ليس من «الشعرية» في شيء أن نعتبر الشعر خارج أي تأسيس مفاهيمي للنظرية الأدبية والعلمية على السواء؛ فالشعر كممارسة وتلق هو موضوع يؤسس للإنساني، أقصد المخيال الذي يشكل الذات الأصيلة ويمفهم للثقافة بشكلها العام، فالخيال كما يؤكد على ذلك آينشتاين هو أساس المعرفة؛ وأعتبر تحويري لكلمته هنا «أهم» تؤدي المؤدى نفسه بقولي «أساس» المعرفة، فالمعرفة كمقابل ابستيمولوجي لـ»الجهل» بالمعرفة كمعنى محدد- لكن أيضاً- أحادي؛ هي أساسا معنى معين للمعرفة يقصي كل محاولة بناء تتم من خارج المفهوم الغربي للعقل أو ما يتناقله العالم الغريب عن الثقافة الغربية (وهذه غرابة أخرى)، وغالباً ما تتم هذه الغرابة الأخرى من وجهة نظري، بشكل تطرح فيه المعرفة إشكالاً ثالثاً لا يمت بصلة للأنا ولا للآخر! هذه الإشكالية التي لا تنبثق عن حاجة جماعية ولا فردية، وإنما هي واقعة في صلب الوجود كوعي منفرد ومتفرد داخل هذا وذاك، وإذا ما افترضنا جدلاً أن معنى الوجود يظل إشكالياً في الحسم المعرفي لقضية الهوية في شكلها الأكثر تعقيداً اليوم، من خلال ربط جميع الامتدادات ببعضها ومن ثمة بأصولها، وهو في رأيي عمل مطلوب الآن أكثر من ذي قبل وله راهنيته (سآتي على ذكر الأسباب لاحقاً)، فالعلم وأتكلم عن العلوم الإنسانية بشكل عام، وعن العلوم الاجتماعية بشكل خاص الآن، في حاجة إلى إسهام هذا العالم الغريب عن الغرب فيها عبر النقد أولاً، ومن ثمة الإبداع عبر الإسهام المباشر من دون استئذان، هذا العالم الغريب لا يحتاج فقط إلى المساهمة، لكن إلى نقد ذاتي عنيف ومجهود ضخم في بناء «النحن الجمعية» الخاصة به كما يسميها غوستاف يونغ، أو ما نسميه في المغرب بـ»الهوية».
وأول ما يجب القيام به هو «نقد معجمي للمصطلح» ليس عبر توحيده أو خيانته، لكن «تزييفه» إن لم أقل «تشويهه».
الاشتباك المعرفي عبر الفكر الحر وليس عبر النقل الأهوج للمعارف بمناهجها، فذلك نقل آخر للعقل هذه المرة ولا يخلو من الغلو والغباء في شيء عن نظيره «الحروفي الأصولي»، مع الحفاظ على العمق المعرفي للتاريخ كمستقبل متجذر.
هذه القطيعة المزدوجة، هي أيضاً إبداع جذري بحكم قوة الوجود الأصيل غير الناقل بشكل أعمى، وهي إن صح التعبير «وجود ثالث» يناقش فكرياً ما يسمى بـ»الثالث المرفوع» في المنطق الأرسطي، الذي ينفي إمكانية وجود احتمال ثالث للمعنى، فالمعنى إما أن يكون أو لا يكون نهائياً، وهنا أرجع إلى «معنى الوجود» كمبحث ميتافيزيقي أساسي لأي شكل فكري يؤسس من منطلق الذات، كحاجة لمعرفة ما اسميه بـ»درجة الوجود»، وليس فقط معرفة أساس الوجود الذي نجمع عليه، سواء اختلفنا أم لا، لكن «درجة» الوجود وأصر على هذا التعبير هو صلب إشكال الهوية كوعي داخل الوجود، وبالتالي هو المنطلق لأي معرفة ممكنة.
سيطرح ذلك إشكالية ما مدى إمكانية المعرفة بالنظر إلى أزمة الوعي في ارتباطها بالوجود والجسد ، وليس بالنظر إلى معنى المعرفة إزاء الألفة أو الغرابة، وهنا آتي إلى عنوان هذا النص لأعمق طرح الإشكالية مبدئياً.
أعتقد أن دور الأدب أولاً ثم الشعر ثانياً هو معرفة هوية الذات الكاتبة أساسا، فهو إن صح التعبير «كوريغرافيا للفكر» وبالتالي فكر للجسد، وتتضح هذه المسألة بالملموس لكل ممارس للكتابة كمتعة وليس فقط كمهنة محض، فالممارسة لا تعني التمرس أو المهنية بقدر المتعة التي نجدها في ممارسة الشيء الذي ننكب عليه، تلك المتعة هي التي تعطي شكلاً معيناً لذلك الشيء الذي نشعر به حينها، وهنا ولا أخفيكم بعدم معرفتي المسبقة بمعنى الشعر إتيمولوجياً ولا أعرف بالمقابل لماذا سمي الشاعر شاعراً بالفرنسية، لكن ما أعرفه الآن بعد قراءتي لمقاطع كتبت عن ملارميه، هي أن الشغل الشاغل للشاعر هو محاولته الدائمة ومن ثم المضنية في تسمية الأشياء بمسمياتها، فالشاعر لا يطابق الأشياء والكلمات، لكنه يشتغل على عمق المعنى في شكله الأكثر أصالة، وكأنه يحاول عبر هذا العمل البحث عن أصل الكلمة والشيء، أو بالأحرى يحاول البحث عن العلاقة الأصلية بين الكلمات والأشياء. الشاعر الآن يمثل ممارسة التأنسن في حدودها القصوى، لكن درجة البحث عما هو إنساني تتجاوز أي معنى ممكن، إن لم يكن هو الوجود أساساً، وبالتالي أرجع إلى عبارة «مخيال» التي تهمني كثيراً هنا، لكن عن أي مخيال أتحدث، لن أشرح ما هو الخيال لكن سأذهب رأساً إلى ما أقصده من كلمة «مخيال»، لأعقد مقارنة أولية بين ما أسميه «الصورة والحرف»؛ فهناك ثقافتان في رأيي: ثقافة للصورة وأخرى للحرف، وأرتأي تصنيف الثقافة العربية الإسلامية في خانة ثقافة «الحرف» الذي اعتمده في ترجمة معنى «المخيال» المشبع بـ»الصورة»، لأقول إن الخيال ممارسة طارئة للغاية على مستوى الزمن، هذا غير أنها شديدة الكثافة، وبالتالي فهي ذاهبة في اتجاه المستقبل غير المقصور على مفهوم الزمن في حمولته الفينومينولوجية، لكن المنفتحة على فيزياء الكوانتوم أساساً هنا (الفضاء والطبيعة)، هذا «الإنوجاد» داخل الفضاء الإنساني الثقافي تلزمه قطيعة على مستوى ثلاثي، أو ما أسميه بالنقد الثلاثي، الذي سيمكن من ممارسة النقد في كنف الإبداع بشكل أكثر حرية وجذرية في رفضه الأولي للانتماء إلى شكل معين جاهز، أو إلى مرجع أحادي لا يؤمن بالتعدد في شموليته الإنسانية ولا يؤمن بالإبداع كمعنى يصبو إليه أي إنسان حر، لكن فقط إلى ما يجعل الإنسان مفككاً للاستلاب، معرفياً كان أم إنسانياً ملتصقاً بالواقع عبر الشعر، فالوظيفة ما بعد الوجودية للشعر هي تفكيك الأنساق السالبة للوجود داخل الموجود -الإنسان- عبر مزج البنى الفكرية للإنسان خارج الثنائيات الاستلابية السالبة، أو الأحادية الشكل بتعدد اختزالي لمعنى التعددية، التي تؤسس لمبدأ كارثة القطيعة، كما أسميها وليس إلى ما يسميه بعض المثقفين القطيعة الكارثية! فالكارثي في الأمر هو ما يسميه حسن المنيعي بالمثقف العقلاني المستلب، الذي ينبري إلى الانتقاد لكنه يرفض الإبداع البتة، وهذه دوغمائية في رأيي تقتل حرية الفكر الذي ننسى أنه أيضاً يرمي إلى الإبداع بروح نقدية !
حتى نبقى في العلاقة الجدلية بين الشعر والقطيعة في الانعتاق من الاستلاب أو ما يسميه الفيلسوف ريشارد بورجوا بـ»الحرية الحرة»؛ فالمدخل المنهجي لشعرية القطيعة هو القطع مع النزعة العلموية للعلوم الإنسانية التي تتوجس من «الخيال» وتحاول تصنيفه وخندقته، إضافة إلى نقد مفهوم «الخيال» كما نفهمه داخل ممارستنا العلمية والثقافية، وذلك لن يتأتى إلا إذا باعدنا بين مفهومي «الفهم» و»التأويل»، فالأول مرتبط عند الغرب بمفهوم آخر هو «المعنى» كظاهرة إنسانية، والثاني مرتبط بالحرف «القرآني»، وهنا أرجع إلى «المخيال» في علاقته بالصورة والحرف، لأقول أنه بعيداً عن مفاهيم كالوعي واللاوعي التي تم إنزالها بشكل ميكانيكي من ثقافتها الأم وبلورتها بشكل اتوماتيكي متعسف داخل ثقافة غريبة عن الغرب، لم تخدم لا تلك المفاهيم ولم تجعل منها – أعتقد- ذات فاعلية كبيرة على مستوى «الفهم»، لكن بالمقابل أبقى متشككاً حيال إمكانية قيام شيء ذي قيمة بعد كل من ابن خلدون وابن رشد في ميدان الفلسفة أقصد – إلا في اعتقادي ما قام به الخطيبي والعروي والجابري أيضا وهنا أخص بالذكر المغرب- إلا أنه لازالت هناك إمكانيات أخرى غير هذا وذاك، ومن ضمنها الاشتغال في حقل «المخيال»، الذي سيجمع كثيراً من الحقول المعرفية التي لن أتطرق لها الآن، وإنما سأعود إلى الشعر الذي يساهم في عملية بناء «المخيال الجمعي» لثقافة ما، وبالتالي في إعادة بناء مفهوم الهوية المفقود الآن إما بسبب قلة الحرية والاستيلاب بسبب التوجس ولا أقول ضعف الخيال، والإحساس بعقدة النقص إزاء الآخر حتى لو كان أقل شأناً؛ فالشعر كترميم قائم الذات بين ما يسميه نيتشه الفنون التشكيلية والفنون الشعرية، هو فن ابوليني وديونيزي في الوقت ذاته؛ أي هو ذلك التواشج ضد كل استيلاب، أو ثنائيات أو عدميات أو أصوليات…
*كاتب من المغرب
وليد المنجرا