لست ناطقا رسميا ولا حصريا باسم الشعب المصري، وليس لي ـ ولا لغيري ـ حق ادعاء ما لا نملك، بل أنا واحد من عموم المصريين، اختار لنفسه أسلوب حياة، حماه من الوقوع في عزلة أبراج العاج وأبراج الإسمنت، وجعله دائما على التصاق بهموم الناس العاديين المكافحين، وبنبض الكتل الشعبية الأوسع، بآلامها وأشواقها في العيش بشرف وكرامة، وبمعاناتها المتزايدة في مواصلة بطولة البقاء على قيد الحياة.
وقد لا يكون من جديد، إذا قلنا إن أكثر الناس غاضبون، ليس لأن المصريين جبلوا على الغضب، بل على العكس تماما، فالمصري العادي أقرب إلى الرضا والتسليم، وإيمانه الفطري يجعله واثقا بقضاء الأقدار، لكن حذار من أن نفهم رضا المصريين على غير الوجه الصحيح، أو أن يسيء أحد تفسير الصمت الظاهر، فهو ليس دائما صمت الرضا، خصوصا في الظروف التي نعيشها الآن، بل هي فوائض صبر تاريخي، نخشى أن تكون لحظة نفادها اقتربت، فمصر تبدو في أغلب الأحوال هادئة كصفحة النيل، لكنها في لحظة عابرة قد تتغير وتتحول، وتنقلب مصر إلى بلد داهس كأقدام الفيل، وهذا ما يصح أن يفهمه ويحذره المعنيون من أولي الأمر، وقد توالت الشواهد والحوادث في الأسابيع الأخيرة، ناطقة قاطعة في مغزاها المباشر، وعلى طريقة انتفاضة الخبز المحدودة، ثم في الإضراب عن الطعام حتى الموت، وقد قامت به مواطنة عادية جدا، ليس لها ميل سياسي على الإطلاق، وقاتلت عن حقها بحياتها، وانتصرت يوم ماتت، ودخلت التاريخ المصري كأسطورة حية، وفضحت صفاء الكومي ـ وهذا اسمها ـ فساد دولة بأكملها، وعبرت عن وعي المصريين الجديد، وزوال خوفهم الموروث من سلطات القمع، وإبداعهم التلقائي لطرق الاحتجاج السلمي، وهو الإنجاز الباقي للثورة التي لم تكتمل، ولا وصلت إلى السلطة حتى الآن، وإن كانت تقاوم الهزيمة، حتى لو كان الثمن هوالاستشهاد الطوعي، وعلى نحو ما اختارت صفاء الكومي فلاحة المنوفية الباسلة.
ولا نريد لأحد أن يخدع نفسه، ولا أن يراوغ في فهم ما يجري، ولا أن يبحث عن شماعات عبث جهول، ومن نوع إنكار دواعي ومظاهر غضب ساطع، أو نسبة ما يلحظ منها إلى عفاريت «اللهو الخفي»، فالحقيقة أظهر من أن تنكر، والفجوة تتسع في اطراد بين الحاكمين والمحكومين، والمصريون شعب غاية في الذكاء والوفاء، لا ينكرون على مخلص إنجازه، ويقدرون ما يجري من إنجازات إنشائية كبرى، تجرى غالبا بإشراف وإدارة هيئات الجيش، وللجيش عند المصريين مكانة لا تخطئها عين، قد تكون تأثرت قليلا، لكن شعبية الجيش عند المصريين تظل هي الأعلى عالميا، ليس لأن الجيش جماعة من الملائكة، بل لأنه جماعة من نسيج المصريين، طباعه من طباعهم، وأحواله من أحوالهم، فوق مزايا الانضباط والجدية والكفاءة والفداء في ساعة الخطر، والمقدرة على التصحيح الذاتي حين تتوافر الإرادة، وهو ما لا يجده المصريون خارج الجيش، فالحكومة والبرلمان والجهاز الإداري في واد آخر، والفساد والتخلف وانعدام الكفاءة هي الملامح الغالبة، والفوضى تحكم وتعظ، وتحالف مماليك البيروقراطية ومليارديرات المال الحرام يقود البلد إلى الهاوية، ويكاد يغل يد الرئيس نفسه، ويهدر قيمة أي إنجاز يتحقق، فالإنجاز مع التسليم به، يبدو يتيما محاصرا ومحروما من تعبئة شعبية، تسنده وتطوره، ولسبب جوهري ظاهر، هو أن الإنجاز يجري بلا انحياز لأغلبية المصريين الساحقة من الفقراء والطبقات الوسطى، بل وبتعمد الإعدام المجازي لهؤلاء بالذات، وجعل حياتهم نكدا وهما، وبغير مقدرة على التوقف والتبين، والتصحيح الذاتي لاختيارات داخلية خاطئة في السياسة والاقتصاد، نرجو ألا يكون الأوان قد فات على إمكانية تصحيحها، وإجراء جراحة عاجلة بلا بديل، فلا بديل عن حوار وطني شامل، وتفكيك الاحتقان السياسي، وإطلاق الحريات العامة، وإخلاء سبيل آلاف المحتجزين في غير تهم العنف والإرهاب، و»جبر ضرر» أسر الضحايا، ولا بديل عن ملاقاة غضب الناس في منتصف الطريق، وقبل أن نصل إلى خطوط حمراء تندلع عندها نيران النفوس، فلا شيء في الدنيا يعادل قوة الناس إذا تحركوا، وهي القوة التي لا يغلبها غلاب، مهما تعاظمت قوة وتحصينات الحراس.
ونتصور أنه لا بد من برنامج تصحيح عاجل، يستمع إلى ما يريده الشعب، ويبنى على جوانب الصحة في الوضع الراهن، فمكافحة الإرهاب تجري بوتيرة معقولة، ومصر تواصل تضحياتها البطولية، والإرهاب مهزوم لا محالة في مصر، ولا أحد عاقل يتعاطف مع جماعات الإرهاب، لا في الفكر ولا في السلوك، لكن خطر الإرهاب يظل هو المصيبة الأصغر، ولا تقارن إلى مصيبة أعظم اسمها «الفساد»، والتسمية ذاتها قد تنطوى ضمنا على تواطؤ وتدليل، فما جرى ويجري في مصر، لا تفي بوصفه كلمة «الفساد» الهينة المراوغة، بل هو النهب والشفط وابتلاع البلد، وقد قال الرئيس مؤخرا أن خطر الفساد يساوى خطر الإرهاب، وهو إدراك أفضل عن ذي قبل، وإن كان لا يرقى إلى تصور حجم الخطر الحقيقي، فلا شيء أخطر من امبراطورية الفساد والنهب في مصر، التي نخرت بدن الدولة، وأصابتها بالإيدز القاتل، وبددت الثقة العامة، وانحطت بكفاءة الأداء، وجعلت المشهد كله أقرب إلى حطام وركام، وليس إلى نظام مفهوم، دعك عن أن يكون مقبولا.
وقد لا ينكر أحد جهودا تجري في الحرب على الفساد، من نوع تكليف «لجنة استرداد أراض» استعادت بضع مئات من ملايين الجنيهات، وتكليف «جهاز الرقابة الإدارية»، وإطلاق يده في العمل، بحيث لم يعد يمر يوم، دون كشف قضية رشوة كبرى، أو خراب ذمم ومعاملات، لا يستثنى جهازا إداريا ولا قضائيا ولا أمنيا، وكل ذلك جهد هائل مقدر، لكنه يضرب في الأطراف، ولا يوجه الطعنة القاتلة إلى قلب امبراطورية الفساد، فالضربات المتناثرة لا تقتل الفساد، والضربة التي لا تقتل كيانا تقويه، وتدفعه إلى تنويع أساليبه، والمرتشون ليسوا سوى نتوءات ظاهرة من جبل الفساد الغاطس، فالفساد في مصر نظام ومؤسسة وأسلوب حياة، ويملك نواصي التحكم والتشريع.
والفاسدون الكبار يغطون جرائمهم وراء عبارات فخمة، ومن نوع اعتبارات حماية الأمن القومى، وهو ما يعني ببساطة، أن غارات الرقابة الإدارية لا تكفي، والمطلوب إعلان حرب شاملة، تشرك الناس فيها، وتكنس البلد والدولة، وتقرر عقوبة الإعدام للفاسدين، وتدير «مذبحة مماليك» حقيقية، وحملة تطهير وإقالات وإحالات كبار المسؤولين للتقاعد، وهو ما يحتاج إلى قرار وإرادة سياسية ذات عمق شعبي، وليس بعيدا عنا ما يجري في العالم من حولنا، وحروب الشعوب ضد الفساد، وعلى نحو ما جرى في إطاحة رؤوس كبرى، من كوريا الجنوبية إلى البرازيل ورومانيا وغيرها، وفي وقائع فساد صغيرة، إذا ما قيست إلى فحش النهب بالمليارات والتريليونات في مصر.
وكنس الفاسدين قد لا يكفي وحده، بل لابد معه من كنس السياسات الفاسدة، من نوع العودة إلى تجريب المجرب المخرب، وإهلاك غالبية المصريين باسم برنامج الإصلاح الاقتصادي، واستسهال التجبر على الفقراء والطبقات الوسطى، وتحميلهم وحدهم تكاليف وفواتير إنقاذ الاقتصاد المنهك، وحرق سواد المصريين في أفران الغلاء، وبدعوى توفير تكلفة دعم الطاقة ودعم السلع الأساسية، والوفاء بشروط صندوق النقد الدولي، وهو ما قد يصح أن يتوقف فورا، وأن يلغى ما تبقى من برامج إلغاء الدعم وإشعال الأسعار، ومراكمة الديون والقروض الخارجية، والمضاعفة الفعلية لعجز الموازنة الذي يزعمون خفضه، وهي سياسة بائسة، تؤدي عمليا إلى هلاك أغلب المصريين، وإلى تحطيم ما تبقى من حصانة الاقتصاد المصري، والعودة إلى جرائم وخطايا الخصخصة، وقد سبق لمصر أن جربت ما يسمونه «الدواء المر»، وثبت أنه سم وليس دواء، يتنصل منه الآن صندوق النقد الدولي نفسه، ويتحايل لإثبات براءته من آثاره المفزعة، فقد قال الصندوق إنه لم يتوقع هلاك الجنيه المصري على النحو الذي جرى بعد التعويم، وقال إنه طالب الحكومة المصرية بإعادة فرض الضريبة على الأرباح الرأسمالية في البورصة، وهو ما لم تجرؤ على فعله، بل جمدت قانون ضريبة البورصة الذي أصدره الرئيس شخصيا، وألغت قانون الضريبة الاجتماعية الذي أصدره الرئيس أيضا، وتتراجع الآن عن دمغة الواحد في الألف التي كانت مفروضة على تعاملات البورصة، وهو ما يبرز طبيعة القوة المتحكمة في اختيارات الاقتصاد، وهي طبقة الواحد بالمئة التي تملك نصف إجمالي الثروة المصرية، وترهب الحكم بما تملكه من امتيازات، وتفرض عليه سياسة مص دم الفقراء والطبقات الوسطى، وبدعوى توفير ضمانات محفزة للمستثمرين و»المستحمرين»، وهم طبقة مليارديرات النهب العام، وقد تحالفت من زمن المخلوع مبارك مع مماليك الفساد في جهاز الدولة، وهو ما يفسر سياسة الحكم في «النأي بالنفس» عن المساس بمصالح الكبار، والتخلف عن فرض الضريبة التصاعدية المعمول بها في كل الدنيا الرأسمالية، أو إنهاء التهرب الضريبي، الذي تبلغ قيمته الرسمية سنويا نحو 400 مليار جنيه، أي أضعاف كل مبالغ الدعم التي يريدون التخفف منها، وتلك هي «أم المصائب»، فلا حل في مصر بغير التصنيع الشامل، وتعزيز موارد الدولة، بكنس الفساد، وإقرار قواعد العدالة الاجتماعية، وخلق اقتصاد إنتاجي، وبناء قوة مركزية، تتكامل فيها الصناعات الحربية مع الصناعات المدنية، وهو ما يجري العمل به جزئيا، وإن كان في حاجة إلى التحول لاختيار نهائي، يكسب به الحكم ثقة الناس المتداعية، ويصالح به أغلبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى، قبل أن تقع «الفاس في الراس»، وتتداعى وقتها قوة الحراس.
كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
الثورة المضادة قامت من أجل الإنتقام من المصريين , ونشر الكراهية بينهم , ومخاطبة الغرائز, والحديث عن نظريات المؤمرات الإخوانية وإختلاق الإرهاب لإعادة النظام القديم بكل إستبدادة وفساد أجهزتة .
النظام القديم الجديد يخير المواطن بين الخبز وبين الحرية , وبين الديمقراطية وبين الفوضي , وأحيانا يمنع عنة الخبز والحرية معا , من أجل توجية اللوم لثورة 25 يناير الإصلاحية .
مصر علي حافة الهاوية , ومازالت جمعيات المنتفعين الألكترونية تدافع عن النظام الذى يرفض بناء دولة حقيقية .
استكمالاً لما قاله الأخ الكروى داود النرويجى ..ليس من مؤشرات القبول فى الكليات العسكرية هو تدنى المجموع وانخفاضه فحسب ، بل لابد أن يكون من صميم من يطلق عليه الكاتب الألمعى اللامع رأسمالية المحاسيب التى يصول ويجول فى وصف فسادها المتراكم وفشلها الذريع ، فيها لم تفتح أبوابها إلا لهم ، ولم يقتصر القبول فيها إلا عليهم ..وحتى إشادته بالمنقلب وتوصيفه بالرئيس {كان نفس الكاتب يكيل له و لمؤسسته التى يجعلها فى مصاف الملائكية الكثير من الاتهامات التى تخطت حاجز الفساد ووصلت لحدود الخيانة (!)}يناقض الكاتب نفسه كثيراً ، فمريده المعبود ودرويشه المهيطل زعيم ذو يد مغلولة ويترك الفساد متغلغلاً فى مؤسسات دولته ، وحتى قراراته بهذا الشأن يتم إلغاؤها من مرؤسيه ، ويعلم الكاتب وبشكل يقينى أن من يدافع عنه هو امتداد طبيعى لمبارك