يحيلنا سؤال علاقة الشعر بالتشكيل، على حدين مركزين من الحدود الجمالية والفكرية، اللذين يمتلكان معا إمكانية التفاعل في عمل إبداعي مشترك، حيث يحضر إشكال الرؤية، بأبعادها البصرية الملموسة، في تواز مع الحضور المتعدد للفضاءات التي تمارس فيها هذه الرؤية ترحالها التأملي، الفكري والإبداعي. وطبعا في تضاعيف السؤال ذاته، تحضر اللغة الشعرية، في ازدواجية بنيتها المرسومة والمسموعة، أي باعتبارها أشكالا حروفية مرسومة، إلى جانب تمظهرها في صيغة أصوات متدفقة على امتداد الصيرورة الزمنية، كما يحضر في الوقت نفسه، الحد التشكيلي ضمن مرجعيته الأيقونية، متسما بتموضعه خارج هذه الصيرورة الزمنية، بما يمكن توصيفه نصا/عملا تشكيليا، أو ما يتعارف عليه عادة باللوحة.
وكما هو ملاحظ، فالأمر يتعلق هنا بالبحث عن المنهجية التي يتحقق من خلالها تفاعل الشعري والتشكيلي، وقد اندمجا معا في علاقة جديدة ومغايرة، قد تكون سببا في إنتاج نوع إبداعي جديد، هو جماع تفاعل تجربة الشعر مع تجربة التشكيل، حيث سيتعذر الحسم في اختيار الزاوية، التي تنبعث منها أشعة الرؤية. إنه التساؤل الإنكاري، عن قدرة العين على قراءة ما يكتبه الكون من نصوص، وقد غدت مجسمة ومشكلنة، فضلا عن كونها قادرة في شقها اللغوي دائما، على استعادة بعدها الخطي والصوتي/الشفوي.
إن التورط في جمالية هذا النوع الإبداعي المزدوج، «على الأقل بالنسبة لي شخصيا، ممارسة وتنظيرا»يذكرنا لا محالة بذلك القذى الذي تكون العين دائما معرضة للإصابة به، إذ تكون الرؤية مهددة تباعا بسقوط الحجبِ الفاصلة بينها وبين حقول رؤيتها، حيث الوقوع في الخلط بين حقائق المرئيات يظل واردا ومحتملا، بفعل التداخل المباغت واللامنتظر، الذي يمكن أن يحدث بين الألوان والأحجام، وحيث في كل لحظة يحتمل أن تتحول الصحراء إلى بحر، والأرنب إلى فكرة، والصمت إلى جزيرة صغيرة، ضائعة في رهبوت المحيط.
هذا الخلط المحتمل بين المرئيات، قد يؤدي إلى هدمها تماما، كما قد يحولها إلى عجين قابل لأن يأخذ أكثر من شكل. غير أن هدم المرئي أو محوه، لا يعني دائما تعطيل الميكانيزم الطبيعي، الذي تشتغل به الذاكرة البصرية، ذلك أن هذه الوضعية الطارئة بفعل الانحرافِ الذي يحدث أن يطول مسار العلاقة المتبادلة بين العين والمرئي، قد تحرر الكائن من امتثاله إلى سلطة الخلط. هنا يأتي دور اللغة/الكتابة، ربما بغاية التخفيف النسبي من هذه المعضلة، عبر تدخلها في إعادة ترتيب عناصر المشهد المعني بالرؤية، كي يستعيد وضعيته الطبيعية والموضوعية. خذ مثلا تحديقتك الطويلة في أنف المهرج المقيم فيك، والتي ستظل بحاجة ماسة إلى لغة مكتوبة أو مسموعة، تؤكد لك أن ما تراه حقا، هو أنف المهرج، وليس فاكهة من فواكه الجحيم. غير أن الطريف في لغة الشعر، خاصة منها المنزهة عن ارتياد فضاءات الابتذال، هو تمردها الدائم على السلط التقليدية، التي تحاول عبثا أن تكرهها على أداء مهامها، وفق ما تقتضيه قوانين التعيين والتحديد، الحريصة على أن تظل الرؤية مخلصة لمجالات اشتغالها المتعارف عليه، مستجيبة في ذلك لأمر مضاعفة عماها. إلا أن تمسك العين بالإعلان عن تمردها، يهدف إلى تصحيح رؤيتها لأشياء العالم، كي تكون رائية وفق قانون الخرق الجمالي، أو بالأحرى وفق قوانين لغة لا علاقة لها باللغة المتداولة.
إن الأمر يتعلق هنا بفعل التحابك/التفاعل، المتبادل بين التشكيل والشعر، بغاية التخفيف من غلواء اللغة، ومن أجل المصادقة على حق العين في الاهتداء إلى مرئيها، كي يتأتَّى لها امتياز التعرف على ما تراه، دونما أي سند لغوي، بما يتيح لها فرصة ممارسة متعة الخلط، خاصة حينما لا يحيلنا الشكل المرئي على شكل معلوم، أي حينما يحيل على ذاته فقط، حيث تضيق مساحة المقايسة والمقارنة، وحيث يختفي الشبيه بعيدا عن مجال الرؤية، لأن التخفيف من غلواء اللغة، غالبا ما يؤدي إلى حضور شيء آخر، يمكن أن يقال بلغة مغايرة للغة.
إن استحضار العمق التشكيلي، في قلب هذا النوع الإبداعي المزدوج، هو استحضار لشرخ غير متوقع، يحدث في الإطار الذي تُسَوِّر به اللوحة ذاتها، كي يتدفق فيْضُها خارجه. قد يكون هذا الشرخ وسيطا للعبور إلى الفضاء الخارجي للإطار، أو إلى ما يوجد في داخله، بدون أن نكون متأكدين من أن الأمر يتعلق باستضافة متبادلة بين الشعر والتشكيل، أو بمجرد اختراق مبيت لأحدهما، تسلُّلٍ سري، أو مداهمة جريئة لخلوة مسيجة بقوانينها، وبأعرافها القديمة والجديدة. من المحتمل أيضا أن تكون تقنية الشرخ، شاهدة على وجود مرئيين، يستقل كل منهما بفضائه الخاص به وبلغته المتفردة. ذاك هو رهان اللوحتين الموجودتين، داخل إطار مزدوج تتقاطع فيه لغة الشكل، مع شكل اللغة. أما الأصل في ذلك، فيعود إلى تلك العلاقة الغامضة والشائكة القائمة بين هوية القول الشعري، والحالة القبلية المولدة له، أي حالة»ما قبل زمن انكتاب القول «وهي اللحظة التي تعلن عن حقيقة وجودها في ذاكرة القول وذاكرة الجسد، قبل أن يكون القول قد شق طريقه إلى أرض اللغة. إنها الحالة التي تنقاد إلى شميم روائحها، ضواريك التي تجبرك على أن تكون هناك تماما، حيث لا يريدون هم لك أن تكون. أعني الآلهة والأنبياء، القديسون، وأيضا رَعاعُ الرحمن، علما بأن حالة ما قبل القول، لا يمكن أن تكون صافية تماما من سمات القول، ومنزهة عما هو حاضر فيه، لأنها موشومة بأثر مرجعيته الحياتية والوجودية التي تمتلك كفايتها الأسطورية، على الانتقال من زمنها الهلامي إلى زمن الكتابة والتشكيل، وهي المرجعية التي تقترح علينا إمكانية أكثر من حياة، وأكثر من كينونة، وبالتالي أكثر من نص.
إن المرجعية الوجودية، خاصة في تجسدها المكاني، هي فضة الظل، التي تتلذذ بترنيمة أنفاسها، منذ إطلالة أول الليل، إلى تكشيرة أول الفجر، والتي لا يغمض لها جفن، إلا داخل الإطار المزدوج، كي تلقي بك خلال تأملك فيه خارجه، حيث يمتد ظل الحرف، متخذا أشكالا لا قبل للدلالة بها، وحيث سنكون في حاجة ماسة إلى من يدلنا على ذلك الحوار السري، القائم بينه وبين أشكاله التي يتقمصها خلسة. شخصيا يروق لي أن أتسلى كثيرا بهذه اللعبة الخطرة، لعبة تماسٍّ جمالي، بين كتابة الشكل وشكل الكتابة، والعكس بالعكس.
في تجربتي الأخيرة «بأنامل الضوء» اقترحتُ على النوعين معا، فكرة أن يتساكنا داخل اللوحة و لو مؤقتا، في انتظار فرصة العثور على احتمالات جديدة لتحاورهما، لتساكنهما، وتعايشهما، طبعا، ثمة إمكانية لقراءة هذه العلاقة، على ضوء القضايا النظرية التي تطرحها «جمالية القناع»، لكن، وبعيدا عن الخوض في تفصيل الإشكاليات الفلسفية أو الجمالية للمفهوم، سنكتفي بالإشارة إلى ظاهرة ذلك التمنع الملموس والدائم الذي يلازم كلا من الحقيقي والواقعي، كلما وجدا في أحد المقامات الشعرية، بفعل البلبلة التي تحدثها شراسة الإبدالات الدلالية، التي لا حصر لأشكالها ولخصائصها، بإيحاء من مناورات القناع التي لا يكف عن ممارستها على أشكال العالم، حيث يتعذر التسليم المطمئن بتطابق الشيء مع اسمه. ولأن الشاعر تعود على مخاطبتنا، من وراء حُجُبِ مجازاته اللغوية، فإن لعبة تفكيك نصوصه، هي في الأصل شكل من أشكال تفكيك مكونات القناع، ليس بالضرورة من أجل رؤية وجه الشاعر، ولكن ربما، من أجل اكتشاف أقنعة مجازية، يختفي الواحد منها خلف الآخر، بدون معرفة واضحة لسبب هذا التخفي، الذي يمكن أن يكون قدرا محتملا من أقدار الكائن، علما بأن الوجود، لا يتحقق إلا عبر هذا التناسل اللانهائي للأقنعة. وفي حالة ما إذا اعتبرنا المجاز اللغوي، هو أيضا قناع جمالي، يحتفي به الشعر ضمن أقنعة أخرى، فهل يمكن اعتبار التشكيل هو أيضا قناع من طبيعة مغايرة؟ أم هو مجرد محاولة لتمزيق ما يضعه الشعر على وجهه، ووجوده من تلوينات وأشكال تمويهية؟ أم هي خصوصية الشعر، التي تميل خلسة للتخلص من احتكار اللغة، وفي الوقت نفسه من سلطة الكائنات البصرية، الموجودة داخل إطار الكون، كي تنفتح على عالم مغاير، يمتلك رحاباته، ورؤياته الخاصة به، للذات للكون ولِلُغات الأشكال.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني
الحديث عن علاقة الشعر بالتشكيل حديث ليس بالغريب ، فالاعتماد على تركيب الصورة عنصر إبداعي مشترك بين الاثنين ، فلا شعر بلا صورة مركبة تركيبا موحيا وجميلا ، ولا لوحة جاذبة بلا إيقاعات الخط واللون والبعد المعمق لفحواها.
من هذا المنطلق تظل القصيدة لوحة بشكل ما مفتاح التواصل معها القراءة ، وتظل اللوحة قصيدة مفتاحها مواجهة مؤثثتاها مسلحا بخلفيات وبذاكرة بصرية تخول للمشاهد القارئ الانخراط في تأويلات خاصة .
إن الشعر والتشكيل متفاعلان تفاعلا بصريا ووجدانيا متينا . والحال أن بعض الشعراء ينطلقون من لوحات لكتابة أشعار جميلة ، و بما أن الشعراء ينطلقون من فكرة أو مشهد مؤثر يدفعهم للكتابة ، فإن من شأن اللوحة حين تصير عميقة المبنى والمعنى أن تعفيهم من ذلك فتصير هي المنطلق وهي الشرارة ، وبذلك تتكامل القصائد مع اللوحات في التعبير الجميل عن دفء المشاعر و تأثير اللحظة وعمق الإحساس بالمرئي واقعيا كان أو متخيلا.
تحياتي وتقديراتي للكاتب المغربي رشيد المومني.