وتسريبات سرية تؤكد على وجود تقارير أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي تتعلق بالمخاوف الأمنية الناتجة عن تراجع الشعبية، وما تمثله من فرصة لنجاح الثورة المقبلة.
وعلى عكس ما يفترض القيام به في وضع مماثل، تم الإعلان عن تعويم الجنيه ورفع أسعار الوقود، وهي قرارات كان من شأنها أن تدعم مثل تلك الثورة أن كانت حقيقية وهو ما لم يحدث. جاء الحدث أقل بكثير من مظاهرات مؤثرة ناهيك عن أن تكون ثورة، والنتيجة انتصار للنظام بدون معركة، وترويج شعبية بدون إنجاز، والخروج بنتائج غير حقيقية لأنها أسست على مقدمات غير حقيقية. فإن كان المخطط ثورة، والشعبية منخفضة، والأوضاع المعيشية صعبة، ثم تختفي الثورة فإن النظام انتصر، والرئيس تأكد من شعبيته، والأكثر أهمية هو أنه قد تم تقديم الحدث بوصفه تفويضا بالغياب عن طريق عدم المشاركة.
كل ما سبق قديم في ما يتعلق بالحدث المباشر، ولكنه في قلب اللحظة في ما يتعلق بإدارة سيناريو العزوف عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية، ومثله الكثير من سيناريوهات الحديث عن إنجاز الغياب في تاريخ النظام وإنجاز المشاركة المستهدف في تلك الانتخابات. يتعامل السيناريو مع الانتخابات على طريقة لماذا السيسي، ولماذا هناك مخاوف رغم التأكد من فوزه؟ والمكسب الأساسي ليس هو نتيجة الانتخابات ولكن المعنى الذى يمكن أن تترجم له وخاصة فكرة التفويض. ومن تصعيد فكرة الضرورة، والتحديات، يصبح المطلوب هو التوجه إلى اللجان مهما كان الصوت ببساطة لأن المطلوب هو الصورة والجموع أمام اللجان الانتخابية ونسبة الحضور، وما عدا هذا مجرد تفاصيل.
على مدار عدة أشهر تركز الحديث على غياب البديل وأن السيسي هو الوحيد القادر على حكم مصر، وبدأ على هامش هذا الخطاب الحديث عن المشاكل والصعوبات القائمة والتي تجعل السيسي الحاكم الوحيد المفترض ولكن من مدخل أنه بدأ الطريق وعليه ان يستمر من أجل إنجاز المشروعات القائمة أو التي وعد بها. واستمر هذا الحديث وتم دعمه في مرحلة ما قبل الانتخابات من صوت كان من منظري فترة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وهو يؤكد أن المشاريع الكبرى تحتاج سنوات حكم غير محددة، وأن مدد الرئاسة رفاهية لا تعرفها مصر، والسيسي لابد أن يستمر لفترة غير محددة بالنظر إلى الإنجازات الكبرى التي تحققت.
وبعيدا عن علاقة تلك المشاريع بالمجتمع وانعكاساتها على أحوال الشعب، وبعيدا عن سؤال أهمية توسعة قناة السويس التي تحولت إلى ترس في «الممانعة» النفسية، أو العاصمة الجديدة وغيرها، بعيدا عن كل هذا، يدور جزء آخر مهم من تأسيس حالة الضرورة في فكرة الخوف من «الأشرار» وهو المصطلح الذي يشمل أهل الشر ومن يدعمهم ويظل عبارة عن قوس غير مغلق قابل لضم تعريفات جديدة ووجوه جديدة دوما، ناهيك عن الإرهاب ومخاطر أن تصبح مصر مثل غيرها في تأكيد لعبارة «أحسن من دول الجوار». وإلى جانب الخوف والتخويف من «الأشرار» والدفاع عن «القوة الغاشمة» وفي سياق «تنظيم نشر التشاؤم» تم التركيز على تنظيمات مقاطعة الانتخابات، وأهل الشر الذين يدافعون عن خيار عدم المشاركة في الانتخابات.
بدا واضحا تركز جزء كبير من الحديث عن عزوف الشعب عن الانتخابات، وأن اهتمام الشعب بالانتخابات أقل من مباراة كرة قدم محلية، أو أن جهود أهل الشر قد وصلت إلى الناس وساهمت في إقناعهم بعدم المشاركة، لأن السيسي سوف يفوز في كل الحالات، وغيرها من الخطابات التي تتشابه مع حديث ثورة الغلابة المقبلة. ومن أجل تأكيد صعوبة المشاركة في الانتخابات، تتم الإشارة إلى المعاناة التي ما زال الشعب يشعر بها وتأخر النتائج الإيجابية المترتبة على المشاريع الكبرى. وبهذا عندما تتجه الجماهير إلى اللجان يتحقق الجزء الأول من الإنجاز، وعندما تتجه أعداد كبيرة إلى الصناديق – بشكل نسبي- في مقابل التصور الذي يتم ترسيخه عن المقاطعة، يتحقق الإنجاز الأكبر وهو الفوز بطعم التفويض.
ورغم أن المواطن أو الشعب هو محور الاهتمام، إلا أن الحديث عن الرأي العام شديد الصعوبة، فمن ناحية لا توجد استطلاعات رأي عام يمكن الاعتماد عليها بشكل علمي، وما يوجد يظل شديد الارتباط بالسياق والجهة والأجندة السياسية التي تحكمه. من ناحية ثانية ليس لدينا متحدث باسم الشعب، كما ان كل طرف يتحدث عن الشعب كما يراه. لدينا كتلة صلبة يتحدث عنها الرئيس بوصفها المؤيدة والمفوضة، ولدينا «مواطنون شرفاء» وخونة وفقا لتعريفات الإعلام، ولدينا النشطاء والثوار والنسخ الحديثة أو المستحدثة في كل مرحلة، لدينا من يدعم مرسي ومن لا يدعمه، ومن لا يدعم أي طرف أو ما كان يطلق عليهم البعض «حزب الكنبة» رغم الاعتراض على التسمية. لدينا تنويعات أكثر من ان يحتويها طرف أو جماعة، أو يتحدث باسمها طرف أو جماعة حتى وإن قال الجميع انهم يتحدثون عن مصر ومصالحها ويخاطبون شعب مصر.
تلك الصورة نفسها تتواجد على هامش الانتخابات، وكل طرف في الصورة يتعامل مع تصور معين للشعب الذي يستهدفه، ويخاطبه بلغة يتصور انها الأقرب له ويختار الصورة التي تعبر عنه. الخطاب الرسمي يؤكد ان من ينتخب وطني، ومن يقاطع خائن وعميل ومن أهل الشر. ويقدم في هذا أسانيده السياسية والدينية، ويشرك في التعبير عنها رجال الدين وأعضاء البرلمان وكل التنويعات المحتملة. ويعيد بقوة أحاديث ظهرت خلال انتخابات 2014 حول إدانة المقاطعة وتصويرها بأنها لا موقف، أو موقف غير قانوني وغير سياسي يمكن أن يتعرض صاحبه للعقاب. في المقابل تسعى جهود الأطراف المعارضة لتأكيد الحق في المقاطعة بوصفه الطريق الوحيد بعد ان تم استبعاد فرص المنافسة وغاب البديل.
في الوسط يجد المواطن نفسه مصنفا دوما من قبل الآخرين، وكل طرف يقدم له ما لديه أحيانا تحت شعارات واحدة تضع الوطن والشهداء وحقهم والرفعة والكرامة في جملة مفيدة رغم أنها لا تناسب من يطرح الفكرة أحيانا، وقد تتعارض معه كليا. يملك المواطن فعليا القدرة على المشاركة أو عدمها، والفارق لن يغير نتيجة الانتخابات ولكنه يغير ترجمة النتيجة في خطاب السلطة وما تتصور أن الانتخابات تقدمه لها وتلك نقطه مهمة. تدرك السلطة أنها لا تسعى إلى تحقيق ديمقراطية وتنافسية حقيقية، وهي غير معنية بها وبشكل واضح عبر تصريحات متعددة بما فيها تصريحات للرئيس نفسه، ولكنها تسعى إلى التفويض وهو لن يتحقق بدون طوابير أمام اللجان وبشرة خير وصور أفراح ورقص وطبول.
يبدأ على استحياء في الأيام السابقة على الانتخابات خطاب آخر يتمحور حول فكرة أننا لن نذهب للمشاركة في الانتخابات، ولكن للاحتفال بما تحقق من إنجازات وبأن مصر ليست سوريا ولا العراق، هكذا يتم الدفع بالمواطن إلى لحظة التقاط الصور ليصبح فوزا بالتفويض، ومن أجل هذا لا يوجد ما هو أفضل من خطاب التخويف من المقاطعة وانسحاب الجماهير وعدم اهتمامها والتخويف من اللجان الخالية كما تم التخويف يوما من ثورة الغلابة التي لم تكن ثورة.
المواطن مشارك مهم بالنسبة للسلطة، يبدأ دوره وينتهي في لحظة التجمع من أجل اللقطة وترويج خطاب المشاركة، ما بعد هذا صمت المواطن ضروري حتى يعيش التفويض. على فترات طلب من الشعب التوقف عن الكلام والتوقف عن المظاهرات والمشاركة في تجمعات، والآن لحظة مغايرة يطالبه فيها النظام بالتواجد حتى وأن لم يشارك في الانتخابات أو أبطل صوته بالمخالفة للحقيقة وهي أن المقاطعة هي مشاركة أيضا، ولكنها المشاركة التي لا يريدها النظام ومن أجل التأكد من تحقيق إنجاز المشاركة الكبيرة لابد من ترويج خطاب المقاطعة العظيمة.
ورغم أن الكلمة الأخيرة تبدو للجماهير، لكن هناك دوما من يملك القدرة على الحشد بأسباب مختلفة وهو حشد قد يكون كافيا أمام الكاميرات وفي ظل خطاب التخويف القائم في التأكد من تحقق معنى التفويض المطلوب والذي لن ينافسه إلا مقاطعة كبرى تبرز حالة صمت وغياب عامة ولكنها ـ ولأسباب عديدة وفقا للمقدمات الحالية وبافتراض ثباتها ـ لن تحدث وسيكون على مصر بداية مرحلة حكم بتفويض جـــديد تصــاحبها مطالبة الشعب بالصمت إلى حين الحاجة إليه في انتخابات أخرى.
عبير ياسين