ظاهرة جديدة غدت تفرض نفسها بحدة اليوم، في مشهدنا الشعري العربي، ومنه المغربي، وإن كان ذلك بشكل متفاوت، كصرعة وموضة، مافتئ الشاعر المعاصر يوليها اهتماما كبيرا. إنها هجرة النصوص الشعرية العربية، إلى لغات/ سياقات ثقافية أخرى، سبيلها الأثير إلى هذا السلسبيل، الترجمة.
فبعد أن تُرجمت مجموعة من المصنفات والروائع الأدبية العربية، برغبة وبمبادرة من الوعي الآخر، أعمال فجرها الحراك الثقافي الذي عاشته العواصم العربية، زمن مدها الحضاري، وانفتاحها الثقافي، كالمقامات، وألف ليلة وليلة، وفلسفة ابن رشد، وعرفانية ابن عربي وغيرها، مبادرة استحكم فيها الاستشراق المُنشطر، على كل حال، إلى حركتين: الأولى ترجمت تراثنا بشكل منصف، وعادل، وموضوعي؛ وأخرى ظلت محكومة بالطهرانية ومبدأ الأحقية في إطار أصولية فجة، وعرقية سافرة، وتعاملت، من ثم، مع هذا التراث بنوع من الانتقائية، ذات النزوع الاستعماري، إذ يقول، هنا، إدوارد سعيد «فلذلك ببساطة أومن بأن الاستشراق كان هو نفسه نتاجا لقوى ونشاطات سياسية معينة»، أعود وأقول، فبعد أن تهافت الاستشراق على هذه النصوص، وكرّس من خلال ترجماته، المغرضة في الغالب، صورا نمطية وسلبية للعربي في الذهنية الغربية، نلفي أنفسنا اليوم، أمام إهمال وتهميش، لا تخطئه العين الفاحصة، بشكل قاس للأدب العربي الحديث تصديرا، أقصد.
والسبب في اعتقادي المتواضع، يكمن أساسا، في كوننا لا نمتلك مشاريع سياسية في الترجمة، ولا حتى نية جادة في هذا الاتجاه، فكيف لنا أن نصحح صورتنا المشوهة في ذهن الآخر؟ وكيف لنا أن نساهم في الإنتاج، حتى نكون جديرين بهذا العصر؟
ولأهمية هذا الفعل المارد، والعصي دونما انقطاع، نتساءل: ماذا تعني الترجمة؟ ألا يمكن اعتبارها سبيلا للعالمية، أي المشاركة في مستلزمات الحداثة الكونية؟ ألا يمكن اعتبارها كذلك، وسيلة للحوار والسلم والتعايش, لا كيرا يوقظ جذوة الأحقية والأصل والتمركز؟
قال هايدجر ذات مرة «قل لي رأيك في الترجمة، أقول لك من أنت».
الترجمة، على هذا الأساس، هي دوما وأبدا وسيلة للاقتراب من الآخر، حيث تقبع الذات، وذلك من أجل اكتشافه والتواصل معه، في الوقت نفسه، هذا تحديدا ما يقوله ريتشارستملمان، حين حديثه عن حوارية باختين. هذا الأخير بدوره يصرح بأننا «لا نستطيع الإحساس باللحظات الأكثر أهمية في حياتنا، إلا عبر الأشكال التي تأخذها هذه الأخيرة داخل وعي الآخر، داخل مرآة، عاكسة للغير، ويستحيل علينا إدراك الإنسان خارج العلاقات التي تربطه بالآخر».
ولعل الحفر الأركيولوجي، الذي قام به الثنائي المغربي عز الدين الخطابي وإدريس كثير، بمعاول التنقيب في جينيالوجيا المعرفة، أيضا وعطفا على ذلك، وإن بشكل قوي هذه المرة، ما قام به عبد السلام بنعبد العالي وطه عبد الرحمن في الدرس الفلسفي المعاصر، يفيد كثيرا في هذا المجال. إن جاك دريدا، حسب الثنائي إدريس كثير وعز الدين الخطابي، وهو يبحث في مفهوم الترجمة، ينتهي إلى القول، بأن هذه الأخيرة، مستحيلة ومتعذرة.
ومن هذه الحافة، يُقسّم دريدا الترجمة، إلى حرفية وأخرى مؤولة، الأولى تقوم بنسخ النص الأصلي، بشكل مبتسر وسافر على حساب المعنى، أما الثانية فتعمل على تبيئة المدلولات بمراعاة السياق وخصوصيات الثقافة المستقبلة.
وعلى النحو الأخير، كنتَ تجدُ ابن رشد يحاول فهم وشرح أرسطو، آخذا بعين الاعتبار الوازع القيمي- الديني المهيمن في الثقافة العربية الإسلامية، كثقافة مُستقبِلة. وهو بذينك عملَ على تأصيل أسسِ التفكير الفلسفي عند المعلم الأول، في ثقافتنا العربية الإسلامية المحافظة دونما شروخ أو فجوات. وعليه فإن الترجمة الأصيلة، على ما يبدو، هي وسيلة للاقتراب والدنو من الغير، لا بهدف التماهي والتماثل، وإنما بغاية الاختلاف والمغايرة. إنها حوار، لا محيد عنه، بين الثقافات، حوارٌ، يقول إدريس كثير، «لا ينحصر في المناقشة أو الجدال أو السجال أو التناظر، إنما يتعداه إلى حوار الجسد وحضوره، إلى إيقونات المجتمع ورموزه وإبداعات الفن والأدب وبلاغته».
وليس من شك، عودة إلى دريدا، أن هذا الأخير، قد انتصر بشكل كبير، لفكرة استحالة الحديث عن الترجمة الأمينة، وكذا المراهنة عليها، ما دفعه لأن يستبدل مصطلح الترجمة بمفهوم التحويل. وهنا بالضبط يتوجّبُ استحضار الحكم الشائع، في حق الترجمة، بكونها غشا وخيانة للنص الأصلي.
ولئن كانت اللغة، بتعبير هايدجر، مسكن ومثوى الوجود، ذاك الذي لطالما تعرّض للنسيان، فإن المقارنة بين اللغات (الترجمة)، باعتبارها خيانة، قد تُصبح أحيانا خيانة للوجود في ذاته، أو بالأحرى تغدو فعلا يؤسس للغياب والنسيان، لا التذكر.. تذكر المنسي واللامفكر فيه. طبعا نتحدث هنا عن الترجمة، كتحويل حرفي ينهض على الثني، ثني اللُّغة وما تكتنزه، لا الترجمة الأصيلة. ولما كانت الترجمة حوارا هادئا بين الثقافات، كما يرى البعض، فإننا نعتبرها المدخل الحقيقي للشعر المغربي نحو العالمية، استيرادا وتصديرا. إنها أفق حداثتنا الشعرية. والترجمة المجدية، في نظرنا، لا يمكن أن تكون إلا، من وإلى لغة كبيرة، من لغات العواصم المركزية، لأن ذلك يُعدُّ «نوعا من التكريس للعمل الأدبي».
وبتحقيق الانتشار الواسع والاستهلاك الكوني، يُصبح شعرنا، مشاركا بالفعل في التحديث. إننا، بنقل أعمالنا الشعرية إلى لغات مهيمنة تستحكم في الترويج والتسويق، نجانب الانغلاق ونُذعن للعبور. نتجاوز ميتافيزيقا الشعرية (تلك التي تهيئ كل شيء سلفا ولا تقبل بالحوار)، ونمنح أنفسنا فرصة قراءتنا، بشكل مختلف ومغاير تماما، بل إن شئتم القول، نصحح صورتنا في ذهن الآخر، لم لا إننا بذلك نمنح النص إمكانية أن يحيا مرة.. بل ومرات أخرى.
ولكي نؤهل قصيدتنا لهذا العبور يرى الدارس محمد بنيس، أن الكتابة «بالعربية وحدها لا تكفي لتجعل من قصيدة قصيدة عربية»، هذا يعني أنه يتعين علينا أن نتجول داخل، مخيلة الآخر كذلك، وأن نكتب من داخلها، سيكون ذلك مفيدا لا محالة. ويستأنف محمد بنيس قوله «شعر الغرب مسار جديد، قلب للوعي الشعري وللمصير الشعري»، بل يصل به الأمر إلى حد القول «أما المرجعية الغربية فهي المرجعية التي لن يحيد عنها فريق حتى دعاة الأدب الإسلامي». وهنا نبادر ونسأل السيد محمد بنيس، عن أي غرب يتحدث؟
وإذن العبور، على متن الترجمة، هو قدرنا المحتوم ، وفي كل عبور، في كل ترجمة «مصير وكلام مستور لمصير شعري، هو أسماء الحداثة بامتياز يزوبع القصيدة، يرحل بها في المجهول الذي يتعمم قليلا قليلا».
٭ شاعر وكاتب مغربي
محمد الديهاجي