كثيرون هم،الذين يقتحمون فضاء الكتابة الشعرية،دون أن تكون لهم دراية بمسالكها التي تبدو من وجهة نظرهم الشخصية ،مختزلة في التفاعل مع بعض المواقف الفكرية أو الأخلاقية،أو الانفعالية التي تمدهم بها وقائع اليومي ،دون أن يتوفقوا في تحويلها إلى تجارب شعرية،تهتدي بطريقتها الخاصة إلى بنياتها التعبيرية،علما بأن المواقف الفكرية،أو الانفعالية ،تمتلك وسائطها التعبيرية الخاصة بها ،مع التأكيد على أن الرسالة ذاتها،ومن خلال رؤية جد مغايرة ، تكون قابلة لأن تتبلور في أكثر من صيغة فنية،أو جمالية،أي في صيغة هوامش مستقلة،وقائمة الذات،لأن الحدث الواحد،قد يجد تعابيره المتعددة في الفكر و الموسيقى،و التشكيل،كما في الهندسة والشعر.ذلك أن بنية فكرية و فنية مفردة،لن تفي بالتعبير عن الرسالة الواحدة،أو الحالة الواحدة.مع التأكيد على أن كل نسق تعبيري يختص بقوانينه و إوالياته،وعدم إدراك هذا الاختلاف،يؤدي إلى سوء فهم كبير،بسبب الخلط الذي يمكن أن تتورط فيه بعض التجارب،بتوظيفها لبنيات تعبيرية غريبة عن أنساقها،كأن يلجأ الكاتب إلى بناء خطاب فكري،يحرص فيه على استحضار المكون الشعري،والمتمثل في ما تيسر من المحسنات البلاغية،التي تظل عاجزة عن تحويل مسار الكتابة من سياقه الفكري،إلى آخر شعري،وهو خلط يمارَسً من قِبل أغلب الكتابات التي تُجهِد ذاتها من أجل الفوز بنص شعري،في حين،لا يتمكن النص ذاتُه،من تجاوز حدود خاطرةٍ،قد تكون ذات مضمون سياسي،أو تأملي،وفي حالات قصوى،تكون قابلة لأن توظف كأرضية لكتابة شعرية مطبوعة بسذاجتها وأوهامها.و بالنظر إلى ما يمكن أن يحظى به هذا التوجه من ترحيب،فإنه يُدرج خطأً،أو تعسفا ضمن خانة النصوص الشعرية ،التي تستند في استمالتها للمتلقي على الرسالة الفكرية ،أو الانفعالية المضمرة فيها،أكثر من استنادها على الطاقة التعبيرية التي تعتبر الحجر الأساس في كل كتابة شعرية.
وهذا الخلط لا يسلم منه حتى الشعراء الكبار،بفعل انقيادهم القسري لإغراء أشرطة الحياة الاجتماعية والسياسية،التي تتحول إراديا إلى فخاخ إخبارية ،تشل حركية الطاقة الإبداعية ،السارية عادة في أوصال الكلمات ، بسبب الانعدام الشامل أو النسبي لشرط الانتقاء،الذي يُعتبر عاملا أساسيا ومركزيا في تحبير النص،لأن الشاعر معنِيٌّ بتوخي الحذر في تفاعله مع التدفق الغزير والمتتالي لأنهار اليومي،التي تجرف بشكل عام كل اهتمامات التلقي،محولةًً الأفراد والجماعات إلى مجرد مستهلكين،لا قِبَلَ لهم بممارسة أيِّ مستوى من مستويات التأمل الذي من شأنه التدقيق في طبيعة الماهيات،والأنواع،والأشكال.في حين يكون الشاعر مطالبا إلى حد ما،بإحداث نوع من التعطيل التقني والجمالي،في حركية هذا التدفق،كي يتسنى له القيام بعملية انتقاء جمالي وفني،يتحقق على حساب إهمال كافة العناصر التي لا تنتمي بالضرورة إلى النسق الشعري،خاصة وأن الشاعر ليس معنيا بالإحاطة المجانية بكل ما تفرزه العناصر المركزية من تداعيات ،باعتبار أن الإحاطة التي تبلغ ذروة الإشباع،تؤدي إلى إلغاء المسافة التأملية،التي على أساسها تنبني شعرية العلاقات السرية القائمة بين الكتابة و أشياء الوجود.وهنا تحديدا تكمن أهمية الانسحاب المؤقت والوظيفي لذات الشاعر من قلب الصخب العام ،كي تتأتَّى له إمكانية ضبط وتفكيك ما تمت معايشته،وبالتالي إخضاع هذا المعيش لحركية التأمل،و لدينامية المساءلة الشعرية،حيث لا قيمة لمعيش خارج الفاعلية التأملية.وهو أمر لا يتحقق إلا على ضوء عملية الانسحاب/ الغياب المؤقت والوظيفي،حيث يتم تملك وانتزاع الهبات الشعرية من جبروت طوفان الواقع.إن الشعري في هذا الإطار،هو بمثابة مادة نادرة واستثنائية، مصهورة في معادن جد مضلِّلَة ، والتي تكون مندرجة بحكم العادة،و بشكل طبيعي،في الحياة العامة.
إن الخضوع إلى عنف التدفق اليومي،يؤدي إلى ردود أفعال آلية،قادرة على إنتاج نصوص عاطفية،أو تأملية،إلا أنها لا يمكن بحال أن تنتج نصوصا شعرية،و هناك غير قليل من الكتابات النظرية التي تحاول تفنيد هذا القول،بتأكيدها على تألق تجارب بعض المبدعين، الذين أنجزوا أعمالا طلائعية،وهم تحت ضغط حالات سيكولوجية أو جسدية، علما بأن هذه الكتابات تشتغل خارج المساحة الفكرية،أو المساحة التأملية التي تعنينا في هذا السياق، ذلك أن وقوع الشاعر ضحية حالة من الأحوال الداخلية أو الخارجية ،هو الذي يبرر تحرره الضمني من تحمل أية مسؤولية، قد يكون من شأنها صرفه عن ممارسة فعل التأمل الشعري. بمعنى أن كتابة النص لا علاقة لها بحالة التوتر السيكولوجي أو العصبي،بل هي وثيقة الصلة بالمساحة التأملية،الناتجة عن هذه الحالة،كي نخلص إلى القول بأن استمرارية الانصراف عن مواصفات طقس التأمل،هو انصراف فعلي عن ملابسات تجربة الكتابة،كما أن التقطعات المتتالية في عملية التركيز الإبداعي،قد تنتهي باقتلاع جذوره كفعل و كممارسة.و غني عن الذكر،أن الامتثال إلى سلطة تدفق الوقائع في شريط اليومي،يؤدي إلى تسطيح الوعي الشعري،الذي يستمد حيويته من حد انسحاب مؤقت،يسمح بتمثل الجوهري والمفصلي.ومن المفروض أن يتوفر ثمة،وعي مسبق بحضور الذات داخل طقس الكتابة،أو بتواجدها خارجه،حيث ليس لها أن تغامر باقتحامه في حالة حضور التباسات العائق،غير أنها لا تلبث في حالات أخرى،أن تنتشي بتواجدها الفعلي داخل الطقس،مستسلمة لمتعة الإنصات إلى الوارد،دون أن يعني ذلك حتمية توافر أهلية الكتابة.أيضا يحضرنا في هذا السياق، ذلك الفراغ الكبير الذي يمكن أن يستبد بالذات الشاعرة،والذي تنعدم معه أية امكانية للإطلالة على الدواخل،من أجل تحريض الكلمات على بعضها.إنه الفراغ الذي يكون امتدادا لذلك الاستغراق الطبيعي والتلقائي في حالة اللاَّقول وخالات الحبسة،التي تستبد بك حينما لا يكون ثمة اي شيء منك هناك،أي حينما تتحول إلى مجرد عنصر ثانوي،ضمن باقي العناصر المحيطة بك.أنت الآن محض شيء. وهذا ليس عيبا. وبعيدا عن سلطة التدفق العدواني لطوفن اليومي ،تكون القصيدة المغايرة،وفي مستوى متميز من مستوياتها،مشتغلة في قلب المتخيل،باعتباره واقعا حقيقيا،حيث يستحيل القول باستقلاليته على أساس انتمائه إلى بنية سيكولوجية أو جمالية منغلقة على ذاتها ،لأنه وعلى النقيض من ذلك ،يمتد في قلب الواقع المشترك،حيث تنعدم الفوارق بين الطرفين،و في حالات قصوى، يمكن للمتخيل أن يحتوي حدود الواقع،كي تصبح له خصوصية أصلٍ تتأسس عليه الحقائق،حيث يصبح التفاعل مع المتخيل،و بحكم سلطة الشعري الكامنة فيه،أكثر عمقا من التفاعل الواقعي.و في هذا السياق تحديدا ، يجب التنويه بأن هذه الرؤية تمتلك إوالياتها الخاصة بها،سواء من حيث دمجها للواقع في المتخيل،أو من حيث تخصيصها للمتخيل بأهمية لا تعود إلى اعتباره نقيضا للواقع،بل باعتباره الأرضية الفعلية، التي تتشكل عليها الكينونة.هذا التعامل،هو الذي يساهم في نسج تلك العلاقة الجديدة بين شاعر مختلف،يعيش حياة مختلفة،ويكتب قصائد مختلفة ،تنأى بدلالتها، عن دلالة الإيقاع الآلي للحياة.إن الاستثناء هنا،ليس امتيازا يجعل من الشاعر ذاتا تتجاوز حدها البشري الطبيعي،ولكن فقط من حيث الاختلاف الجذري ،والملموس في آلية تمثله للمعيش،وفي آلية التقاطه للعناصر، في أفق إعادة صياغتها.و بالتالي، فإن أسئلة القصيدة الحديثة،لا علاقة لها بأسئلة العامة،هذا الاختلاف، وهذا التمايز، ينبهنا إلى حضور أكثر من حياة في الحياة المشتركة،إنه نوع من التنبيه الخفي الذي يدعونا إلى ضرورة الاهتداء،والتعرف على تلك الأسرار،التي ربما تشتغل في دواخلنا،دون أن يكون لنا علم بها.إن كل ما يراه الشاعر وحده دون سواه ،هو موجود فعلا،واللغة أصلا،تقوم بدور تأكيد هذا الوجود،بصرف النظر عن مكانه ،وبصرف النظر عن الصيغة التي يوجد عليها،وعن الأنساق التي ينتظم فيها.
شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني